قد يكون النسيان لعبة، أو حالة من التحايل يقوم بها العقل لتجاوز بعض من الذكريات المؤلمة، أو التي تسبب حنيناً إلى حدث مضى ولن يعود ولا حتى تبعاته أو ظلاله، لكن أن يكون النسيان إجبارياً فالأمر يصبح أشبه بموت يُعلن عنه صاحبه كل لحظة في كل ما يفعله ويحياه.. (موت مُعلن) كما سبق وأن أطلق غابرييل ماركيز على إحدى أفضل رواياته. ماركيز نفسه الذي خطّت مخيلاه شخصيات لا تُنسى، أصابه الزهايمر، ونسيّ هو هذه الشخصيات التي لم ينسها كل مَن عرفها. هذه مفارقة فقط عن الرجل الذي كلما زاره الوحي وجده منشغلا بالكتابة، كما سبق وقال عن نفسه.
وعن أصحاب هذه الحالة يأتي العرض المسرحي المصري (إبقى افتكرني) الذي عُرض مؤخراً على ساحة مسرح الهناجر في دار الأوبرا المصرية.
العرض كتابة رشا عبد المنعم، وسهام عبد السلام. موسيقى هاني عبد الناصر. تصميم رقصات أحمد عبد الرازق. مدرب الرقصات محمد شبراوي، إضاءة محمد سكوندوا. مخرج منفذ أحمد مصطفى. سينوغرافيا وفكرة وإخراج محمد فوزي. والعرض من إنتاج مركز الهناجر للفنون، نتاج ورشة التمثيل بالدمى.
العرض المسرحي
على موسيقى بليغ حمدي لأغنية (حاول تفتكرني) لعبد الحليم حافظ يبدأ الممثلون في أداء راقص، وحيث تحمل وجوههم أقنعة لرجال ونساء عجائز. وبالطبع تتعارض حركات أجسادهم الراقصة وتجاعيد الأقنعة التي يرتدونها، لتتوالى بعد ذلك المقطوعات والأغنيات المختلفة، سواء مصرية أو غربية، وكلها من أزمنة ماضية، ليست بالقريبة في أي حال من الأحوال. يحدث هذا الأداء الاستعراضي فوق خشبة المسرح، الذي يواجهه رجل بالمعاش يكتب مذكراته حتى لا ينسى ـ دمية بالحجم الطبيعي يقوم بتحريكها شخصان ـ وكلب مرافق له على الدوام ــ دمية أخرى يحركها أحد الأشخاص ـ يبدو الرجل وكأنه يجلس في مكتبه، ويستعد لرحلته الشهرية إلى مكتب البريد، حتى يحصل على راتبه التقاعدي (المَعَاش) ويبدو أن هناك طريقا وزوج وزوجته يتشاجران مع الرجل. ليتنحى العجوز ـ الدمية ـ جانباً مُفسحاً الطريق لحكايتهما، التي لا تتعدى الشجارات الزوجية المعهودة، خاصة وهما في هذه السن المتقدمة ـ الرجل وزوجته هنا يرتديان قناعاً لشخصيات متقدمة في السن ـ ومن خلال الرجل/الدمية نتعرف على باقي الشخصيات.. ممثلة وخادمتها في سن متقدم متقارب ـ ترتديان الأقنعة ـ حيث تحاول الممثلة أن تقوم باستعادة أدوارها السابقة على خشبة المسرح ـ فكرة الممثلة وذكرياتها تم استهلاكها ـ لتعود الممثلة شابة وقد تخلصت من قناع العجز هذا، لتؤدي مشهدا من مسرحية (سالومي).. لماذا سالومي؟ لا نعرف!
وشخصية أخرى لامرأة ـ دمية بالحجم الطبيعي ـ لا تنسى جُرم زوجها في أنه تزوج عليها، والرجل بدوره ـ دمية أيضاً ـ يجلس على كرسيه المتحرك، ويطلب منها أن تسامحه، وهنا تقوم ممثلة عجوز باستكمال الحوار أو التعليق عليه. ثم رجل في دار مسنين ــ يرتدي قناع عجوز ــ ينتظر زوجته التي رحلت عن دنياه منذ سنوات. ليأتي في النهاية طبيب شاب يوضح أن الجميع في دار للرعاية، وأنهم مصابون بـ(الزهايمر).. فلا الرجل وزوجته متزوجان بالأساس، وهكذا كلها من المفترض علاقات غير حقيقية، ولا تقوم إلا في خيال أصحابها فقط.
أقنعة ودُمى وتمثيل بالدُمى
العرض كما سبق وذُكر نتاج ورشة التمثيل بالدُمى، لكن المشكلة أن مخرج العرض أراد أن يحشد كل ما له علاقة بالدُمى، وأن يعود إلى فكرة (الفُرجة الشعبية) من خلال هذه الدُمى، وأن يناقش من خلالها حياة ومعاناة المصاب بالزهايمر. ولو اقتصر العرض على شخصية الرجل الدمية، الذي من خلاله نتعرف على باقي الشخصيات لهان الأمر، لكن الخلط بين شخصية أو أخرى كدُمية كاملة، ثم باقي الشخصيات بأقنعة تمثل عجائز ـ وهي أقنعة لا تخلو من بشاعة لا تعبّر عن كِبر السن ـ إضافة إلى وجود منصة (الأراجوز) الشهيرة والمعروفة في الأحياء الشعبية أيضاً. لماذا وما الفائدة؟ أيضاً لا أحد يعرف!
زهايمر أم ذكريات
هذا الخلط أيضاً يمتد إلى البناء الدرامي للشخصيات ودورها في العرض، فما علاقة امرأة تحاول استعادة ذكرياتها من خلال أدوار أدتها في السابق على خشبة المسرح ـ فكرة الممثلة أو الحالة الكلاشيه المعهودة ـ تعيش في دار للمسنين، وشخصيات أخرى تنسى حياتها السابقة تماماً، وتعيش حياة مُختلقة تطمئن إليها الآن في هذا المكان، حيث علاقات جديدة وحياة أخرى مُحتملة. بمعنى أن هناك مَن يحاول استعادة حياته السابقة، وبالتالي إعادة تجسيد ذكرياته، وهناك مَن ينسى تماماً كيف كان، وكيف أصبح. وبالطبع هناك فارق شاسع بين الحالتين.
طبيعة العرض المسرحي
ويؤكد فكرة قول كل شيء ومن خلال كل شيء من أدوات، أن يصبح مكان العرض المسرحي بدوره ممثلاً لمشكلة، أكثر من كونه من أهم عناصر العرض المسرحي، حيث الساحة المُتسعة وتوزيع أجزاء الديكور المختلفة وفق كل شخصية وحالتها وطبيعتها، ووجود الجمهور على جانبي العرض، يجعل من المتعذر متابعة الأحداث وتفاصيلها، أو رؤية هذه الشخصية أو تلك، رغم الجهد المبذول في خلق تكوينات تكتمل بفضل الإضاءة وأداء الممثلين، وكذا كل من مُحركي الدُمى التي تمثل الشخصيات بحجمها الطبيعي. الأمر يمتد أيضاً إلى التداخل بين شخصية تمثلها دُمية أو على الأقل شخصية ترتدي قناعاً مشوهاً أكثر من كونه وجهاً لمتقدم في العُمر، وشخصية حيّة تؤديها ممثلة. هذا الخلط ومدى جدواه يؤدي بدوره إلى تساؤل مشروع.. ما فائدة (الدُمى) في هذا العرض؟ وهل لو تم من خلال شخصيات طبيعية (ممثل) من خلال ماكياج مُحتمل ومُتقن هل سيختلف الأمر؟ ونظن أن الإجابة لن تكون في صالح عرض أطلق عليه أصحابه.. «إبقى افتكرني».
“القدس العربي”