يُشير فنسنت ب. ليتش إلى أن مشروع النقد الثقافي ينفتح على نسق كلي من الصناعات والظواهر والخطابات اللامعتمدة واللاجمالية، كما المساءلة الثقافية والتحليل المؤسساتي، ومن هنا يمكن القول إن السينما تُعاين عبر مقاربات متعددة، البعض منها يقترب من الجانب التقني الذي يختص بالعناصر الفنية، كما الاتجاهات والملامح التي ميزت هذا الفن تبعا للمدارس المتعددة، التي نتجت خلال هذين العقدين، غير أن بروز الدراسات الثقافية أتاح تكوينات جديدة من أجل فهم مختلف للسينما في بعديها: الوظيفي، وتقاطعها مع السياقات التي تشتبك معها؛ من منطلق وجود المرجعيات (الظواهر- الرؤى- الأفكار) التي تسعى السينما إلى نقلها من منطقة جفاف الواقع نحو فعل أو مجال التوتير القائم على تحفيز وعي المشاهد وحساسيته عبر إطلاق جملة من الأسئلة التي تكتنف هذا الفن، الذي يبدو قابلا لامتصاص الطرائق التعبيرية الأخرى كافة (الصورة- الكلمة- الموسيقى- الجسد) في وحدة واحدة تنهض على مُعطى شديدة الأهمية، ونعني التناغم في خلق المنظور (الإخراج) دون نفي أي فواعل تنهض على التقطيع أو ترتيب فعل السرد داخل الوحدة الفنية التي نراها مجسدة عبر الفيلم بوصفها إحدى أدوات البناء للفعل برمته.
يرتبط تاريخ السينما بالتعالق مع الدراسات الثقافية بتاريخ تطور الفيلم عينه، أو السينما بوصفها أداة من أدوات التعبير الفني، ومع أن بدايات السينما نهضت بداية على وظيفة تحقيق الترفيه مع استمرار هذا الجانب، غير أن تطور الوسيط (الرؤى) حفّز المخرجين إلى المزيد من محاولات استكشاف أو ابتكار روايات وقصص أكثر تعقيدا من أجل تضمينها في الشكل الذي يعد دائم التحول. ولعل ظهور الدراسات الثقافية بوصفها مجالا معرفيا في منتصف القرن العشرين، قد أسهم في تقديم إطارا للباحثين والمهتمين في السينما من أجل تحليل الطرائق التي تعكس من خلالها السينما الواقع ـ الوعي- علاوة على قدرتها في التأثير في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لقد استكشف دارسون مثل ريموند وليمز وستيوارت هال وريتشارد داير تقاطعات الثقافة والسلطة، عبر تفعيل محورية (التمثيل) في النصوص، أو طرائق التعبير، كما ساعدوا في تأسيس مشاريع بحثية يمكن للسينما من خلالها أن تتخذ مركزا متقدما، نظرا لما تتوفر عليه من جماهيرية، ناهيك عن توفر الإمكانيات التي تتصل بمقولة الصناعة، فالسينما تختلف عن باقي الأدوات التعبيرية الأخرى كونها تتميز بتوفر هامش تجاري أو عائد ربحي كبير، وهذا ما لا يتوفر بالسوية عينها لبعض طرائق التعبير التي تبقى بحاجة لدعم، بداعي غياب أي عوائد ربحية، ومن هنا تكمن خطورة السينما بوصفها أداة ثقافية يمكن أن توجه، أو أن تختطف تبعا لتوفر رأس المال، والعوامل الفنية التقنية، لكن الأهم الكوامن الثقافية.
يُنظر إلى فعل التمثيل على أنه استراتيجية تستهدف بناء نموذج لتصوير الجماعات المختلفة، أو الآخر في النصوص الثقافية كالأفلام، حيث ترى بيل هوكس أن «التمثيل سياسي دائما لأنه يتعلق دائما بالسلطة» ما يعني أن طرق التمثيل التي يلجأ إليها لن تكون بريئة من أي ترسبات سياسية، حيث يمكن أن يؤثر تمثيل النساء والأشخاص من ذوي البشرة الملونة، كما الأعراق الأخرى في السينما بشكل عميق على الطريقة التي يتم بها تصور هذه المجموعات ومعاملتها في المجتمع. لقد أدى ظهور كل من النظرية النسوية، وما بعد الكولونيالية والنظرية العرقية، ولاسيما في الستينيات، وما بعدها إلى اختبار الأدوات والأساليب التي تتمكن من خلالها السينما، أو الفيلم من تكريس الصور النمطية للجنس والعرق، والآخر بصورة عامة، حيث أشار كل من لورا مولفي وبيل هوكس إلى أن المنظورين: الذكوري والأبيض كانا مركزيين في بناء المعنى السينمائي بخصوص هذه الصيغ عبر إنتاجات وفيرة قد تحتاج إلى المزيد من المعالجة من لدن الدارس الثقافي، خاصة مع التطور الواضح للسينما بوصفها وسيطا مركزيا، بالتوازي مع ظهور التكنولوجيا الرقمية، وظهور منصات البث الرقمي، ما يعني بعث المزيد من الفعل الاستهلاكي لهذه الأداة الثقافية، وشيئا فشيئا تزداد منطقة تقاطعات السينما مع الثقافة، بل إنها لا شك أمست نشيطة في تشكيل هوياتنا بوعي مخاتل، وبصورة لا ندرك أثرها مباشرة.
ومن المفاهيم المحورية في الدراسات الثقافية مفهوم الهوية الثقافية، ذلك أن «الهوية ليست تصنيفا ثابتا، بل عملية لتحقيق الذات» حسبما يرى ستيوارت هال، فالهويات الثقافية تُبنى، ويُعاد إنتاجها باستمرار من خلال الممارسات الثقافية، وهكذا يمكن للسينما أن تلعب دورا كبيرا في هذا المجال.
تمثل الدراسات الثقافية مجالا من الاستقصاء الأكاديمي، الذي يسعى إلى فهم الطرق التي تتقاطع فيها الثقافة والمجتمع والسلطة، حيث تفيد من بعض التخصصات كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والنظرية الأدبية، علاوة على مجالات أخرى لتحليل الممارسات الثقافية ومعانيها، ومن هنا يمكن النظر إلى الدراسات الثقافية، وما يمكن أن ينتج عنها من توجهات، في ما يتعلق بالسينما، وتحليلها على أنه فضاء لا متناهٍ من الخطابات المتعارضة.
وتعد الهيمنة أحد المفاهيم المحورية في الدراسات الثقافية المتصلة بالسينما، بل إنها تكاد تكون فعلا يستغرق الكثير من قيم التوجهات التي تحاول السينما أن تفكك قيمها عبر مستويات متعددة؛ بما في ذلك الخبرات، أو التوجهات المتصلة بالأفراد، أو على مستويات الجماعات، سواء أكانت تنطوي على بنى عرقية أو ثقافية أو غيرها، في حين أن الهيمنة تشير إلى القيم الثقافية السائدة والمعتقدات التي تشكل المجتمع وفقا لمنظور الدراسات، حيث يقول ستيوارت هال: «الهيمنة ليست مجرد مسألة للهيمنة والإكراه؛ إنها أيضا مسألة للإقناع والموافقة» بمعنى آخر، فإن قيم الهيمنة ليست مفروضة على الناس بالقوة، لكنها أيضا تُمتص، بل إنها تقبل بوصفها طبيعية من قبل العديد من الأفراد أو المجتمعات. ولعله يمكن تطبيق هذا المفهوم على السينما عن طريق تحليل الطرق التي تعكس فيها الأفلام القيم الثقافية السائدة لتمسي نوعا من التكريس، وهكذا تبدو السينما أحد مجالات الترويج لقيم ما، أو أن تتحول إلى أداة من أجل تحقيق هيمنة ثقافية ربما تمتصها الثقافات أو الشعوب دون وعي، وهذا يمثل مظهرا من المظاهر، في حين أن ثمة جوانب، أو مظاهر تعتمد نموذجا طباقيا أو مغايرا يعتمد التقويض المباشر لهذه النماذج من الهيمنة.
ومن المفاهيم المحورية في الدراسات الثقافية مفهوم الهوية الثقافية، ذلك أن «الهوية ليست تصنيفا ثابتا، بل عملية لتحقيق الذات» حسبما يرى ستيوارت هال، فالهويات الثقافية تُبنى، ويُعاد إنتاجها باستمرار من خلال الممارسات الثقافية، وهكذا يمكن للسينما أن تلعب دورا كبيرا في هذا المجال. لقد عكست سينما هوليوود جانبا كبيرا من هذه المعالجة، حيث بدت في كثير من الأحيان معنية بتصوير الثقافات الأخرى، سواء أكان ذلك بالطرق السلبية أم الإيجابية، لكن هذا يتأتى في بعض الأحيان من دوافع تجارية خالصة، ومع ذلك تبقى المضمرات الثقافية قائمة أو نشيطة.
وختاما، يمكن القول إن الدراسات الثقافية توفر للسينما منظورا قيما لبحث الطرائق التي تعكس من خلالها الأفلام القيم الثقافية السائدة، وتعززها، ولاسيما تمثيل الذوات والجماعات، كما الهويات الثقافية، كما يشير ستيوارت هال بأن «مهمة الدراسات الثقافية تتعلق بفهم تفاصيل الطرائق التي تتورط بها الثقافة في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي» في حين أن ريتشارد داير يرى أن «الثقافة – بما في ذلك السينما- تعد فضاء للمنافسة والتفاوض، حيث تنتج المعاني، وتناقش، ومن ثم يُعاد صياغتها» من خلال تحليل الأفلام، ولعل هذا يُعضد عبر توفر منظور الدراسات الثقافية؛ ما يمكن الباحثين من الحصول على فهم أعمق للطرق المعقدة التي تضطلع بها السينما في تشكيل ذواتنا، كما مجتمعاتنا.
كاتب أردني فلسطيني
“القدس العربي”