لم يكن مفاجئا أن ينهي الرئيس التركي رجب طيب اردوغان سياسة مسك العصا من المنتصف ويعطي الضوء الأخضر لانضمام السويد الى الناتو، فالترتيبات لهذا الحدث المهم كانت قد حصلت قبل الإعلان عن فوز اردوغان بكرسي الرئاسة لولاية ثالثة وهو ما أشار له رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي مايكل ماكول عندما صرح أن واشنطن قد حصلت على تعهدات تركية بقبول عضوية السويد في الناتو بعد الانتخابات الرئاسية، لكن كيف ستؤثر صفقة المقايضة التي نفذها اردوغان واقترب بها من واشنطن على علاقة تركيا وروسيا؟
كان الموقف التركي من الغزو الروسي لأوكرانيا مبنيا على أسس راعت فيها تركيا مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية مع روسيا بالموازنات مع الحفاظ على مصالحها مع الدول الغربية وفي مقدمتها أعضاء الناتو، وقبل أن تكون مسألة انضمام فنلندا والسويد الى الناتو مطروحة حاولت تركيا البقاء على مسافة واحدة من جميع الأطراف لكنها رفضت أن تكون الهواجس الأمنية لروسيا ذريعة تشرع لها غزوها لأوكرانيا في الوقت نفسه، حاول اردوغان أن يتبنى خطابا يعاتب فيه الغرب على عدم معالجة الخلاف مع روسيا قبل أن تتطور الأمور إلى نزاع عسكري، سيترتب عنه المزيد من المشاكل الاقتصادية، خاصة وأن الأسواق العالمية كانت تحتاج إلى الاستقرار السياسي يمكنها من الخروج من تبعات وثقل وباء كورونا الذي لم يمر مرور الكرام على اقتصاد تركيا.
كان ذلك الحياد إيجابيا بالنسبة لبوتين فهو يأتي من أحد أعضاء الناتو ويضمن وجود عضو معرقل ومشوش على قراراتهم بناء على تقاطع لمصالح تركيا مع روسيا اقتصاديا، واستفادت تركيا أيما استفادة ففي 2022، ارتفعت الإمدادات من الموانئ الروسية إلى تركيا لـ 5.05 مليون طن مقابل 3.99 مليون قبل عام من الحرب.
تشييد المفاعل الرابع
تمكنت تركيا في اقناع الروس بتأجيل الدفع مقابل شحنات الغاز التي كانت تصلها، ومن إطلاق المرحلة الأخيرة من تشييد المفاعل الرابع من مشروع محطة الطاقة النووية أكويو التي أقيمت بالشراكة مع شركة “روس أتوم” الروسية، كما دفع الكرملين بثقله في الملف السوري ونجح في عقد أول لقاء بين مسؤولين أتراك وسوريين، ورعت خريطة طريق تهدف الى إعادة تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، الأمر الذي يسمح لتركيا لطي صفحة الخلاف واقتسام ثقل التحديات الأمنية مع النظام السوري .
لا يمكن اعتبار الموقف التركي الأخير حيال السويد بمثابة الطعنة في ظهر بوتين أو الخيانة فتركيا لم تكن أبدا حليفا كلاسيكيا لروسيا، والتاريخ يثبت أن علاقات البلدين لطالما كان فيها مراحل المد والجزر، ثم أن بوتين مدرك أن مسألة انضمام السويد وقبلها فنلندا مسألة حركتها واشنطن في الأساس، ولم يعد لتركيا متسع من الوقت للمناورة بعد أن تحصلت على ضمانات سويدية وإغراءات أمريكية أنهت بذلك مرحلة كسب الوقت وزادت من إحراج روسيا التي دخلت في حرب ضد أوكرانيا لمنع توسع الناتو فاذا بالحلف يرفض طلب أوكرانيا و ويتوسع على حساب الجارة فنلندا والسويد ليجعل من حرب بوتين حربا بلا معنى.
منطق الحكمة والعقل
اردوغان البراغماتي الذي أصبح مناديا بأحقية أوكرانيا في الانضمام إلى الناتو يضع نفسه في موقف معاد لمصالح روسيا ثم يدعوها إلى الانصات الى منطق الحكمة والعقل والدخول في مفاوضات جادة تنهي حالة الحرب بعد أن أصبح قرار الاستمرار فيها لا يقدم ولا يؤخر في المسألة شيئا، إلى حد الساعة لم يقم الكرملين برد فعل يؤكد فيه أو ينفي أو يؤجل زبارة بوتين الى أنقرة التي تحدث عنها اردوغان، ولكن من الواضح أن روسيا الآن قد بدأت في رسم شكل جديد في علاقاتها مع تركيا بعد أن سقطت ورقة السويد من يد اردوغان وسقط معها القناع الذي ناور به اردوغان روسيا والغرب على حد سواء، ولهذا فمن غير المستبعد أن ترفع روسيا يدها على الوساطة التي كانت ترعاها بين تركيا وسوريا، ومن غير المستبعد أيضا أن تقوم روسيا بإجبار تركيا على دفع جميع إمدادات الغاز الروسي المنشأ بالروبل، من باب أنها تتعامل بهذا المبدأ مع الدول غير الصديقة، ومع ذلك فإن اردوغان سيبقى الرابح الأكبر من كل ما جرى، بعد أن فتحت له حرب روسيا في أوكرانيا الباب لابتزاز الغرب ومقايضتهم، وفرصة للاستفادة من إمدادات غاز روسيا الذي سمح له بالاستمرار في لعبة المقايضة لأطول وقت ممكن.
كاتب فلسطيني
“القدس العربي”