منذ أن سيطرت إسرائيل على المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى في حرب الأيام الستة في العام 1967، منحت الفلسطينيين شبه حكم ذاتي في الموقع، خوفًا من أن يؤدي انتزاعه من الحكم العربي إلى إثارة صراع ديني كارثي. لكن اليمين المتطرف الإسرائيلي سعى منذ فترة طويلة إلى تغيير ذلك. وعندما انتُخب نتنياهو لأول مرة في العام 1996، فتح جدارًا في موقع أثري في نفق تحت الأرض مجاور للأقصى للكشف عن الآثار من زمن “الهيكل الثاني”، مما أدى إلى انفجار عنيف للاحتجاجات العربية في القدس. وبالمثل، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000 بسبب زيارة إلى الحرم القدسي قام بها آرئيل شارون، الذي كان في ذلك زعيم المعارضة كرئيس لحزب نتنياهو، الليكود.
وفي أيار (مايو) 2021، اندلع العنف مرة أخرى. وهذه المرة، كان المحرض الرئيسي هو إيتمار بن غفير، وهو سياسي يميني متطرف احتفى علنًا بالإرهابيين اليهود. وكان بن غفير قد افتتح “مكتبًا برلمانيًا” في حي فلسطيني في القدس الشرقية حيث قام مستوطنون يهود، باستخدام سندات ملكية قديمة، بطرد بعض السكان، ونظم الفلسطينيون احتجاجات حاشدة ردًا على ذلك. وبعد تجمع مئات المتظاهرين في المسجد الأقصى، داهمت الشرطة الإسرائيلية مجمع المسجد. ونتيجة لذلك، اندلع القتال بين العرب واليهود وسرعان ما انتشر إلى المدن المختلطة عرقيًا في جميع أنحاء إسرائيل. واستخدمت “حماس” المداهمة كذريعة لاستهداف القدس بالصواريخ، وهو ما جلب المزيد من العنف في إسرائيل وجولة أخرى من الأعمال الانتقامية الإسرائيلية في غزة.
مع ذلك، تبدد القتال عندما توصلت إسرائيل و”حماس” إلى وقف جديد لإطلاق النار بسرعة مدهشة. وواصلت قطر مدفوعاتها لـ”حماس”، ومنحت إسرائيل تصاريح عمل لبعض سكان غزة لتحسين اقتصاد القطاع والحد من رغبة السكان في الصراع. ووقفت “حماس” مكتوفة الأيدي عندما قامت إسرائيل بضرب مليشيا حليفة، “الجهاد الإسلامي الفلسطيني”، في ربيع العام 2023. وسمح الهدوء النسبي على طول الحدود للجيش الإسرائيلي بإعادة نشر قواته ونقل معظم الكتائب المقاتلة إلى الضفة الغربية، حيث يمكنها حماية المستوطنين من الهجمات (الإرهابية). وفي 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أصبح من الواضح أن عمليات إعادة نشر القوات الإسرائيلية كانت بالضبط ما أراده السنوار.
انقلاب بيبي
في انتخابات إسرائيل التي أجريت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، استعاد نتنياهو مقعد السلطة. وحصل ائتلافه على 64 مقعدًا من أصل 120 مقعدًا في البرلمان الإسرائيلي، “الكنيست”، وهو ما شكل انتصارًا ساحقًا وفقًا للمعايير الأخيرة. وكانت الشخصيتان الرئيسيتان في الحكومة الجديدة هما بتسلئيل سموتريتش، وهو زعيم حزب ديني قومي يمثل مستوطني الضفة الغربية، وبن غفير. ومن خلال العمل مع الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة، ابتكر نتنياهو وسموتريتش وبن غفير مخططًا لإسرائيل استبدادية وثيوقراطية. على سبيل المثال، أعلنت المبادئ التوجيهية للحكومة الجديدة أن “للشعب اليهودي حقًا حصريًا وغير قابل للتصرف في أرض إسرائيل بأكملها”- رافضة تمامًا أي مطالبات أو حقوق فلسطينية بالأراضي، حتى في غزة نفسها. وأصبح سموتريتش وزيرًا للمالية وعُين مسؤولاً عن الضفة الغربية، حيث بدأ برنامجًا ضخمًا لتوسيع المستوطنات اليهودية. وعُين بن غفير وزيرًا للأمن القومي وسيطر على الشرطة والسجون. واستخدم سلطته لتشجيع المزيد من اليهود على زيارة جبل الهيكل (الأقصى). وبين شهري كانون الثاني (يناير) وتشرين الأول (أكتوبر) من العام 2023، قام حوالي 50.000 يهودي بجولات فيه -أكثر من أي فترة مماثلة أخرى مسجلة. (في العام 2022، كان 35.000 زائر يهودي قد تجولوا في “الجبل”).
أثارت حكومة نتنياهو الجديدة مشاعر السخط في أوساط الليبراليين والوسطيين الإسرائيليين. ولكن، على الرغم من أن إذلال الفلسطينيين كان عنصرًا محوريًا في أجندتها، فقد استمر هؤلاء المنتقدون في تجاهل مصير الأراضي المحتلة والأقصى عند التنديد بالحكومة. وبدلاً من ذلك، ركزوا إلى حد كبير على إصلاحات نتنياهو القضائية. وكان من شأن هذه القوانين المقترحة التي أُعلن عنها في كانون الثاني (يناير) 2023، أن تحد من استقلال “المحكمة العليا” في إسرائيل -الوصي على الحقوق المدنية وحقوق الإنسان في بلد يفتقر إلى دستور رسمي- وأن تؤدي إلى تفكيك النظام القانوني الاستشاري الذي يضع الضوابط على عمل السلطة التنفيذية. ولو تم سنها، لكانت مشاريع القوانين ستجعل من الأسهل بكثير على نتنياهو وشركائه بناء نظام استبدادي -وربما كانت ستنقذه من محاكمته بتهم الفساد.
مما لا شك فيه أن مشاريع قوانين الإصلاح القضائي خطيرة للغاية. وقد أثارت –عن حق- موجة هائلة من الاحتجاجات، حيث تظاهر مئات الآلاف من الإسرائيليين كل أسبوع. ولكن، في مواجهة هذا الانقلاب، تصرف معارضو نتنياهو مرة أخرى كما لو أن الاحتلال قضية غير ذات صلة. وعلى الرغم من أن القوانين المقترحة تمت صياغتها جزئيًا لإضعاف أي حماية قانونية قد تمنحها المحكمة العليا الإسرائيلية للفلسطينيين، إلا أن المتظاهرين تجنبوا ذكر الاحتلال أو “عملية السلام” البائدة خوفًا من أن يتم تشويه سمعتهم باتهامهم بأنهم غير وطنيين. وفي الواقع، عمل المنظِّمون على تهميش المتظاهرين الإسرائيليين المناهضين للاحتلال لتجنب ظهور صور الأعلام الفلسطينية في المظاهرات. وقد نجح هذا التكتيك، حيث ضمن عدم “تلوث” حركة الاحتجاج بالقضية الفلسطينية: فقد امتنع عرب إسرائيل، الذين يشكلون حوالي 20 في المائة من سكان البلاد، إلى حد كبير عن الانضمام إلى المظاهرات. لكنّ هذا جعل من الأصعب على الحركة تحقيق النجاح. فبالنظر إلى التركيبة السكانية في إسرائيل، يحتاج يهود يسار الوسط إلى الشراكة مع عرب البلاد إذا كانوا يريدون تشكيل حكومة. ومن خلال نزع الشرعية عن مكامن قلق عرب إسرائيل واهتماماتهم، فعل المتظاهرون بالضبط ما يريده نتنياهو وخدموا إستراتيجيته.
مع خروج العرب من المعادلة، استمرت المعركة حول الإصلاحات القضائية كشأن يهودي داخلي. وتبنى المتظاهرون علَم نجمة داود الأزرق والأبيض، وكان العديد من قادتهم والمتحدثين باسمهم من كبار ضباط الجيش المتقاعدين. وأظهر المتظاهرون أوراق اعتمادهم وأرصدتهم العسكرية، لمحاولة استعادة هيبتهم المتراجعة في اتجاه ألقى بظلاله على الجيش الإسرائيلي منذ غزو لبنان في العام 1982. وهدد طيارو الاحتياط، الذين يُعتبرون حاسمين لمدى استعداد وجاهزية القوات الجوية وقوتها القتالية، بالانسحاب من الخدمة إذا تم تمرير القوانين. وفي استعراض للمعارضة المؤسسية، تجاهل قادة الجيش الإسرائيلي نتنياهو عندما طالبهم بضبط وتأديب جنود الاحتياط.
لم يكن من المستغرب أن يتخاصم الجيش الإسرائيلي مع رئيس الوزراء. طوال حياته المهنية الطويلة، اشتبك نتنياهو مراراً مع الجيش، وكان أقوى منافسيه جنرالات متقاعدون أصبحوا سياسيين، مثل شارون ورابين وباراك -ناهيك عن بيني غانتس الذي جعله نتنياهو الآن جزءًا من حكومة الحرب الطارئة التي شكلها، ولكنه قد يتحداه ويخلفه في نهاية المطاف كرئيس للوزراء. ويرفض نتنياهو منذ فترة طويلة رؤية الجنرالات لإسرائيل قوية عسكريًا لكنها مرنة دبلوماسيًا. كما أنه سخر دائمًا من شخصياتهم التي يعتبرها داجنة، فاقدة للخيال، بل وحتى تخريبية. ولذلك لم يكن الأمر مفاجئًا عندما أقال وزير دفاعه، الجنرال المتقاعد يوآف غالانت، بعد ظهور غالانت على الهواء مباشرة في آذار (مارس) 2023 للتحذير من أن الانقسامات الإسرائيلية تركت البلاد عرضة للخطر، وأن الحرب أصبحت وشيكة.
أدت إقالة غالانت إلى المزيد من الاحتجاجات العفوية في الشوارع، وأعاده نتنياهو إلى منصبه. (ما يزال الرجلان خصمين لدودين، حتى بينما يديران الحرب معا). لكن نتنياهو تجاهل تحذير غالانت. كما تجاهل تحذيرًا أكثر تفصيلاً أصدره في تموز (يوليو) كبير محللي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية من أن الأعداء قد يضربون البلاد. ويبدو أن نتنياهو اعتقد أن مثل هذه التحذيرات كانت ذات دوافع سياسية، وأنها تعكس تحالفًا ضمنيًا بين القادة العسكريين الحاليين في مقر الجيش الإسرائيلي في تل أبيب والقادة السابقين الذين كانوا يحتجون في الشوارع.
من المؤكد أن التحذيرات التي تلقاها نتنياهو ركزت في الغالب على شبكة حلفاء إيران الإقليميين، وليس على “حماس”. وعلى الرغم من أن خطة “حماس” الهجومية كانت معروفة للمخابرات الإسرائيلية، ومع أن الحركة أجرت مناورات أمام مراكز المراقبة التابعة لـ”جيش الدفاع الإسرائيلي”، إلا أن كبار المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين فشلوا في تخيل أن خصمهم في غزة يمكن أن ينفذ خططه حقًا، ودفنوا أي اقتراحات تشير بعكس ذلك. كان هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، جزئيًا، فشلاً ذريعًا للبيروقراطية الإسرائيلية.
ومع ذلك، تبقى حقيقة أن نتنياهو لم يجر أي مناقشات جادة حول المعلومات الاستخباراتية التي تلقاها شيئًا لا يمكن الدفاع عنه، وكذلك رفضه تقديم تنازلات جدية للمعارضة السياسية ورأب الصدع في البلاد. وبدلاً من ذلك، قرر المضي قدمًا في انقلابه القضائي، بغض النظر عن التحذيرات الجدية وردود الفعل المحتملة. وأعلن بغطرسة: “يمكن لإسرائيل أن تعمل من دون سربين من سلاح الجو، ولكن ليس من دون حكومة”.
في تموز (يوليو) 2023، أقر البرلمان الإسرائيلي أول قانون قضائي، في قفزة بارزة أخرى لنتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف. (قامت بإلغائه المحكمة العليا في نهاية المطاف، في كانون الثاني (يناير) 2024). واعتقد رئيس الوزراء أنه سيرتقي بنفسه أكثر في القريب من خلال إبرام اتفاق سلام مع المملكة العربية السعودية، أغنى وأهم دولة عربية، كجزء من صفقة ثلاثية تضمنت اتفاقية دفاع أميركية سعودية. وستكون النتيجة النصر النهائي للسياسة الخارجية الإسرائيلية: تحالف أميركي – عربي – إسرائيلي ضد إيران ووكلائها الإقليميين. وبالنسبة لنتنياهو، كان من الممكن أن يكون ذلك تتويجًا للإنجاز الذي جعله محبوبًا وعزيزًا على التيار الرئيسي في البلاد.
كان رئيس الوزراء واثقًا من نفسه لدرجة أنه في 22 أيلول (سبتمبر)، ارتقى منصة “الجمعية العامة للأمم المتحدة” للترويج لخريطة لـ”الشرق الأوسط الجديد”، تتمحور حول إسرائيل. وكان ذلك سخرية متعمدة من منافسِه الراحل بيريز، الذي كان قد صاغ هذه العبارة بعد توقيع اتفاقات أوسلو. وقال نتنياهو متفاخرًا في خطابه: “أعتقد أننا على أعتاب انفراجة أكثر دراماتيكية: إبرام سلام تاريخي مع المملكة العربية السعودية. وأوضح أن الفلسطينيين لم يعودوا أكثر من مسألة ثانوية لكل من إسرائيل والمنطقة الأوسع. وقال: “يجب ألا نعطي الفلسطينيين حق نقض (فيتو) على معاهدات السلام الجديدة”. الفلسطينيون يشكلون اثنين في المائة فقط من العالم العربي”. وبعد أسبوعين من ذلك، هاجمت “حماس” وحطمت خطط نتنياهو.
بعد الانفجار
حاول نتنياهو وأنصاره تحويل اللوم بعيدًا عنه في 7 تشرين الأول (أكتوبر). وهم يجادلون بأن رئيس الوزراء تعرض للتضليل من قادة الأمن والمخابرات الذين فشلوا في إطلاعه على تنبيه اللحظة الأخيرة بأن ثمة شيئًا مريبًا يحدث في غزة (على الرغم من أنه تم تفسير هذه التحذيرات على أنها مؤشرات على احتمال هجوم صغير، أو مجرد ضوضاء). وكتب مكتب نتنياهو على “تويتر” بعد عدة أسابيع من الهجوم: “لم يتم تحذير رئيس الوزراء نتنياهو تحت أي ظرف من الظروف وفي أي مرحلة من نوايا “حماس” شن حرب. على العكس من ذلك، كان تقييم القيادة الأمنية بأكملها، بما في ذلك رئيس المخابرات العسكرية ورئيس الشاباك، هو أن “حماس” قد تم ردعها وأنها تسعى إلى التوصل إلى ترتيب”. (اعتذَر نتنياهو لاحقًا عن المنشور).
لكن عدم الكفاءة العسكرية والاستخباراتية، مهما كانت قاتمة ومخيِّبة، لا يمكن أن تحمي رئيس الوزراء من اللوم -وليس فقط لأن نتنياهو، بصفته رئيسا للحكومة، يتحمل المسؤولية النهائية عن كل ما يحدث في إسرائيل. إن سياسته المتهورة قبل الحرب والمتمثلة في تقسيم الإسرائيليين جعلت البلاد عرضة للخطر، مما أغرى حلفاء إيران بضرب مجتمع ممزق. وقد ساعد إذلال نتنياهو المستمر للفلسطينيين على ازدهار التطرف. وليس من قبيل المصادفة أن تطلق “حماس” على عمليتها اسم “طوفان الأقصى” وأن تصور الهجمات على أنها وسيلة لحماية الأقصى من استيلاء اليهود عليه. وقد نُظر إلى حماية الموقع الإسلامي المقدس كسبب لمهاجمة إسرائيل ومواجهة العواقب الوخيمة الحتمية لهجوم مضاد يشنه الجيش الإسرائيلي.
لم يعفِ الجمهور الإسرائيلي نتنياهو من المسؤولية عن 7 تشرين الأول (أكتوبر). وقد تراجع حزب رئيس الوزراء في استطلاعات الرأي، وتراجعت شعبيته أيضًا، على الرغم من أن الحكومة تحتفظ بأغلبية برلمانية. ويتم التعبير عن رغبة البلاد في التغيير في أكثر من مجرد استطلاعات الرأي العام. فقد عادت النزعة العسكرية عبر كامل الطيف. وسارع المتظاهرون المناهضون لـ”بيبي” إلى أداء واجباتهم في الخدمة الاحتياطية على الرغم من الاحتجاجات، حيث حل المنظمون السابقون المناهضون لنتنياهو محل الحكومة الإسرائيلية المختلة في رعاية الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من جنوب البلاد وشمالها. وسلَّح العديد من الإسرائيليين أنفسهم بمسدسات وبنادق هجومية، بمساعدة من حملة بن غفير لتخفيف لوائح امتلاك الأسلحة الصغيرة الخاصة. وبعد عقود من الانخفاض التدريجي، من المتوقع أن ترتفع ميزانية الدفاع بنحو 50 في المائة.
ومع ذلك، فإن هذه التغييرات، على الرغم من أنها مفهومة، هي مجرد تسارعات، وليس تحولات. ما تزال إسرائيل تتبع نفس المسار الذي قادها نتنياهو فيه لسنوات. وقد أصبحت هويتها الآن أقل ليبرالية ومساواة، وأكثر اتسامًا بالعرقية القومية والعسكريتارية. ويهدف شعار “متحدون من أجل النصر”، الذي يظهر في كل زاوية شارع وعلى كل حافلة عامة وفي كل قناة تلفزيونية في إسرائيل، إلى توحيد المجتمع اليهودي في البلاد. وقد منعت الشرطة مرارًا وتكرارًا الأقلية العربية في الدولة، التي أيدت بأغلبية ساحقة وقفًا سريعًا لإطلاق النار في غزة وتبادلاً للأسرى، من تنظيم احتجاجات عامة. وتم توجيه اتهامات قانونية إلى عشرات المواطنين العرب بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعبر عن تضامنهم مع الفلسطينيين في غزة، حتى لو أنها لم تدعم أو تؤيد هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر). وفي الوقت نفسه، يشعر العديد من اليهود الإسرائيليين الليبراليين بالخيانة من نظرائهم الغربيين الذين، من وجهة نظرهم، وقفوا إلى جانب “حماس”. وهم يعيدون التفكير في تهديداتهم قبل الحرب بالهجرة من البلد للابتعاد عن الاستبداد الديني لنتنياهو، وتتوقع شركات العقارات الإسرائيلية قدوم موجة جديدة من المهاجرين اليهود الذين يسعون إلى الهروب من معاداة السامية المتزايدة التي يعانون منها في الخارج.
الآن، تمامًا كما كان الحال في أوقات ما قبل الحرب، لا يفكر أي يهودي إسرائيلي تقريبًا في كيفية حل الأزمة الفلسطينية سلميًا. اليسار الإسرائيلي، الذي كان مهتمًا، تقليديًا، بالسعي إلى السلام، انقرض الآن تقريبًا. ويبدو أن الحزبين الوسطيين بزعامة غانتس ولابيد، اللذين يعبران عن حنينٍ إلى إسرائيل القديمة الجيدة قبل نتنياهو، يشعران الآن بأنهما في المنزل في المجتمع العسكري الجديد، ولا يريدان المخاطرة بشعبيتهما السائدة من خلال تأييد مفاوضات على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام. واليمين الآن أكثر عداء للفلسطينيين مما كان عليه في أي وقت مضى.
لقد ساوى نتنياهو بين “السلطة الفلسطينية” و”حماس”، ورفض -حتى كتابة هذه السطور- المقترحات الأميركية لجعل “السلطة” حاكمة لغزة بعد الحرب، مدركًا أن مثل هذا القرار سيكون من شأنه أن يحيي فكرة حل الدولتين. ويريد رفاق رئيس الوزراء اليمينيون المتطرفون إخلاء غزة ونفي الفلسطينيين إلى بلدان أخرى، وصنع نكبة ثانية يكون من شأنها أن تترك الأرض مفتوحة أمام بناء مستوطنات يهودية جديدة. ولتحقيق هذا الحلم، طالب بن غفير وسموتريتش نتنياهو برفض أي نقاش حول ترتيب ما بعد الحرب في غزة يمكن أن يبقي الفلسطينيين في السلطة، وطالبوا الحكومة برفض التفاوض من أجل إطلاق سراح المزيد من الرهائن الإسرائيليين. كما ضمنوا أن لا تفعل إسرائيل أي شيء لوقف الهجمات الجديدة التي يشنها المستوطنون اليهود على السكان العرب في الضفة الغربية.
إذا كان الماضي ليشكل سابقة يمكن الاستشهاد بها، فإن حالة البلد ليست ميئوسًا منها تمامًا. ويشير التاريخ إلى أن هناك فرصة لعودة النزعات التقدمية، وربما يفقد المحافظون نفوذهم. بعد هجمات كبرى سابقة، تحول الرأي العام الإسرائيلي في البداية إلى اليمين، لكنه سرعان غيَّر مساره بعد ذلك وقبِل بالتسويات الإقليمية مقابل السلام. أدت حرب “يوم الغفران”، (تشرين الأول/ أكتوبر) 1973 في نهاية المطاف إلى السلام مع مصر. وأدت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي بدأت في العام 1987، إلى “اتفاقات أوسلو” والسلام مع الأردن. وانتهت الانتفاضة الثانية، التي اندلعت في العام 2000، بالانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة.
لكن فرص تكرار هذه الدينامية تبدو ضئيلة. لا توجد جماعة أو زعيم فلسطيني تقبله إسرائيل كما فعلت مع مصر ورئيسها بعد العام 1973. “حماس” ملتزمة بتدمير إسرائيل، و”السلطة الفلسطينية ضعيفة”. كما أن إسرائيل نفسها أيضًا ضعيفة: لقد شرعت وحدتها في زمن الحرب تتصدع بالفعل، والاحتمالات كبيرة لأن تزيد البلاد من تمزيق نفسها- إذا وعندما يتضاءل القتال. ويأمل المناهضون “البيبيين” في الوصول إلى “البيبيين” المحبطين واستمالتهم وفرض انتخابات مبكرة هذا العام. وسوف يعمد نتنياهو، بدوره، إلى إثارة المخاوف والتشبث بمواقفه. وفي كانون الثاني (يناير) اقتحم أقارب الرهائن اجتماعًا برلمانيًا لمطالبة الحكومة بمحاولة إطلاق سراح أفراد أسرهم، في جزء من معركة تدور بين الإسرائيليين حول ما إذا كان ينبغي على البلاد إعطاء الأولوية لهزيمة “حماس” أو التوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح الأسرى المتبقين. ولعل الفكرة الوحيدة التي هناك وحدة حولها هي معارضة أي اتفاق على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام. بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أصبح معظم اليهود الإسرائيليين يتفقون الآن على أن أي تنازل آخر عن الأراضي سيمنح المسلحين منصة انطلاق لتنفيذ المجزرة التالية.
وإذن، قد يبدو مستقبل إسرائيل في نهاية المطاف مشابهًا إلى حد كبير لتاريخها في الآونة الأخيرة. وسواء كان ذلك مع نتنياهو أو من دونه، سوف تبقى “إدارة الصراع” و”جز العشب” هما سياسة الدولة –وهو ما يعني المزيد من الاحتلال والمستوطنات ونزوح الفلسطينيين. وقد تبدو هذه الإستراتيجية هي الخيار الأقل خطورة، على الأقل بالنسبة للجمهور الإسرائيلي الذي يعاني من أهوال 7 تشرين الأول (أكتوبر) ويصم آذانه عن الاقتراحات الجديدة للسلام. لكنه لن يؤدي سوى إلى المزيد من الكوارث. لا يمكن للإسرائيليين أن يتوقعوا الاستقرار إذا استمروا في تجاهل الفلسطينيين ورفض تطلعاتهم، وقصتهم، بل وحتى وجودهم نفسه.
هذا هو الدرس الذي كان ينبغي للبلد أن يتعلمه من تحذير زمن ديان القديم. يجب على إسرائيل أن تمد يدها إلى الفلسطينيين، وإلى بعضها البعض، إذا كانت تريد تعايشًا محترمًا وصالحًا للعيش.
*ألوف بنAluf Benn: صحفي إسرائيلي ومؤلف، ورئيس تحرير صحيفة ”هآرتس” اليومية الإسرائيلية الليبرالية. بدأ العمل في صحيفة “هائير” Ha’ir في العام 1986. وانتقل إلى صحيفة “هآرتس” في العام 1989، حيث شغل مناصب مختلفة، بما في ذلك محرر ليلي وصحفي استقصائي ورئيس قسم الأخبار، وكتب عن المسائل الأمنية. نشرت مقالاته في مجموعة متنوعة من الصحف الدولية، بما في ذلك “نيويورك تايمز”.