رغبة روسيا في التوازن بين إيران ودول الخليج هي أحد عوامل منع قيام تحالف حقيقي بين طهران وموسكو، ولذلك لا نجد الطرفين يقتربان أكثر من بعضهما بعضاً إلا في ظل الأزمات التي تحيط بهما، من قبيل العقوبات الغربية أو تهديدات حلف شمال الأطلسي داخل آسيا. وهذه العلاقة المشوبة وغير المستقرة، هي ما يدفع الإيرانيين إلى عدم الذهاب بعيداً في رهانهم على الروس، أو أن يتطرفوا في تصعيدهم ضد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها.
إن اقتراب القوى الخليجية من روسيا، وهي لم تفك ارتباطها بالغرب، دعم لسياسة القوى الغربية لتحييد التحالف الاستراتيجي بين روسيا وإيران، بخاصة أن طهران فطنت إلى قواعد اللعبة جيداً، وهو ما جعلها لا تغادر المحادثات النووية حتى الآن!
في ظل المحافظين
رغم أن المحافظين يسيطرون على جوانب الحياة السياسية في إيران، إلا أنهم على عكس المواقف العدائية التي أظهروها تجاه الاتفاق النووي في عهد الرئيس المعتدل السابق حسن روحاني، باتوا الآن يحافظون على شعرة العلاقة مع القوى الغربية وبخاصة الولايات المتحدة؛ فالحديث ما زال يتردد حول إمكان العودة إلى لاتفاق النووي، وطهران وواشنطن توصلتا إلى اتفاق غير مكتوب أو رسمي يحافظ على نظرة كلا الطرفين بأنهما لا يريدان التطرف بعيداً.
وإن كانت إيران قد لجأت إلى سياسة الانفتاح على دول الجوار من أجل كسر عزلتها الإقليمية والدولية، فهذا بدوره فرض عليها الحفاظ على قدر من التواصل مع الولايات المتحدة، بل حتى أنها لم تغادر المحادثات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لحل أزمة ملفها النووي، وهو ما يصب في النهاية في دعم رؤية الإدارة الأميركية التي ما زالت تتجنب التصعيد العسكري مع إيران، وتسعى إلى تفاهم سياسي معها في إطار لعبة التوازنات التي تمسك بخيوطها.
علاقة مرتبكة!
بينما تستعد كل من روسيا وإيران لإعلان التوقيع على اتفاقية شراكة استراتيجية وشاملة على غرار الاتفاقية الاستراتيجية بين إيران والصين، جاء بيان منتدى التعاون العربي-الروسي على المستوى وزراء الخارجية، في ضيافة مراكش المغربية، الأربعاء 20 كانون الأول، الذي أشار إلى مسألة الجزر الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، ليثير السخط داخل إيران من روسيا، التي اتهمها المقربون من النظام الإيراني، ومنهم مدير صحيفة “كيهان” حسين شريعتمداري، بالنفاق والخيانة التي لا تُغتفر! وذهب عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام محمد صدر، إلى المطالبة بطرد السفير الروسي من إيران، إن استمرت روسيا في سياستها هذه!
لكن عملياً يدرك النظام الإيراني وجهازه التنفيذي المتمثل في الحكومة طبيعة علاقته بروسيا بوضوح، فإن كان البعض يقول داخل إيران إن “طهران تحملت كُلفة عالية لدعمها روسيا في أوكرانيا”، فهذا لم يكن مجاناً، وكذلك أيضاً تدير روسيا علاقتها بإيران، والأخيرة بسوريا، وهكذا تدار لعبة العلاقات في المنطقة.
ولذلك نجد صحيفة “إيران” في عددها السبت 23 كانون الأول (ديسمبر)، تعبر عن حالة من النضج السياسي لدى الحكومة الإيرانية، فقد وضعت الأولوية “للعمل على الشعارات”، على عكس ما كان سائداً سابقاً، فقد اعتبرت أن مسألة الجزر تم تناولها تناولاً ثانوياً داخل بيان القمة العربية-الروسية، وأن حالة الغضب تجاه روسيا من قِبل شخصيات متنفذة داخل السلطة، تخدم السياسة الغربية التي تسعى لمنع أي تحالف مناهض للعقوبات بين موسكو وطهران.
وواقعياً، فإن هذا البيان جاء لطيفاً بما يراعي إيران في صياغته، فقد طالب في الفقرتين 43 و45 بالحل السلمي للخلافات معها، ولم يصفها بالدولة المحتلة للجزر الثلاث، حتى إن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عندما تلقى اتصالاً من نظيره الإيراني حسين عبد اللهيان، صرح له فيه بأن “إيران لن تجامل أي طرف في مسألة احترام وحدة أراضيها”، رد لافروف عليه بقوله: “قمنا خلال صياغة البيان بالتركيز الواضح على احترام سيادة إيران ووحدة أراضيها”.
لكن يبدو أن الانزعاج الإيراني يتخطى مسألة الإشارة إلى الجزر الثلاث، وأنه يأتي أكثر من مستوى الاقتراب بين روسيا ودول الخليج بصورة يتم فيها تجاوز إيران، بخاصة أن هذه الدول لديها ما يُغري روسيا إغراءً أكبر.
رؤية استراتيجية!
تبدو العلاقة بين روسيا وإيران كأنها تخلو من امتلاك الرؤية الاستراتيجية، فحتى الآن تبدو العلاقة أشبه بمواجهة مشتركة للعقوبات الغربية في مجال الطاقة والتجارة والقطاع المصرفي وسد الحاجة المتبادلة في قطاع التكنولوجيا والتسليح، لكن دخول دول الخليج على خط العلاقة مع روسيا أو إيران، هو بالفعل ما سيمنح هذه العلاقة استراتيجيتها، بخاصة أن إيران في حاجة إلى روسيا للوصول شمالاً، وهو ما يحتاج إلى دفع دول الجنوب نحو الشمال.
وروسيا أيضاً لا تريد لطموحاتها أن تتوقف عند حدود إيران وموانئها الجنوبية، فهي تريد تنوعاً في علاقاتها، ولا تريد أن تضع بيضها في سلة واحدة، هي إيران أو تركيا، من أجل أن تدعم ممرات تجارتها الخارجية، وهو ما يدفعها إلى الانفتاح على دول الخليج وصولاً إلى منطقة البحر المتوسط!
إن اقتراب الروس أكثر من دول الخليج بما لديهم من قوة استثمارية وقدرة على إدارة أسواق الطاقة وسط سعيهم للتوازن في العلاقة بين الغرب والشرق، يجعل لروسيا رؤية استراتيجية تجاه إيران تعتمد على عدم خسارتها، مع محاولة الاحتفاظ بصورة أن “الإيرانيين هم مَن يبحثون عن روسيا”!
إذاً، بنزول روسيا إلى الجنوب نحو الخليج، يمكن الحديث بعد ذلك عن شراكة أو رؤية أو تعاون استراتيجي بين إيران وروسيا، لكن لا يمكن الحديث عن تحالف استراتيجي؛ لأن هذا يعطل طموحات موسكو نحو تعدد علاقاتها وتحالفاتها خارج حدودها الجغرافية، بخاصة بعد العقوبات الغربية التي دفعتها إلى البحث عن علاقات واسعة وهادفة مع دول متنوعة من دون خسارة أحد، وهو ما تبرهنه علاقاتها بإيران وإسرائيل في آن واحد!
وهنا، بعدما أخذت رؤية الإيرانيين في النضوج، نجد أنهم بدأوا استعادة التاريخ، حتى يفهموا العلاقة مع روسيا خارج حدود اللحظة الآنية التي تأسرهم، ولذلك يشير المحلل السياسي الإيراني يد الله كريمي بور، كثيراً إلى الجنرال اليوغوسلافي جوزيف تيتو الذي أراد ألا تتحول بلاده مجرد دولة تابعة تدور في فلك روسيا، ولذلك تتعالى الأصوات داخل إيران بالمناداة بالتحرر من قبضة العقوبات الغربية التي لطالما استفاد منها الروس وخسرت إيران!
حاجة للتوازن!
برهن السلوك الروسي، ومعه حتى الصيني، للإيرانيين، أن إصرار المحافظين الذين يمثلون تيار السلطة، على سياسة “التوجه شرقاً”، كانت خاطئة، وهناك حاجة الآن للتوازن، فلا الصين ولا روسيا تتشاركان مع إيران في الأيديولوجيا، ولا حتى تقتصران علاقاتهما على دول الشرق فحسب، وكل ما يجمعهم هو العدو الغربي المشترك، الذي أيضاً تتم معالجة الخلافات معه معالجةً لا تذهب إلى الصدام إلا عندما تُمس الحدود الجيوسياسية، مثلما نجد في حالة أوكرانيا!
بل إن الأزمة الأوكرانية أو حتى أزمة تايوان وبحر الصين، كشفت للإيرانيين أن كلا البلدين روسيا والصين لديهما علاقات بالغرب أوسع بكثير مما يجمع روسيا بإيران، وأن هناك حاجة لمعالجة الصراع مع الغرب على غرار المعادلة نفسها التي تتبعها قوى الشرق، فالصين والولايات المتحدة الأميركية تتراشقان التهديدات، وفي النهاية تجمعهما الاتفاقيات التجارية المشتركة!
ويأتي مشهد غزة، ويظهر الموقف الروسي الذي لم يتخط حدود الكلام، والموقف الصيني كذلك أيضاً، ليضع الإيرانيين أمام واقعية سياسية، ستدفعهم تدريجياً إلى معالجة مصالحهم مع الغرب، بخاصة أن انفتاح إيران على دول الجوار، ولا سيما في الخليج والعالم العربي، يستوجب القيام بذلك.
إثبات مكانة إقليميّة!
وإن كانت إيران بتحريكها جماعة الحوثي اليمنية لتعطيل الملاحة الدولية عند باب المندب والبحر الأحمر، قد أزعجت الولايات المتحدة التي تقلق من اضطراب الأسعار العالمية وتعطل سلاسل الإمداد، فإن طهران بذلك تريد تحقيق هدفين مزدوجين، الأول الضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب في غزة، والثاني إثبات مكانتها الإقليمية للولايات المتحدة وأنها قادرة على التأثير في المعادلات الدولية.
ولذلك بينما حشدت الولايات المتحدة لتشكيل قوة متعددة الجنسيات لتأمين البحر الأحمر (وهو مشروع قديم يعود إلى مناورة ضخمة متعددة الجنسيات في شباط 2022) للتصدي لهجمات جماعة الحوثي، جاء اتهام واشنطن المباشر لطهران بالتخطيط وتقديم الدعم للحوثي من أجل تعطيل حركة الملاحة بلسان المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي أدريان واتسون، الجمعة 22 كانون الأول، وكذلك غياب دول خليجية وعربية المعلن عن هذه القوة، ليشكل مؤشراً إلى أن واشنطن قد فطنت إلى رسائل إيران التي تريد توظيف ما يفعله الحوثيون في إدارة التواصل مع الغرب.
ولذلك، وسط الحديث عن رسائل أميركية عبر وسطاء إلى إيران حول تهديدات الحوثي، يتضح أن طهران قد نجحت في الاستفادة من أدواتها الإقليمية في التواصل مع الغرب، وإن كانت واشنطن تهدد بمزيد من العقوبات التي تستهدف الحرس الثوري وذراعه الخارجية فيلق القدس، فذلك ليس للدخول في صدام مع إيران، بل لإخضاعها ودفعها إلى الاستجابة للمطالب الأميركية.
ولذلك أيضاً، إن كانت إيران قد أعلنت عن تشكيل “وحدة ظل بحرية”، أي قوات تعبئة بحرية على غرار نظيرتها البرية، ثم ذهبت بعدها بعيداً بإعلانها امتلاكها القدرة على تعطيل الملاحة في البحر المتوسط، وذلك بلسان معاون تنسيقية الحرس الثوري محمد رضا نقدي، فذلك لأنها تريد إثبات مكانتها الفاعلة إقليمياً بما يضعها في حسابات القوى الغربية التي تحتاجها إيران للتوازن في علاقاتها الخارجية!
“النهار العربي”