في الوقت الذي تطورت فيه الأعمال القتالية في الساحة الأوكرانية من حيث الأدوات المستخدمة بشكل متسارع – حيث شكَّل استخدام الذخائر العنقودية سابقة خطيرة في هذا المجال – بدأت المخاوف تتزايد من أن يمتد نطاقها ليشمل دولاً أخرى، وعلى رأسها بولندا. وقد نقلت وكالة الأنباء الحكومية عن سكرتيرها “زبيجنيو هوفمان” خلال الأيام الماضية أن اللجنة الأمنية البولندية قررت، في اجتماعها، نقل الوحدات العسكرية إلى شرق البلاد بسبب التهديدات المتنامية التي تتعرض لها البلاد، وهو ما استتبعه رد روسي من الرئيس بوتين شخصياً بأن موسكو سترد على أي عدوان ضد بيلاروسيا “بكل الوسائل المتاحة لديها”، في إشارةً إلى قيام بولندا بتعزيز حدودها الشرقية مع وصول قوات فاجنر إلى البلاد لتدريب الجنود البيلاروسيين. هذا وقد أدت هذه التطورات إلى تسليط الضوء على ردود الفعل والتحركات الروسية لرصد وتيرة التصعيد المحتمل من جانب روسيا، واحتمالات امتداد هذا الصراع إلى بولندا باعتبار ذلك نتيجة محتملة.
ضغوط موسكو
يوجد عدد من المؤشرات والدلائل التي تعكس تصعيداً روسياً ملحوظاً إزاء بولندا، سواء في الشهور الماضية، أو توقع تناميه خلال الفترة المقبلة، وهي المؤشرات التي يمكن رصد أهمها على النحو التالي:
1– نقل وجود “فاجنر” إلى بيلاروسيا: على الرغم من المزاعم بأن قائد “فاجنر” يفجيني بريجوجين قد عاد إلى روسيا، ظهر القائد الروسي في مقطع فيديو يوم 19 يوليو الجاري وهو يرحب ويؤازر مقاتليه في بيلاروسيا. وقد أعلنت وزارة الدفاع البيلاروسية أن مرتزقة فاجنر بدؤوا يدربون القوات الخاصة البيلاروسية على بعد أميال قليلة من الحدود مع بولندا العضو في حلف شمال الأطلسي، وهو ما اعتبرته الأخيرة استفزازاً موجهاً ضدها. وقد زاد مؤخراً من حدة مخاوف الأخيرة المحادثات التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رئيس بيلاروسيا أليكساندر لوكاشينكا في سانت بطرسبرج في 23 يوليو الجاري، التي أشار فيها الأخير مازحاً إلى أن مقاتلي مجموعة فاجنر يبدون متحمسين للتقدم غرباً إلى الحدود البولندية.
2– تفاعل موسكو مع سقوط مسيرة أمريكية في جنوب بولندا: تناقلت وسائل الأنباء البولندية، خلال الأيام الماضية، أخباراً بشأن تحطم طائرة استطلاع عسكرية بدون طيار في جنوب غرب بولندا، يوم 18 يوليو 2023، ترجح بعض التقديرات تبعيتها للولايات المتحدة. ووفقاً للإذاعة البولندية، تم العثور على الطائرة بدون طيار في غابة بالقرب من قرية ترزيبيان جنوب غرب بولندا بالقرب من منشأة تدريب عسكرية. وقد عقب الكرملين على هذه الواقعة بالتشديد على أن تمادي واشنطن في استخدام مسيراتها في الأراضي البولندية إنما هو رسالة إلى روسيا لاستخدام قدراتها أيضاً في الدول المجاورة لها، وهو ما فسره البعض باحتمالية توقع هجمات روسية بالمسيرات في بولندا نفسها.
3– استهداف روسيا الدور البولندي في الصراع الأوكراني: خلال الأسابيع الماضية، تصاعدت وتيرة الانتقادات الروسية للدور العملياتي والإنساني الذي تقوم به بولندا في الوقت الراهن؛ فمن ناحية، سلَّط الإعلام الروسي الضوء على العبء الإنساني الذي تتحمله بولندا باعتبار أنها تؤوي حالياً 1.3 مليون لاجئ أوكراني، بتكلفة تقدر بأكثر من 8.4 مليار يورو، في محاولة منه لتأليب الرأي العام في بولندا. ومن ناحية أخري، شنت موسكو حملة انتقادات واسعة على التعاون الاستخباراتي بين بولندا والدول الغربية، في اعتراف ضمني منها بأن الخبرة البولندية بشأن تشكيل الحكومة الروسية والتفاعلات الثقافية فيها، كانت حاسمة في تصميم العقوبات وتحليل استراتيجية الحرب الروسية. هذا وقد اعتبر البعض هذا التصعيد الكلامي تمهيداً لمزيد من التحركات العملية المتوقع أن تتخذها روسيا في المدى المنظور.
4– التأهب البولندي لهجوم روسي سيبراني واسع النطاق: منذ شهر فبراير 2023، رفعت وارسو درجة الاستعداد القصوى في منشآتها الحرجة للتصدي لأي هجوم روسي سيبراني واسع النطاق؛ حيث تنامى إلى علم أجهزتها الاستخباراتية أن روسيا تجهز لهجوم واسع النطاق على قطاعي الطاقة والبنوك، في رد منها على ما وصفته بالتحريضات البولندية لألمانيا للانخراط بقدر أكبر في الصراع الحالي.
5– التصعيد الروسي المرتقب في مواجهة قيادات الناتو: حذر الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي “أندرس راسموسن” في 7 يونيو 2023 من أن أعضاء الحلف من دول أوروبا الشرقية يمكنهم نشر قوات في أوكرانيا في القريب العاجل. وفي حديثه في قمة حلف شمال الأطلسي في فيلنيوس، شهر يوليو الجاري، صرح فيما يتعلق بمخاطر الفشل في التوصل إلى خطة واضحة لتقديم مزيد من الدعم للجهود الحربية الأوكرانية، بأنه إذا لم يتمكن الناتو من الاتفاق على مسار واضح للمضي قدماً في الحرب في أوكرانيا، فإن هناك احتمالاً واضحاً أن تتخذ بعض الدول إجراءات فردية.
وقد ذهبت تكهنات قادة الناتو إلى أن بولندا منخرطة بشكل كبير في تقديم مساعدات ملموسة لأوكرانيا، وهو ما لا يجعل احتمال مشاركتها بقوات على الأراضي الأوكرانية غير مستبعدَ، خاصةً أن مدفعيتها وذخائرها موجودة بقوة في ميدان العمليات بالفعل؛ كل هذا جعل البعض يرجح قيام روسيا باتخاذ خطوات انتقامية ضد بولندا في المستقبل القريب؛ ما يؤدي بدوره إلى انخراط بولندي أكبر في الصراع الحالي.
تمدد الصراع
ترتبط احتمالات توسيع الصراع الأوكراني ليشمل بولندا بمجموعة من العوامل الهيكلية والظرفية التي يسهم تضافرها في توقع حدوث هذا السيناريو، ولعل أهم هذه العوامل:
1– عضوية بولندا في حلف الناتو: تعتبر عضوية بولندا في حلف الناتو هي عنصر الردع الرئيسي أمام أي طموحات روسية لتمديد نطاق الصراع الأوكراني لها؛ حيث سيستتبع أي هجوم روسي منظم عليها، تفعيل التزام الدفاع المشترك للدول الأعضاء بالحلف. في السياق ذاته، فإن روسيا قد تلتف على هذا الأمر عن طريق الزعم – كما تفعل دائماً – بأن مقاتلي فاجنر لا يتبعون الجيش الروسي تنظيمياً، ومن ثم الدفع بعدم مسؤولية الكرملين عن أي عمليات قتالية ينخرطون فيها، أو على أقل تقدير قد تعمد إلى إدارة عمليات عسكرية على الحدود البولندية الشرقية عن طريق الوكالة أو بأسلوب الكر والفر دون الانخراط في عمل عسكري منظم وطويل الأمد، إلا أنه في كل الحالات، فإن عضوية بولندا في الناتو تُعقِّد الحسابات بشكل جذري بالنسبة إلى موسكو مقارنةً بالحالة الأوكرانية.
2– حدود استعداد واشنطن للتعامل مع صراع أوكراني موسع: تلعب الضمانات التي تمنحها الولايات المتحدة للدول الأوروبية بوجه عام، ودول خط المواجهة بوجه خاص، دوراً جوهرياً في ترجيح أو عدم ترجيح امتداد الصراع إلى هذه الدول؛ فبخلاف الالتزام القانوني للناتو بضرورة تفعيل الدفاع المشترك في حالة الهجوم الخارجي، فإن الولايات المتحدة تسهم بقدر كبير في النهج الاستباقي الذي يهدف إلى الحيلولة أصلاً دون نشوب الصراع؛ وذلك لتفادي زيادة تكاليف إنفاقها العسكري الخارجي من جانب، والحيلولة دون وقوع صراع نووي لا يمكن السيطرة عليه من جانب آخر.
وفي ظل الخلافات الداخلية الأمريكية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول رفع سقف الدين الفيدرالي، تجد الولايات المتحدة نفسها في الوقت الراهن مكبلة عن رفع سقف طموحات دول خط المواجهة عن طريق الامتناع عن تقديم وعود بالدعم اللامحدود مثل الحالة الأوكرانية، وهو ما تراه روسيا بالطبع ميزة استراتيجية إضافية في حوزتها.
3– مدى استمرار السياسات البولندية المناوئة لروسيا: تمتلك بولندا واقعياً إرثاً طويلاً من التحركات المناوئة لروسيا ومصالحها في المنطقة؛ فعلى مدى عقود، عارض المسؤولون البولنديون بشدة صفقات الطاقة الألمانية مع روسيا التي ستنقل الغاز الروسي مباشرةً إلى ألمانيا، متجاوزين البلدان الواقعة بينهما. ومنذ عام 2004، عارضت وارسو إنشاء خطوط أنابيب نورد ستريم التي تربط غاز سيبيريا بساحل البلطيق في ألمانيا.
كما تزعمت بولندا تحركاً أوروبياً إبان إدارتي أوباما وترامب يحذر الإدارة الأمريكية من أن “روسيا عادت قوةً رجعيةً تتبع أجندة القرن التاسع عشر بتكتيكات القرن الحادي والعشرين”؛ لذلك تأتي تحركات القوات البولندية على حدود البلاد الشرقية حلقةً في سلسلة تاريخية ممتدة من الشد والجذب بين موسكو ووارسو، ومن ثم يمكن أن يسهم إمعان بولندا في مثل هذه التحركات التي تصفها موسكو عادةً بـ”الاستفزازية” في إذكاء احتمالات امتداد الصراع خارج أوكرانيا. ولعل آخر التحركات التي قامت بها بولندا في هذا المجال تتمثل في تشجيع ألمانيا على تزويد أوكرانيا بدبابات حديثة.
4– مدى توحد نمط التحرك الأوروبي إزاء روسيا: يشكل اختلاف الأولويات وتقدير سبل التحرك بين دول أوروبا الشرقية من جانب ودول أوروبا الغربية من جانب آخر، هاجساً مستمراً لدى دول خط المواجهة، باعتباره عنصراً مُقوِّضاً للردع الأوروبي في مواجهة روسيا، وورقة ضغط مستمرة في يد موسكو؛ فدول أوروبا الغربية، التي تضع أمن الطاقة والتهديدات النووية في القلب من شواغلها، تأمل منذ فترة طويلة وقف إطلاق النار في أوكرانيا.
وعلى النقيض من ذلك، لا يعتقد البولنديون، جنباً إلى جنب مع عدد من دول أوروبا الوسطى والشرقية، من فنلندا إلى أوكرانيا، أنهم سيكونون في مأمن دون إلحاق هزيمة حضارية واستراتيجية بروسيا، وهي الهزيمة التي لا يمكن تحقيقها إلا في ساحة المعركة. وبين هذا وذاك، تدرك روسيا أن مساحة المناورة لديها لتوسيع الصراع ستظل قائمة، ما دام هذا التباعد في وجهات النظر قائماً.
الخلاصة: بالرغم من أن مؤشرات التصعيد الروسي إزاء بولندا باتت أكثر وضوحاً بالشكل الذي رجح معه البعض أن امتداد الصراع الأوكراني إلى بولندا أصبح وشيكاً، فإن المحددات الهيكلية والظرفية السالفة الذكر توضح تشابك الفاعلين والظروف المؤثرة على مثل هذا التصعيد، سواء كانت روسيا أو بولندا نفسيهما من جانب، أو الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جانب آخر.