يبدو أن الإمبريالية نجحت في ترك بصمتها على المعتمد الأدبي الروسي، بيد أن هذا لا يعني المطالبة بالكفّ عن قراءته. ما زالت أعمال الأدباء الروس الكبار خلال القرن التاسع عشر، من أمثال فيودور دوستويفسكي وليو تولستوي، موضع تقديرٍ وإجلالٍ كبيرين لدى الكثيرين في الغرب. فغالباً ما يبدو أن هؤلاء الكتّاب يبسطون أذرعهم نحو السماء ليتلمّسوا أعماق الإيمان والسلطة والظلم والإجحاف، ويتحرّوا الشمولية التي تنطوي عليها مواضيع كهذه. وعلى سبيل المثال، يشير الأديب البريطاني دي. اتش لورنس، إلى أن الأدب الروسي سبر أغوار «ظواهر الروح والتماعاتها لدى أشخاص عاديين تماماً». بيد أن الغزو الروسيّ لأوكرانيا لم يدفع البعض إلى التشكيك في القيمة التي تكتسيها قراءة هذه الأعمال حسب، وإنما في مدى أخلاقية هذا الفعل كذلك.
ففي الملحق الثقافي لصحيفة «تايمز» نافحت الكاتبة الأوكرانية أوكسانا زابوزكو، عن حجةٍ مفادها أن القراءات الغربية لكبار الأدباء الروس تجاهلت مواقفهم الإمبريالية، وتساهلت إزاء نسبيتهم الأخلاقية الصارخة وتعاطفهم مع مرتكبي الجرائم. كما أشارت الكاتبة إلى أن الأدب «يشترك بنسيجٍ واحدٍ مع المجتمع الذي يكتب لأجله وعنه» إذ تشكّل الكتب «شبكة التمويه» للدبابات الروسية التي تجتاح أوكرانيا.
في غضون ذلك، أشار الفيلسوف الأوكراني، فولوديمير يرمولينكو، في مجلة «فورين بوليسي» إلى أن الأعمال الكلاسيكية الروسية «كانت مترعةً بالخطاب الإمبريالي» و»القسوة» مشيراً إلى أن إقامة الصلة المباشرة بين الأدب الكلاسيكي والغزو العسكري الراهن ينطوي على شيءٍ من المبالغة، فالكتب التي استلهمها فلاديمير بوتين للقيام بهذا الغزو تفوق «آنا كارنينا» أو «المقامر» من حيث الباطنية والتطرّف. ومع ذلك، لا يجانب هؤلاء النقّاد الصواب تماماً.
تلقى أعمال الأدباء الروس الأكثر شعبيةً التقدير كونها تسرد تاريخ الأمراض الاجتماعية في البلاد، بيد أن ثمة أفكاراً مقلقة، بل خطرة، تظهر في منتجهم الأدبي أيضاً، وينطبق هذا الأمر بصورةٍ طبيعية على كبار الأدباء البريطانيين والأمريكيين وغيرهم. لكن القرّاء الذين يظهرون حساسيةً عاليةً تجاه الإمبريالية والإجحاف والتحيّز في الأعمال الغربية قد غضّوا الطرف عن هذه النواحي في الماضي حين تعلّق الأمر بالأدب الروسي. لنقل إنهم كانوا أقل اطلاعاً على مشاهد السهوب الأوكرانية المتموّجة مقارنةً بسعة إطلاعهم على الغرب الأمريكي، خلال القرن التاسع عشر.
لنتناول الشاعر الروسي الوطني ألكسندر بوشكين، على سبيل المثال، فهو من يدعوه الروس أحياناً بـ»nashevse- كل شيئنا» ما يعكس استخدامه الاستثنائي للغة الروسية فضلاً عن التزامه بالاصطفاف إلى جانب «الرجل الضعيف» في وجه السلطة القيصرية. أمضى بوشكين عدة سنوات في المنفى على خلفية الروح المناوئة للاستبداد التي انعكست في أعماله، الأمر الذي قوبل بحفاوةٍ كبيرةٍ من قبل الديسمبريين المشاركين في الانتفاضة ضد نيقولاي الأول عام 1825. مع ذلك، كتب بوشكين شعراً وطنياً تبجّح من خلاله بالعظمة الإمبريالية الروسية. وفي هذا الصدد، يستحضر يرمولينكو قصيدته: «إلى المتجنّين على روسيا» التي كتبها رداً على الثورة البولندية ضد الحكم القيصري ما بين عامي 1830 و1831، شاجباً من خلالها العدوانية الأوروبية «لماذا تتوعدون روسيا بالويل والثبور؟» ومهدّداً كل من تسوّل له نفسه غزو روسيا، بأن يلقى مصرعه بمجرّد أن تطأ قدمه التراب الروسيّ. ولعلّها العواطف ذاتها التي يعكسها خطاب الرئيس بوتين اليوم. علاوةً على ذلك، تتمظهر النزعة الإمبريالية لدى بوشكين أيضاً في قصيدة «أسير القوقاز» التي تتحدّث عن ضابطٍ روسيٍّ شاب أُسِرَ في القوقاز، ومن ثم أنقذته امرأةٌ شركسية. وفي ختام القصيدة، يحتفي الراوي بخضوع المنطقة للهيمنة الروسية تحت طائلة العنف «كل شيء يخضع للسيف الروسي المسلط». وبالتالي، يبدو أن نقد بوشكين للنفوذ القيصري يتوقف عند تخوم الممارسات الروسية الإمبريالية خارج الحدود. ولعلّ الأمر ذاته ينطبق على دوستويفسكي، إذ تسبر أعماله أغوار التفكير الإجرامي وتضع الأعراف الأخلاقية على طاولة الشك والمساءلة، غير أنها مقيدةٌ بالأفكار الكولونيالية أيضاً.
ينطوي عمله «يوميات كاتب» على أمثلةٍ مشينةٍ في هذا المقام. فالعمل، الذي ألّفه دوستويفسكي في أواخر حياته، عابرٌ للأجناس الأدبية يجمع فيه بين مقاطع روائية وغير روائية ويظهر حماسه للفتح الروسي لآسيا الوسطى، الذي كان جارياً في تلك الآونة. وفي مقطع ألّفه خلال شهر يناير/ كانون الثاني عام 1881، هلّل للنصر الذي أحرزه الجيش الروسي في جيوك تيب (في تركمانستان الحالية) وهي معركة دموية أرست دعائم الهيمنة الإمبراطورية في المنطقة. وكما تشير إليه أولغا مايوروفا، من جامعة ميشيغان، يعرب دوستويفسكي في هذا الكتاب عن أمله بمواصلة الروس لفتوحاتهم في آسيا، فلعلّ الشعوب على «طول الطريق إلى الهند» قد «تقتنع بمنعة وقوة القيصر الأبيض». وغالباً ما كشف دوستويفسكي عن شوفينيته الروسية من خلال تعابير روحانية بعيدةٍ عن أي مصطلحات عسكرية، فهو تحوّل إلى مسيحيٍّ أرثوذكسيٍّ ورعٍ في أعقاب نفيه الطويل إلى سيبريا، خلال خمسينيات القرن التاسع عشر على خلفية صلاته برابطة بتراشيفسكي للمفكرين الراديكاليين. ووفقاً لنمط تفكيره، كان أولئك الذين رفضوا الإله الأرثوذكسي، مثل الكاثوليكيين واليهود، جديرين باللعنة والحرمان الكنسي. وقد طفت عدائية دوستويفسكي تجاه الكاثوليك واليهود على السطح في روايته «الأبله» إذ يصف بطل الرواية، الأمير ميتشكين، الكاثوليكية بالبلاء «اللامسيحي» الذي ينبغي على روسيا أن تنزل به الهزيمة، ويؤكد على أن «مسيحنا يجب أن يقف كسدٍّ منيعٍ في وجه الغرب».
ينبغي علينا عدم التخلّي عن الأعمال الأدبية المؤثرة لأسبابٍ سياسية، وإنما لا بد لنا من مقاربتها من منظورٍ جديدٍ، فضلاً عن الإقرار بالأجزاء الإشكالية من تلك الأعمال دون اختزالها إلى تلك الأجزاء وحدها. ما يعني باختصار المزيد من الإقبال على قراءة هذه الأعمال لا الابتعاد عنها.
الخريطة والسيادة على الإقليم
يعتقد كاتب هذه السطور أنه قد قيض لروسيا أن تكون في طليعة ثورةٍ روحية من حيث كونها قوة مسيحانية ترمي إلى قهر الانحطاط الغربي وتوحيد الجنس البشري تحت السلطان الإلهي. ومن جديد، في ظل تبجح بوتين بمقارعته للغرب، يبدو هذا مألوفاً على نحوٍ يثير الاشمئزاز. وقد نظر القرّاء في الماضي إلى دوستويفسكي بوصفه مرشداً سامياً لاستكناه أحلك الزوايا ظلمةً وسريّةً في الوجدان الإنساني. أما اليوم، فقد استحال مع غيره من الكتّاب الروس إلى نبراسٍ هادٍ إلى الطريق نحو جبهة دونباس.
وفي حين أنه من غير المعقول أن ننحي باللائمة على أدباء رحلوا منذ مدةٍ طويلةٍ حيال ارتكابات بوتين، إلا أن عدداً من أعمالهم عكس، بل غذّى، الأفكار المرضية المتواترة التي عادت لتنفجر في صيغةٍ عنيفة، لكن ليس هذا كل ما تعنيه أو تقوله هذه الكتب. فلنأخذ، على سبيل المثال، أعمال تولستوي، الذي يعده الكثيرون أعظم روائيي روسيا والعالم. نعم، هذه الأعمال أيضاً مصابةٌ بلوثة الإمبريالية، بما فيها «الحرب والسلم» التي يؤرّخ فيها لحقبة الغزو النابوليوني لروسيا عام 1812. فوفقاً لإيوا تومسون، من جامعة رايس، يهمل تولستوي في روايته هذه وجهات نظر الشعوب المستعمَرة في أوروبا الشرقيّة، ولاسيما البولنديين، الذين غالباً ما ساندوا نابوليون ضدّ حكّامهم الروس.
بيد أن تولستوي يجهر بمناوئته للنزعة العسكرية والعنف بمختلف أشكاله في أعمالٍ أخرى، ففي روايته البديعة «الحاج مراد» يسرد حكاية مقاتلٍ قوقازي يسعى إلى إنقاذ عائلته، في خضمّ الاجتياح الروسيّ، وهو يبدي تعاطفه معه حيال البلوى التي يعيشها كما يستنكر العدوان القيصري. وبينما يتبدّى في أعمال تولستوي مزيجٌ من الوطنية والسلميّة، يتبيّن لنا أن الغموض سمةٌ ملازمةٌ للأدب كوسيلةٍ للتعبير، فنادراً ما يسعنا تبسيط الكتب العظيمة واختزالها إلى معنىً أو مغزىً واحدٍ. إذ تعرّي أفضل الأعمال الأدبية العيوب الإنسانية وتشرّحها، سواءً أكانت عيوب الشخصيات أو الراوي أو المؤلف. وهو ما ينطبق على حكايات بوشكين العاطفية، من قبيل «يوجين أونجين» و»ملكة البستوني» كما أنه يسري على دوستويفسكي في ما يخص جميع آرائه البغيضة أيضاً. ويصف الفيلسوف الروسي ميخائيل باختين، روايات دويستويفسكي، بأنها «متعددة الأصوات» ما يعني أن شخصياته تحمل آراءً متباينة، بل متصارعة في الغالب. وبينما تسمع أصداء الآراء العالمية المسيحانية للكاتب من خلال أعماله، إلا أنه غالباً ما يوردها على ألسنة الأرذال والمهمّشين والحمقى. فهو بذلك، يعرّض أفكاره «للاختبار الأكثر صرامةً» على حدّ تعبير سارة يونغ من كلية لندن الجامعية. وإننا لا نشجّع القارئ على الإعجاب بفلسفة دوستويفسكي بقدر ما ندعوه إلى تحدّيها، لكن إن تجاهل القارئ أعماله فستغدو هذه الدعوة بلا طائل. ينبغي على أولئك الذين يشمئزون من الغزو الروسي لأوكرانيا أن لا يتخلّوا عمّا لديهم من كتب الأدب الكلاسيكي الروسي، فهي تنطوي على قدرٍ وافرٍ من الجمال والحكمة. وبالتالي، فإن إلقاءها بعيداً أشبه ما يكون بجرح ذاتي النشأة. ولذلك، حريٌّ بالقرّاء أن يعودوا إلى مطالعتها بعينٍ أكثر نقديةً وحساسية متجددةٍ إزاء المشاعر الإمبريالية. فهذا هو أفضل تجسيد لما يعنيه الباحثون حين يشيرون، كما يفعلون في الوقت الراهن، إلى «تحرير المعتمد الأدبي من ربق الاستعمار».
وبالتالي ينبغي علينا عدم التخلّي عن الأعمال الأدبية المؤثرة لأسبابٍ سياسية، وإنما لا بد لنا من مقاربتها من منظورٍ جديدٍ، فضلاً عن الإقرار بالأجزاء الإشكالية من تلك الأعمال دون اختزالها إلى تلك الأجزاء وحدها. ما يعني باختصار المزيد من الإقبال على قراءة هذه الأعمال لا الابتعاد عنها.
“القدس العربي”