لمزيد من الدقة، قد نقول أن جزءاً معتبراً من لقاء “القمة” بين أردوغان وبشار الأسد حدث حقاً، فكما هو معتاد تكون الخطوات التمهيدية للقاء من هذا النوع لها أهمية تعادل اللقاء ذاته. بل في بعض الأحيان يكون اللقاء بين “الرئيسين” تتويجاً بروتوكولياً للتفاهمات المنجزة قبل انعقاده، وضمن هذا النوع يندرج لقاء أردوغان بالأسد، بعد تصريح الأول “لمرتين خلال أسابيع قليلة” عن استعداده للقاء الأسد عندما تنجز مخابراتهما التفاهمات والترتيبات اللازمة.
التصريح الثاني، في براغ قبل يومين، تأتي أهميته من التأكيد على الأول الذي أثار ضجة في حينه، ولولا وجود أجواء مشجِّعة في المفاوضات التي يجريها مسؤولو المخابرات لاستبعد أردوغان اللقاء، ولو لممارسة نوع من الضغط على نظيره. ومن الملاحظ أن أردوغان ووزير خارجيته توليا منذ مدة الضخَّ الإعلامي الذي يشيع أجواء إيجابية عن العلاقة مع الأسد، وحتى إذا كانت الإيجابية مشروطة بتنازلات من الأخير فإنها سبقت تنازلاته بأن نفّذت أنقرة أول الشروط، وربما أهمها على الإطلاق، وهو الاعتراف بشرعية الأسد، والاعتراف تالياً بأحقية سيادته على جميع الأراضي السورية، بما فيها الواقعة حالياً تحت السيطرة أو النفوذ التركيين.
لا تتفع المراوغة في دحض هذا الاعتراف، الصريح وفق المعايير الديبلوماسية، ولا نفي المستجدات بالقول أن أنقرة واظبت خلال السنوات الماضية على التأكيد على وحدة الأراضي والسيادة السورية. ففيما سبق كانت الإشارة إلى الأسد إما سلبية أو منعدمة، وكان السياق يدل على عدم وجود مطامع تركية في الأراضي السورية، وعلى استعداد أنقرة لإعادة الأراضي التي تسيطر عليها في حال حدوث تغيير مناسب في دمشق، أو في حال الوصول إلى تسوية مُتَّفق عليها دولياً.
الآن صار التغيير المنشود تركياً خطوات من الأسد تطمئن أردوغان في قضيتين؛ الموضوع الكردي، وموضوع اللاجئين. في الموضوع الكردي، وبعد اليأس من الحصول على موافقة مزدوجة أمريكية-روسية على عملية تركية جديدة ضد قسد، يريد أردوغان أن يسيطر الأسد على مواقع قسد غير المشمولة بالمظلة الأمريكية، طالما أنه لا حيلة للطرفين إزاء تلك المدعومة أمريكياً. في سياق متصل، انعطافة أردوغان في اتجاه بشار لا تزعج واشنطن إذا كانت تتجهز للمغادرة، وهي في حال بقائها غير مكترثة بمصير قسد خارج خط النفوذ المرسوم بدقة مع موسكو.
في موضوع اللاجئين، حيث لا يكفّ أردوغان ووزير داخليته عن الترويج لعودة سريعة لمليون لاجئ سوري في تركيا، تحتاج أنقرة لموافقة الأسد، ومن خلفه موافقة موسكو، وإلا أصبح الحديث عن عودتهم مادة للسخرية وللنيل من أردوغان في موسمه الانتخابي القادم. يكفي أن يقوم سرب طائرات روسية بالإغارة لمرة واحدة على مساكن أولئك اللاجئين، الجاهزة والمسكونة أو التي قيد التجهيز، ليتم تقويض الفكرة التي تُروَّج كعودة طوعية آمنة. بل يكفي، بموافقة من موسكو، أن تستهدف مدفعية الأسد المساكن التي تقع ضمن مداها لتحقق الغاية ذاتها، ولو ردّ الجيش التركي بقوة وفعالية على مصادر النيران. ليس بلا دلالة أن قوات الأسد وحليفتها الروسية لم تقصف المساكن التي بنتها وتبنيها أنقرة في مناطق سيطرتها؛ المنطق يحتّم وجود تفاهم بين الجانبين يضعها خارج دائرة الاستهداف.
سيكون من السذاجة الاعتقاد أن الأسد، ومن خلفه وأمامه طهران وموسكو، سيكتفي باعتراف تركي بشرعيته وبمعابر تُفتح بين مناطق سيطرته ونظيرتها التي تحت السيطرة التركية، لتكون رئة ثانية لاقتصاده المتهالك على غرار تجارته مع مناطق قسد شرق الفرات. الطريف أن ما يبدو مطالب تركية الآن هو في صلب أهداف الأسد، وإن لم يكن في رأس أولوياته، فهو بعد الانتهاء من ابتزاز أنقرة بالقوات الكردية “والعكس أيضاً” لا يقلّ عن أنقرة توقاً إلى إخضاع خصمها الكردي، ومطالبه في المفاوضات مع قسد أفضل دليل على ذلك.
العائد المجزي الذي ينتظره الأسد لقاء قسد هي الفصائل المدعومة من أنقرة، وإذا كانت الصفقة الكبرى التامة مستحيلة الآن، بسبب وجود اللاعب الأمريكي، فهذا لا يمنع الأسد من المطالبة بمقايضات مرحلية أصغر كتلك التي شهدناها ضمن التفاهمات الروسية-التركية وانتهت مع الإجهاز خطوة تلو الأخرى على ما كان يُسمى مناطق خفض التصعيد. وجه الاختلاف عما مضى، والذي كأنه ينتمي إلى اللامعقول، أن أنقرة تطالب بسيطرة فعلية للأسد على مناطق قسد خارج المظلة الأمريكية، والثمن الذي يطالب به لقاء ذلك أن تتنازل أنقرة له عن أراض تسيطر عليها.
استئنافاً للامعقول، قد تستوعب أنقرة “في حال بقاء أردوغان” عدداً محدوداً من قيادي الفصائل التابعة لها، والسيناريو الذي يتم تداوله هو دمج بقية المقاتلين في الجيش التابع للأسد، بصرف النظر عن كون الذين يطرحون هذا التصور لا يذكرون الأسد صراحةً. الأخير، في مفاوضاته مع قسد، يطالب أيضاً بأن تصبح جزءاً من قواته، يتبع له من حيث تلقي الأوامر وتحديد مكان انتشاره ومهامه القتالية، لا كما تطالب قيادة قسد بأن تكون جزءاً له حيز واسع من الاستقلالية، مع البقاء في أماكن التواجد الحالية.
الدمج بين الشقين السابقين ليس حلماً أسدياً في الأصل، بل هو من ضمن تصورات متداولة تعيد دمج جميع الميليشيات فيما يسمّى القوات النظامية. خارج المسار الأممي المعطَّل، هذا هو تصور موسكو الذي تطرحه مترافقاً مع مطالبتها بإعادة المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، وهي تُظهر تساهلاً أكبر من الأخير بموافقتها على مبدأ بقاء الميليشيات في أماكنها مع تغيير تبعيتها ومركز قرارها.
بالطبع لن يكون الوصول إلى هذه الخاتمة قريباً، وإن كان أردوغان مسرعاً لأسباب داخلية انتخابية، وللأسباب ذاتها قد لا يبخل بالعديد من المفاجآت قبل حلول موعد الانتخابات في الصيف. لكن، بصرف النظر عن السرعة التي تسير بها المفاوضات بين مخابرات أردوغان وبشار، لا يخلو من عبرة ومرارة احتمالُ أن يلتقي مستقبلاً مقاتلو قسد ومقاتلو الفصائل التابعة لأنقرة كرفاق سلاح ضمن قوات الأسد، بل أن يكون هذا هو الاحتمال الوحيد للالتقاء بعد خوضهما بضراوة حرب الخاسرين.
“المدن”