تحوّل حجاب مهسا أميني الفتاة التي لقيت حتفها بعد توقيفها من قبل عناصر أمن في العاصمة الإيرانية طهران، إلى رمز لموجة احتجاجات شعبية على السلطات. أظهرت الشعارات وطرق التظاهر، مثل خلع نساء لحجاباتهن، أو قصّ شعرهن، وكذلك رسوم فناني الكاريكاتير، التي أقامت ثنائيات متناقضة بين لحى رجال الدين أو عمائمهم، من جهة وحجاب أميني القاتل، من جهة أخرى.
أثارت الواقعة، سواء في بلدان المسلمين، أو حيث تقيم أقلّيات مسلمة في بقاع الأرض، خصوصا في أوروبا، الجدل الذي لم يتوقف حول ملابس المسلمين، والذي تشتبك فيه السياسة بالأيديولوجيا، ويحفل كمجال صراع سياسي، بمفارقات مميتة وتناقضات فاقعة.
يتحدث ديزموند موريس، في كتابه «مراقبة الإنسان» عن ثلاث وظائف بشرية للثياب: الراحة والحشمة والعرض. استخدمت الثياب لحماية الجسد البشري من المناخات القاسية، كالحرّ والبرد، كما استخدمت لإخفاء إشارات الجسد البشري الجنسية، وللإعلان عن طبيعة لابسها السياسية والاجتماعية والدينية. رغم الاختلافات الثقافية والجغرافية فإن هذه الوظائف الثلاث بقيت نفسها، لكن حدّة ظهورها تختلف عبر الثقافات والجغرافيات، وتزداد حدّة في أجواء الصراعات.
حول مسألة الاحتشام يقول موريس، إنه «كلما كانت الحاجة لمناهضة الإشارات الجنسية أعلى، كانت تغطية الجسد بأكمله منتشرة» وبناء على هذه الملاحظة يستنتج أن «الأمثلة الأكثر تطرفا موجودة في البلدان العربية، فليس الجسد مغطى حسب، بل كذلك شكله»!
اقتصاد مزدهر: تنانير قصيرة!
يحلل موريس ظاهرة، يعتبرها غامضة، تكشف علاقة الأزياء بالاقتصاد عبر متابعة أطوال تنانير النساء في أوروبا خلال القرن الماضي، ليكتشف أنه منذ الحرب العالمية الأولى، كانت هناك رابطة بين فترات الازدهار والركود، وبينما يتوقع المرء أن تطول الثياب في فترات الازدهار، حيث تكلف المواد أكثر فإن الحقيقة هي العكس، بحيث ترتفع التنانير مع ارتفاع أسعار البورصة! يحتاج هذا المثال حفرا أكثر من تحليل موريس بالاعتماد على علوم أخرى، مثل علم النفس الاجتماعي، حيث يمكن الحديث عن صعود الرغبات الجنسية في فترات الازدهار الاقتصادي، وهو يشبه، لكن من الناحية المناقضة، تكاثر الزيجات والعلاقات العاطفية في فترات الحروب، حين تحتاج المجتمعات لتعويض قتلاها بسرعة.
معلوم أن تغيّرا تدريجيا طرأ على نظرة الثقافة الغربية للمناطق التي يفرض القانون، حجبها، ورغم تقبّل هذه الثقافة للعري التام أو المختصر، خصوصا في ظروف معينة، كالأفلام الجنسية، وأماكن اجتماع العراة، فإن وجود حواجز قانونية أو اجتماعية أو عرفية، ما زالت موجودة حتى الآن في طقوس مثل، الإلزام بـ»زيّ محدد» حيث تمنع مطاعم أو مرافق عامة دخول الرجال الذين لا يرتدون الكرافتات أو الملابس الرسمية، أو تطرد شركات طيران، أو محال معينة، النساء اللاتي يرتدين البنطال القصير «الشورت» أو لباس البحر.
يتصل انتهاك المرأة (والمجتمع من ورائها) عبر استخدام عدم التحجّب كأداة للإقصاء من الحيّز العام، المحتكر من قبل سلطة أيديولوجية دينية مهيمنة، في الجذر، مع إقصائها لكونها محجبة في حيّز عام محتكر من قبل سلطة أيديولوجية «علمانية» مهيمنة.
التحجيب القسري باعتباره انتهاكا
كانت نوعية الثياب، في إنكلترا القرن الرابع عشر، مسألة قانونية تفرضها السلطات بالقوة، وكان البرلمان يصرف وقتا طويلا على إصدار تشريعات حول المسموح والممنوع لكل طبقة اجتماعية، وكانت هناك عقوبات على من يتجاوزون حدودهم الاجتماعية. القانون الوحيد الذي بقي من آلاف التشريعات الإنكليزية تلك هو «الظهور الفاحش» في الأماكن العامة. ما زلنا نشهد تطبيقا شديدا لوظيفة العرض، وهي تعتبر أقدم الوظائف البشرية للثياب، وأكثرها خطورة، لكون السلطات المهيمنة تدافع عنها بشدة دفاعا عن رموز السلطة، كالألبسة العسكرية والميداليات، أو الألبسة التي يعرف بها الملوك والأمراء (انتحال صفة رجل سلطة قضية يعاقب عليها بشدة في دول عديدة).
تبدو وظيفتا العرض والاحتشام، في المسألة الإيرانية (والإسلامية عموما) متعاضدتين، كما تتجمع فيهما بؤر اشتباك مظاهر السلطة والاجتماع والأيديولوجيا. المفارقة في اجتماع هذه العناصر أن سلطة الحجب لدى الجهة التي قامت باعتقال الفتاة، والتي تحمل عنوان «شرطة الأخلاق» (الذي يذكّر برواية «1984» الشهيرة لجورج أورويل) تتحوّل إلى سلطة انتهاك، ليس لجسد المرأة الموقوفة فقط، بل لحياتها أيضا التي فقدتها. يحلل فرانز فانون، في «الجزائر تلقي الحجاب» الجانب الآخر للانتهاك حيث تجتمع الدوافع السياسية والجنسية لفكرة نزع حجاب الجزائريات، ضمن خطاب تحرر علمويّ وفوقي يهدف لخرق المجتمع وإخضاعه وتفكيكه وإشعاره دونيته، عبر مرافعات الدفاع عن المرأة الجزائرية «التي حولها الرجل إلى شيء عديم القيمة والحركة والفعالية».
واجه السوريون أمرا مشابها في 29 أيلول/سبتمبر 1981، حين أمر رفعت الأسد، عمّ رئيس النظام الحالي، المظليات التابعات لقواته في «سرايا الدفاع» بنزع الحجاب عن رؤوس النساء في شوارع دمشق. كان ذلك إعلانا لانتهاك المجتمع وإخضاعه وإشعاره دونيته.
المثقف يحتاج زوجة بلهاء
يتصل انتهاك المرأة (والمجتمع من ورائها) عبر استخدام عدم التحجّب كأداة للإقصاء من الحيّز العام، المحتكر من قبل سلطة أيديولوجية دينية مهيمنة، في الجذر، مع إقصائها لكونها محجبة في حيّز عام محتكر من قبل سلطة أيديولوجية «علمانية» مهيمنة. ليس غريبا، والحالة هذه، أن تكون العلاقة بين النظامين القائمين في إيران وسوريا، «استراتيجية» رغم الأصول الأيديولوجية المتناحرة. ليس غريبا أيضا، أن تكون أكثر الجهات مناهضة للمسلمين، والعاملة على إقصاء المحجبات من الفضاء العام، من اليمين المتطرّف، أكثرها غراما بالنظام السوري وطريقة تعامله مع مواطنيه! من المغري، في الحديث عن علاقة الأيديولوجيات الشمولية بالنساء، تذكر علمين رئيسيين في هذا المجال، ستالين، الذي انتحرت زوجته، وهتلر، الذي انتحرت حبيبته الأولى غيلي راوبال، وشريكته، أيفا براون، التي حاولت الانتحار في 1932، ثم 1935، وأخيرا عام 1945، حين انتحر معها هتلر. اشترك الزعيمان باحتقارهما للمرأة الذكية أو المثقفة، يقول ستالين: امرأة لديها أفكار مثل سمكة لديها أفكار: جلد وعظام» أما هتلر فقال: «على الرجل العالي الثقافة الاقتران بامرأة بلهاء وبدائية».
ينتبه فانون، طبعا، إلى مسار آخر للتحرّر الوطني والنسوي معاً، حين يتحدث عن تحرر جسد المرأة التي تخلع الحجاب وتلبس ثيابا عصريّة لتخدع جنود الاستعمار وتضع قنبلة في مقهى، وبذلك يشير إلى العلاقة الجدليّة المعقدة التي تنتظم مسارات التحرّر، حين تتصّلب النساء، والمجتمع، لمنع الاختراق والكشف والإهانة، وحين يتحرّرن حين تتغير الظروف الاجتماعية والسياسية. تتفاعل، بهذا المعنى، حرّية المرأة وطرق نضال المجتمع على التسلّط، بأشكال معقّدة لا تنتظم بالضرورة في إطار واحد، فمجتمع دمشق نفسه الذي كانت بعض نسائه رائدات في التحرر الثقافي والسياسي والاجتماعي، والذي قامت نخبه النسائية بالمشاركة السياسية والثقافية، هو المجتمع نفسه الذي انتفض على محاولة إهانته وإخضاعه وتكسيره عبر نزع الحجاب عن نسائه، وهو أمر فهم على حقيقته، كمحاولة لإظهار جبروت السلطة واحتقارها للمجتمع الذي تحكمه.
«القدس العربي»