منذ القدم، تجاهل الفلاسفة الاختلافات الجنسية في محاوراتهم الفلسفية، ولم يعتبروها موضوعا للدراسة والتحليل الفلسفي العميق، لذلك، عندما يناشد التمييز بين المذكر والمؤنث، يفتتح نيتشه طريقة للتفكير في العلاقات الإنسانية التي يمكن اعتبارها، إلى حد ما، جنسية.
صحيح أن بعض المفكرين دافعوا في وقتها عن حركة تحرير المرأة، هذه هي حالة الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت مل (1806/1873) الذي كتب نصوصا لصالح استقلال المرأة، التي كان نيتشه مطلعا عليها جيدا بالطبع. لكن على عكس الفيلسوف مل، يقود نيتشه معركة بلا هوادة ضد حركة تحرير المرأة، التي ستثبت من خلال كتاباته أنها لا ترحم العنصر النسوي في حلمه بالمساواة. تحتوي كتاباته على عدد كبير من الملاحظات حول المرأة: بعضها كليشيهات مبتذلة، والبعض الآخر تحليل معقد وصقل للحالة الإنسانية من منظور الجندرة والنوع؛ ويذكر حالة الأنثى في استطرادات متفرقة، كما في المقاطع شديدة الجدل. وليس لأفكاره وتأملاته حول هذا الموضوع مكان هامشي في عمله؛ لا يمكن اختزالها في التفضيلات الشخصية وحتى أقل من التضليل العرضي.. على العكس من ذلك، في كتابي الأخير (Scarlett Marton) «ازدواجية فكر نيتشه « Les ambalences de Nietzsche أنواع وصور وشخصيات نسائية، أدافع عن فكرة أنها جزء كامل من مشروعه الفلسفي .
باستثناء نصوصه الأولى، فإن اعتبارات نيتشه حول المرأة موجودة في كل مكان تقريبا في عمله. سهل العثور عليها في نسقه الفلسفي، على سبيل المثال، في العديد من شذراته الفلسفية، وكذلك في سلسلة من فقرات الكتاب الثاني «العلم المرح» وفي العديد من خطابات «هكذا تحدث زرادشت» في مجموعة من فقرات كتاب «ما وراء الخير والشر» وفي عدد من المقاطع من «غسق الأوثان». بالنظر إلى موضوع الدراسة المختار هنا، سأولي اهتماما خاصا لمقاطع من كتاب «ما وراء الخير والشر» Beyond Well and Evil، حيث يهاجم نيتشه النساء اللواتي يطمحن لأن يصبحن مستقلات أمام الرجل بالواجبات والحقوق .
مبارزة مستحيلة
في الفقرة 238 من هذا الكتاب، يؤكد نيتشه أن هناك «عداء عميقا» بين الرجال والنساء. «إساءة فهم المشكلة الأساسية المتمثلة في «الرجل والمرأة» وإنكار العداء الأكثر سوءا، والحاجة إلى توتر غير قابل للاختزال، وربما الحلم بالمساواة في الحقوق، والتعليم المتساوي، والامتيازات المتساوية والواجبات المتساوية: هذه علامة نموذجية على الابتذال الفكري. وبذلك، يشير إلى أن الرجل والمرأة يقيمان علاقة متضاربة. من وجهة نظره، فإن تصور الوجود كمبارزة مخلصة هو شرط متأصل لما هو نبيل. لكن منذ نصوصه الأولى، يؤكد نيتشه أنه لا يمكن أن يكون هناك صراع عندما يحتقر المرء الخصم ولا يوجد سبب للصراع عندما يهيمن عليه المرء. ومن ثم يترتب على ذلك، بالنسبة للفيلسوف، أن العلاقة بين الرجل والمرأة لن يتم تصورها على أنها صدام بين موقفين يستبعد أحدهما الآخر. لأن النضال يجب أن يحدث دائما بين الأطراف المتساوية أصلا. كيف إذن نفهم هذا «العداء العميق وضرورة التوتر غير القابل للاختزال» بين الرجال والنساء؟ وكيف يمكن النظر في الطبيعة المؤلمة لمثل هذه العلاقة؟
« اعتبر المرأة ملكية»
للوهلة الأولى، يمكننا أن نفترض أن نيتشه يشجع النساء على استفزاز الرجال للمبارزة، لأنه يريدهم ألا يتصرفوا مثل الرجال، لكن أيضا لا يسمحن لأنفسهن بأن يخضعن لهم. ومع ذلك، عند فكرة تصوره للطريقة التي يجب أن نعتبر بها المرأة، يؤكد أن الرجل العميق والخير والصارم والصعب «لن يكون قادرا أبدا على التفكير في المرأة إلا بالطريقة الشرقية: يجب أن ينظر إلى المرأة على أنها ملكية خاصة، كسلعة يجب حبسها، كشيء مقدر للخدمة ويجد تحققه في ذلك».. لذلك لا يتردد نيتشه في إظهار نفسه مخالفا لحركة تحرير المرأة الموجودة بالفعل في عصره. باختصار، سيحمل مثل هذا الرجل المرأة على أنها مقدرة على للخضوع فقط. لا يتردد نيتشه في إثبات أنه مخالف لحركة تحرير مساواة النساء الموجودات بالفعل في عصره. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف لا يتناول المرأة في كتاباته الفلسفية. دائما يلجأ إلى الرجال في خطابه، خاصة الرجال الذين مثله، يفكرون في النساء بالطريقة النمطية نفسها، ويشرح لهم كيفية معاملتهم. المقطع المقتبس يتطلب اهتمامنا. من خلال النظر إلى النساء «بالطريقة الشرقية» يفضل نيتشه «منطق العقل الآسيوي» ويبتعد عن تاريخ الفلسفة الأوروبية. عندما يخاطب أقرانه، يشيد بـ«تفوق الغريزة الاسيوية» وبالتالي يحارب الفلسفة الغربية التي اتخذت دائما الإنسان الأوروبي نموذجا. عندما يتعلق الأمر بمعرفة كيفية التعامل مع النساء، يلتزم نيتشه بتشجيع زملائه الرجال على المضي قدما بطريقة مماثلة لتلك التي لدى الرجل ذي الثقافة الشرقية لقارة آسيا. من منظور نيتشه، منذ الثورة الفرنسية، يعتبر المجتمع الأوروبي أنه من خلال المنظور الأخلاقي يمكن إخضاع الفرد للضروريات العامة. تعلن هذه الأخلاق المنحطة أن سعادتها تتمثل في أن تصبح مفيدة للجميع، من خلال إزالة طابعها الفريد وأن تصبح ببساطة عضوا في «الكتلة القطيعية». هذا هو السبب في أنه يعزز ظهور حركات مثل التحرر النسائي – التي ينتفض الفيلسوف ضدها.
تحرير «منحط»
يعتقد نيتشه أن نفوذ المرأة قد تضاءل في أوروبا مع زيادة حقوقها، بالنسبة له، ليس من قبيل المصادفة أن ترتكب النساء، اللواتي يرغبن في المساواة مع الرجال، أخطاء في تقدير الأمور، وهن في سعيهن إلى اكتساب الحقوق يقللن من نطاق نفوذهن المجتمعي، لأنه بينما تتعلق الحقوق بالمجتمع الذي تم تشكيله بعد الثورة الفرنسية، فإن التأثير يتعلق بالمجتمع الذي كان موجودا من قبل، معتقدا أنه على عكس المنظمات الاجتماعية القائمة على فكرة التسلسل الهرمي، مثل تلك الموجودة في آسيا أو اليونان القديمة، أو فرنسا خلال العصر القديم، فإن المجتمع الأوروبي في عصره يتحرك بسرعة أكبر نحو التوحيد القياسي، ثم يدين اتجاه المساواة في أوروبا الحديثة: «لم يعامل الرجال الجنس الأضعف في أي وقت من الأوقات بالقدر نفسه من الاحترام كما هو الحال في عصرنا ـ هذه سمة محددة للميل والذوق الأساسي للديمقراطية». يرى نيتشه أنه يتحدث لصالح النساء من خلال تحذيرهن من أن التحرر الذي يريدنه يساهم في إضعاف خصائصهن وخصوصياتهن. يمكن للمرء أن يجادل بأنه في الواقع، عندما يطالبن بحقوق متساوية منذ الثورة الفرنسية، تعتقد النساء أن المجتمع الصناعي لا يميز ضد أي جنس.. لكنهن مخطئات، عندما يتخيلن، بالاعتماد على الفكرة العالمية المجردة، أن هذا المجتمع يعتبر جميع المواطنين عمالا ومستهلكين بطريقة غير متمايزة.
لاحظت النساء بعد ذلك ـ كما أوضحته السياسية والكاتبة الفرنسية جينيفيف فرايس صاحبة كتاب «النساء وتاريخهن» وميشيل بيرو المؤرخة الفرنسية – بناء على الفصل الصارم بين إنتاج السلع وإدارة المنزل، يتم الحفاظ على المجتمع الصناعي بفضل الأنشطة التي يخصصها للمرأة عبر الأجيال، من الأعمال المنزلية، ورعاية الأطفال، إلى الدعم المقدم للرجال. لكن، واقتناعا منهن بأن شعار الثورة الفرنسية «الحرية والمساواة والإخاء» تهم جميع البشر، فإنهن يطالبن بحقوق متساوية. وهن مخطئات مرة أخرى، عندما يفترض أن الشعار الثوري ينطبق عليهن أيضا. وهكذا ترى النساء الطلاق بين الخطابات والممارسات: المبادئ الثورية المنصوص عليها في إعلان حقوق الإنسان والمواطنة لا تتجاوز أصلا حدود الذكورة.
من زاوية اخرى ينظر نيتشه، إلى أن النساء المتحمسات للثورة الفرنسية، أصبن بالضعف، ومن ثم يترتب على ذلك أن «هناك غباء في هذه الحركة» للمطالبة بالمساواة النسوية. النساء اللواتي يرغبن في مضاهاة الرجال، يعودن أنفسهن على القراءة والكتابة، وبالتالي يتخلين عن «التواضع الناعم والماكر». إنهن يتحدين الصور المثالية ويقوضن الإيمان الذكوري بـ«الأنثوية الأبدية». إن رفضهن التصرف «كحيوان أليف للغاية وبريء بشكل غريب وممتع في كثير من الأحيان» يمنع الرجال من معاملتهن باهتمام وأخذهن تحت حمايتهم. وبالتالي فإنهن يهملن الأسلحة التي سمحت لهن بالفوز في العديد من الانتصارات. لكن ينبغي التشديد على أن الأسلحة على وجه التحديد هي التي تنسب عموما إلى الضعفاء. من خلال مناشدة الكليشيهات المرتبطة بالأنثى، يسعى نيتشه جاهدا للتنديد بما هو، في نظره، استراتيجية هيمنة من جانب النساء. من خلال الإصرار على حيلهن وقوتهن في الإغواء ورؤيتهن ممتازات في فن التلاعب، يصبحن آنذاك متواطئات في استهلاك الصورة النمطية، التي كن موضوعا لها لعدة قرون مضت. تسمح لي الأدلة التي تم جمعها هنا باستنتاج أنه إذا انتقد نيتشه النساء لأنهن يطالبن بحقوق متساوية، فهو غير مستعد لمحاربة ما يدفعهن للمطالبة بها، أو ضد ما يمنعهن من الحصول عليها. على العكس من ذلك، من خلال الدعوة إلى صورة تقليدية للمرأة، فإنه لا يتردد في النضال بلا هوادة ضد حركة تحرير مساواة المرأة.
ترجمة بتصرف عن موقع THE CONVERSATION
“القدس العربي”


























