نشرت الـ «القدس العربي» خبراً أشار إلى عريضة نشرتها جريدة «اللوموند» الفرنسية مؤخراً، تضمن تحذيراً أطلقه ثلاثة مثقفين من الجزائر والمغرب وتونس، حول أزمة التعايش بين أجيال المنطقة المغاربية.
نَشْرُ هذا الخبر، وبهذه الطريقة أثار أسئلة كبيرة، وفي أوساط ثقافية متعددة، لأنّه يكتسب طابعاً جغرافياً، مثلما يخصّ أزمات نسقية تُخفي ما تحتها، وكان ينبغي أن يكون أكثر شمولاً، في التعاطي مع مفهوم «العزل الثقافي» ليس بين أجيال المغاربة، بل بين الأجيال العربية كلّها، التي تتجاوز عقدها موضوع الخلاف السياسي بين الدول، إلى خلافات أعمق، يتعلّق بعضها بالهوية واللغة، وبعضها الآخر بالغلّو والتوهم وتعالقاتها الدينية الأيديولوجية والطائفية. ولا أحسبُ أن أجيالنا الثقافية تعاني الآن من مشكلات الاحتباس الحراري، أكثر من معاناتها من الاحتباس السياسي..
العريضة التي تشبه النداء، كما وصفه المحرر، تضعنا أيضا أمام عقدة «أقلمة» الحديث عن الأزمات والصراعات، والذهاب إلى حصر الخلاف بـ«التشيؤ السياسي» وهو خلافٌ عابر، ورهين بسياسات الحكومات ومصالحها وأمزجتها، دون التطرّق إلى ما يتعلّق بـ«الهمِّ العربي» العام، وما تعانيه أجيال عديدة من اغترابٍ وتشظٍ، ومن انكسارات رمزية تشبه إلى حدٍّ ما، تلك التي حدثت بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، حيث انكشف «الغرور العربي» على أوهام ومتاهات، عاش معها الجيل المهزوم، هموم الضياع والاستلاب القومي، مقابل صعود خطاب مازوخي، عاش رهاباته الداخلية، بنوعٍ من جلد الذات، وكأنه يتلذذ به تعويضاً إيهامياً لمواجهة المحنة، إذ تحولت الهزيمة العسكرية إلى هزيمة نفسية وثقافية، وأنّ الانتهازية السياسية العربية وجدت – وحدها- ما يبرر هزيمتها، عبر نوعٍ من الاحتيال، وربما اللجوء إلى اصطناع انقلابات عسكرية هنا أو هناك لتسويغ فعل «استعادة التوازن» والهيبة الضائعة.
الهزيمة الآن، تشبه المتاهة، وقد تعيش مع بعض أعراض الهزيمة القديمة، فالربيع العربي هو وجه آخر لتلك الهزيمة، إذ أفسد حلمَ الناس بالتغيير، وبالحرية، ومشروع الدولة المدنية، مثلما أسهم في صعود الجماعات السلفية، وإرهابها الثقافي والعُصابي، وصولاً إلى تبديل الوجوه الانقلابية العسكرية، بأقنعة انقلابية أيديولوجية، وبما يفرض نوعا من «التوحش» والسيطرة التي حاولت جرِّ التاريخ من متحفه إلى الشارع العمومي، وفرض خطابٍ لا يقلُّ رعباً عن خطاباتِ الحكومات القديمة، المتعالية، والفاسدة، التي كانت ترى في صناعة الثقافة، وكأنها صناعة مكروهة، قد تشبه «ملابس البحر» التي تدخل في الممنوع، أكثر من دخولها في المُباح..
حَصْرُ المشكلة الثقافية بـ»جغرافيا محددة» تجاوزٌ على المشكلة الكبرى، أو ربما إخضاعها إلى قراءة ضيقة الأفق، عبر اصطناع فجوات خطيرة في «الديموغرافيا الثقافية العربية» وكأن كتّاب النداء/ العريضة، وهم مثقفون وأكاديميون، يؤكدون أنّ هناك غرباً عربيا، وشرقاً عربيا، تماهياً مع مقولة الشاعر الإنكليزي روديارد كيبلنغ الذي قال في نهاية القرن التاسع عشر: «إن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»>
الحاجة إلى التغيير ينبغي أن يكون أكثر شمولاً، وباتجاه العمل على صناعة «مجال عام» يناقش أزمة «الوجود العربي» ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، بعيداً عن « الجغرافيا» الضيقة، وفتح ملفات المخفي والمُهمل، وعبر صياغة أسئلة جديدة تتناسب وطبيعة ما هو مأزوم ومعقد.
الخطر الجغرافي في المنطقة المغاربية، هو خطر سياسي، لكنه في الجوهر خطر ثقافي، والصراع بين بعض دوله، يكشف عن علاقة الرعب الجغرافي بالرعب السياسي وانعكاساته على فضاءات الحوار الثقافي، غافلاً، أو متجاوزاً خطر العلاقة مع الآخر العولمي، الذي ما زال ينظر إلى جغرافيا الجنوب بقطع النظر عن «فرانكفونيته» على أنها خارج سياق القياس الأوروبي، ورهانات الحداثة، لاسيما أن ما يحدث اليوم بعد الحرب الأوكرانية الروسية بدأ يكشف عن ذلك القياس، وعن النزعة المتعالية لأوروبا، التي ترى في الروس مجموعة من الفلاحين الذين كتب عنهم ليو تولستوي، وأن أرثوذوكسيتهم الراديكالية تجعلهم أقل تحررا على مستوى تداولية مفاهيم الإصلاح الديني والثقافي، أو على مستوى التعاطي مع فرض لعبة القطبية على الغرب الأمريكي والأوروبي..
هذا التوصيف يتطلب قراءة عميقة، وربما نقداً عميقاً، وربما حديث الحاجة إلى التواصل، وإلى فاعلية «المجال العام» قرين بالحاجة إلى مقاربات جديدة، تستدعي الكثير من الجدل، ومن الواقعية النقدية، لاسيما في سياق الانفتاح على أفكار يمكن أن تُعنى بنقد المشروع الثقافي العربي، وبما يُسهم بتخفيف غلواء العزلة، لأن الأجيال العربية كلها تعاني من مظاهر الرعب السياسي، على مستوى تأزيم «الجغرافيا الساخنة» أو على مستوى قراءة سرديات التاريخ المأزوم، ومستوى العقد الطائفية، و«العُقد الشعبوية» و«هروبات اللجوء» وصولا إلى مقاربة العلاقة الأكثر رعبا مع الآخر المحتل، والمهيمن، الذي جعل من الجغرافيا محاصرة بعسكرات صعبة، وصراعات أهلية، وحروب محتملة، وهذا ما يعني، أن التمزّق الذي يعاني منه المغاربة، يناظره شرقٌ أكثر تمزقاً، وأكثر شعبوية، لاسيما في بلدان لها عمق ثقافي في التاريخ العربي مثل العراق وسوريا ولبنان..
الحاجة إلى التغيير ينبغي أن يكون أكثر شمولاً، وباتجاه العمل على صناعة «مجال عام» يناقش أزمة «الوجود العربي» ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، بعيداً عن « الجغرافيا» الضيقة، وفتح ملفات المخفي والمُهمل، وعبر صياغة أسئلة جديدة تتناسب وطبيعة ما هو مأزوم ومعقد، لاسيما وأننا نملك إرثاُ فاعلاً ورائداً في الخطاب النقدي، وأكثر رواده كانوا من المثقفين المغاربة أنفسهم، مثل محمد عابد الجابري ومحمد أركون وهشام جعيط وعبد الله العروي وغيرهم، ما يعني إمكانية تحويل هذا النداء/ العريضة، وبقطع النظر عن الجهة المُرسَل إليها، إلى أن يكون نداءً عربياً، يُعيد النظر بأسئلة النقد ذاتها، لمواجهة «الفشل الحداثي والحضاري» وظواهر العنف والتطرف والكراهية، والعمل على «مأسسة التعاطي النقدي مع أزمات الخطاب السياسي والخطاب الثقافي، عبر قنوات ومنصات، وحتى عبر مؤسسات تكفل آليات تأطير جهود الفاعلين في المؤسسات الثقافية والأكاديمية وحتى المدنية، وباتجاه صناعة رأي ثقافي عام، ضاغط وفاعل، وله القدرة على مواجهة الغلو السياسي، والغلو العُصابي، وحتى الغلو الطائفي، والغلو الأمني الذي ما زالت تمارسه العديد من المؤسسات العميقة في مناطق «الشرق العربي والغرب العربي».
كاتب عراقي
“القدس العربي”