“في العنصرية الثقافية: نظريات ومؤامرات وآداب”، كتاب صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يتناول في فصوله السبعة معاني العنصرية وأنواعها وفلسفاتها وتطور نظرتها مع التغيرات السياسية التي تضرب الكوكب الذي بات قرية صغيرة في ظل العولمة، والتغييرات التي طرأت عليه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وإفرازاتها الأدبية والفكرية لدى شخصيات أدبية أنتجت نظريات شهيرة، مثل: صامويل هنتنغتون ونظريته “صراع الحضارات”، وفرانسيس فوكوياما ونظريته “نهاية التاريخ”، وجان راسباي ونظريته عن “المؤامرة”، وبرنارد لويس ونظريته عن “الصراع الإسلامي المسيحي”، وأوريانا فالاتشي ونظريتها عن “أسْلَمَة المهاجرين إلى أوروبا وجعل أهلها ذميِّين” تمهيدًا للقضاء على إسرائيل وقتل اليهود، وميشيل ويلبيك الذي قدّم نظرية بمضمون نظرية فالاتشي ذاته، وكارين تويل وغريغ هربك وجون أبدايك الذين قدموا روايات تدعم الفكر الإسلاموفوبي، وغيرهم. فضلًا عن تبيان لاعلمية النظريات والطروحات والخطابات العنصرية، ونقد فرضياتها، وإظهار خطئها وقصورها وانحيازها، والتعريف بالثقافة والمآخذ على طريقة فهمها في الغرب، وعلاقة الثقافة بالديمقراطية. يمثل الكتاب قيمة علمية لما كشفه من أفكار كانت مغيَّبةً عن القرّاء العرب.
يعالج الكتاب الذي جاء في في 264 صفحة، إشكاليةَ تحوّل العنصرية في العقود الأخيرة من “العنصرية البيولوجية” القائمة على افتراض وجود أعراق متمايزة بصفات وراثية ثابتة تحتِّم تمايزًا بين الدول والشعوب والجماعات سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو من حيث القدرات العقلية أو الصفات الأخلاقية، كما أنها عنصرية ترتّب الأعراق هرميًّا من الأسمى إلى الأحطّ، إلى “العنصرية الثقافية” التي تقسّم الشعوب ثقافيًّا، وتجعل لكل منها صفات ثقافية متوارثة من الأسمى إلى الأحطّ كذلك، كما تقوم على ركيزتين: الأولى، تحديد صفات جوهرانية ثابتة لثقافة شعب أو جماعة معينَين، والثانية، تعميم هذه الصفات على المنتسبين بالولادة إلى دولة تلك الثقافة.
في القرنين العشرين والحادي والعشرين سقطت النظرية العرقية بالتزامن مع أحداث ثلاثة: زوال النظام النازي في ألمانيا، وتأسيس الأمم المتحدة، وتأسيس منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” التي من أهم أهدافها القضاء على التمييز العنصري، وما تلاها من إجماع غربي على رفض العنصرية وتجريمها، وظهور حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأميركية، وإلغاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في عام 1994، ونهاية الحرب الباردة، وصعود موجة النيوليبرالية في الثمانينيات التي أنهت الانقسام التقليدي في الديمقراطيات الغربية على الأساس الهُوياتي الذي كان سائدًا.
وفي حركة مضادة، ظهرت في التسعينيات نظريات تقسّم العالم حضاريًّا، وأخرى تبرِّر التفاوت الاقتصادي محليًّا وعالميًّا باختلاف الثقافات. كانت الذروة مع أحداث 11 سبتمبر وما أعقبها من غزو أميركي لأفغانستان والعراق، وانتعاش خطابات ونظريات وآداب تضع الإسلام في موضع النقيض والعدوّ للغرب، ثم اكتمل المشهد مع الهجرة الواسعة إلى أوروبا في عامَي 2014 و2015، لتَشْخَصَ العنصريةُ الثقافية من جديد أمام ناظرَي البشرية معلنةً التحدي الصارخ.
إن رصد تحوّل العنصرية إلى “تثبيت” صفات للثقافات بدلًا من الأعراق، والحكم على نظريات أو طروحات أو خطابات معينة بالعنصرية، ليسا غايتَي هذا الكتاب، فهو يُعنى خاصةً بتبيان لاعلمية هذه النظريات والطروحات والخطابات، ونقد فرضياتها، وإظهار خطئها وقصورها وانحيازها، ومن ثم دراسة ظاهرة العنصرية الثقافية دراسة عبر-تخصُّصية، تنقد مرجعياتها الفكرية، وكذلك نظريات المؤامرة، وصولًا إلى منتجات الإسلاموفوبيا بعد أحداث 11 سبتمبر.
عند مقاربتنا أي نظرية سياسية تعطي الثقافة أهمية، يجب علينا طرح سؤالين أساسيين: هل تحدد هذه النظرية صفات جوهرانية ثابتة لكل ثقافة من الثقافات وتعمّمها على معظم أبناء الثقافة المدروسة؟ وهل تفسّر الظواهرَ السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الصفات في الثقافة/ الشعب أو تقارب الثقافة بوصفها ظاهرة لاتاريخية معزولة عن الظروف السياسية والاقتصادية للمجتمع؟
أهمّ أفكار البحث ونتائجه
أولًا: مع تصور الفهم الشائع جواهرَ ثابتةً لذاته وللأفراد والجماعات والشعوب المختلفة عن ذاته، فإن أحكامه في حقها تكون تنميطية ومسبقة، وينزع معها إلى “أخْرَنَة” هذه الجماعات (جعْلها آخرَ نقيضًا)، وبخاصة في حالة الصراع، ففي جوِّه المحموم تستغلّ نخبٌ نخبًا أخرى تحت شعارات حماية الجماعة أو الشعب أو الوطن أو الدين أو التقاليد، وعبرَ إثارة المخاوف من الآخرين “المختلفين”، سواء أكانوا حركات تحرّرية أم أقليات أم مهاجرين أم دُوَلًا أم منظمات دولية، لتحقيق مصالح أفراد وليس الجماعة التي تدعي تلك النخب تمثيلها.
ثانيًا: شاعت تفسيرات في العقود الثلاثة الأخيرة، ثقافوية حصرًا، لتقدُّم الدول والشعوب والجماعات وتأخُّرها، أو غِناها وفقرها، أو ظواهر مجتمعاتها الإيجابية والسلبية، واختزل مَن يسمَّون باحثين، ثقافاتٍ ضاربةً في القدم وشديدة الاتساع والتنوّع ببضع صفات، وإيهام الناس بأنها ثابتة ومتوارثة فيها، فضلًا عن عزو سلوكات الأفراد وأحوال السياسة والاقتصاد والاجتماع إلى هذه الصفات “الجوهرانية” المفترَضة. ولا بد هنا من نقد هذه التفسيرات الثقافوية، بسبب لاعِلميّتها وخطورتها؛ فأما لاعِلميّتها فتتمثل في الاستهتار بالعلم عند حصر مختلف الظواهر بالثقافة، وعزل تفاعل الثقافة مع ظروف تشكُّلها، وتقديمها بوصفها ظاهرة لاتاريخية و”فوق-مجتمعية” تؤثّر في كلّ شيء ولا تتأثر بشيء. أما خطورتها، ففي جعل الخصائص الثقافية ثابتةً في الشعب وتبرئة السلطات مما هي متسبِّبٌ أساسي فيه؛ أي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما تكمن الخطورة في سهولة استحضار التفسيرات الثقافوية في أي صراع سياسي، داخلي أو خارجي، وتحويله طائفيًّا أو قَبَليًّا أو هوياتيًّا.
ثالثًا: من المظاهر الشائعةِ للعنصرية الأحكامُ المسبقة لكل جماعة حول الجماعة الأخرى، خصوصًا عندما تكونان في صراع على الموارد، ووضعها أسُسًا زائفة للتمييز تستخدمها لتحشيد الأفراد وإرسالهم بضمير مرتاح لكي يَقتُلُوا ويُقتَلُوا. والعنصرية البيولوجية السالفة الذكر أخطر أنواع العنصرية، وما محرقة غزة في الفترة 2023-2024 إلا أكبر شواهدها، فضمن البلد الواحد يكون من يسعِّر العنصرية الفئات الحاكمة في الغالب، بهدف تأبيد سيطرتها، أما على الصعيد الدولي فالطرفُ الأقوى، الذي يُنتج عنصرية لاستخدامها في تبرير غزوه دولًا أخرى وتدعيم هيمنته الإمبراطورية، وفي داخل بلدان الأطراف القوية تَستخدم الأحزاب المهيمِنة أو الساعية إلى السلطة، مع صعود سياسات الهوية في الديمقراطيات الغربية، خطابًا عنصريًّا ثقافيًّا ضد المهاجرين، أو المواطنين “غير الأصلاء”، يحمِّلهم مسؤولية الأزمات الاقتصادية ويركّز على صيغٍ مجترّة، مثل: “الكرامة” و”الهوية الثقافية” و”استعادة الوطن المسروق”، وغيرها، لمجرد كسب أصوات الطبقات العاملة والمتضررة من العولمة.
رابعًا: رفض مقولة “الاستثناء العربي” أو “الاستثناء الإسلامي” في مسألة الانتقال الديمقراطي، فإن ما يسمونه “نظريات التحديث”، التي تربط العامل الثقافي بالديمقراطية، تهدف عندما تَسِمُ ثقافاتٍ بالتعارض مع الديمقراطية إلى تبرير الدعم الغربي لأنظمة دون أخرى في العالم، فقد وضع هنتنغتون نظرية “صدام الحضارات” لتبرير توسُّع الإمبراطورية الأميركية بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، بخاصة في المناطق الإسلامية، التي عدّها عدوًّا، بل “نقيضًا” للحضارة الغربية، بينما جاءت نظرية فوكوياما “نهاية التاريخ” لإقامة جدار عازل بين الشعوب الغربية التي بلغت نهاية التاريخ برأيه، وبين سائر الشعوب التي ما زالت تعيشه. في حين جسدت قراءة برنارد لويس المانوية للتاريخ (قراءة التاريخ بوصفه صراعًا مستمرًّا) صراعًا أزليًّا بين المسيحية والإسلام، معتبرًا أن هناك تناقضًا حدّيًّا بين العالمَين الإسلامي و”اليهو-مسيحي”، وما ذلك إلا لتبرير دعم الغرب السياسات والممارسات الإسرائيلية عبر تقديم الإرهاب منتَجًا إسلاميًّا أصيلًا.
خامسًا: مهّدت هذه النظريات السياسية لصناعة نظريات مؤامرةٍ غايةً في الخطورة والعنصرية، ليس في بنائها الفكريّ بالتأكيد، فهي متهافتة وتربط بين ظواهر لا علاقة بينها، بل في تبنّيها من نخب نافذة، وتحوُّلِها جزءًا رئيسًا في كل أيديولوجيا متطرفة تُبرِّر العنف، مثل نظرية “الاستبدال العظيم”، التي ترى في هجرة المسلمين إلى أوروبا مؤامرةً هدفُها أسلمة أوروبا وإبادة أهلها البيض “الأصليين” وجعلهم أهل ذمة، وكذا نظرية أورابيا، التي ترى أن “تعريب أوروبا وأسلَمَتُها” وسيلة لغاية أبعد هي إزالة إسرائيل وإبادة اليهود.
وقد استَبَعدت نظرياتُ المؤامرة أيَّ تفسيرات علمية لظواهر الهجرة، وصوَّرت المسلمين متبنِّين نظامًا اعتقاديًّا واحدًا، ولملمت خيوط حوادث وظواهر وتصريحات لا علاقة بينها البتة لتحيك بها “مؤامرة كبرى” مزعومة، ومتَّنت دعاماتها ببث خطاب الإسلاموفوبيا في وسائل الإعلام، ومن أهم مقولات هذا الخطاب اعتبار العرب المسلمين غزاةً طارئين؛ لنفي الوجود العربي في مصر والعراق والشام، وفي فلسطين على وجه الخصوص، ومنها أن الجهادية نشرت الدين بقوة السيف، وأن الجزية والذمّية اضطهاد مذلٌّ للأقليات، وأن المسلمين يتكاثرون بمعدلات غير طبيعية.
سادسًا: تأدية الأدب دورًا مهمًّا في تشويه صورة “غير-الأوروبيين” وتعزيز مخاوف الناس من هجرتهم، بتمثيلهم عنصريًّا بصورة المتخلّفين الهمج العديمي الأخلاق، وقد ساهمت رواية معسكر القديسين لجان راسباي – على سبيل المثال لا الحصر – في نظريات المؤامرة والتكوين الفكري لزعماء اليمين المتطرّف، فأشاد بها اليمين الفرنسي، وحوَّلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى قرارات تنفيذية، وخطا الغرب بمجمله خطوات نحو تحويل ثيمة “غزو المهاجرين” من العنصرية البيولوجية إلى العنصرية الثقافية، بعد تصوير خطاب الإسلاموفوبيا الشعوبَ الإسلامية المهاجرة خطيرةً ومتخلّفةً ومدمّرةً للحضارة، لا بسبب أعراقها المتدنّية بل بحكم ثقافاتها المتدنّية، تمهيدًا لـ “نزع الصفة البشرية” عنها وتسعير خطاب الكراهية ضدها؛ فقد استمر الروائيون في تغذية تنّور الأفكار المتطرفة بالحطب وإمداد القارئ الغربي بما تعوَّد سماعه عن الإسلام والعنف والغموض والشهوانية، وكذا الإرهاب لتنفيذ أوامر إسلامية تجرّد الإرهابي من إرادته، وقدموا المسلمين المقيمين، ولو حملوا الجنسية الغربية، بوصفهم أعداءً يحملون منظومة فكرية مناقضة وينتمون إلى عالم آخَرَ مناقض.
سابعًا: من الضروري نقد مقولات العنصرية الثقافية التي تزداد انتشارًا بحكم العولمة، بتبيان خطورتها، وكيف تُستخدَم، ولمصلحة مَن، وبخاصة في الدول العربية، التي تُستخدَم فيها هذه المقولات وإلصاق تُهمة “الإرهاب الإسلامي” بمعارضي أنظمتها، لتبرير قمعهم ووأد ثوراتهم وإبادتهم، إلى درجة تقمّص “النظام الوطني” روح المستعمِر وتبنّيه الخطاب الاستعماري، وحتى قبوله بدعم خارجيّ في حربه ضد شعبه، ولو اضطر إلى وصمه كله بالإرهاب، في توصيف عنصري ثقافي بلا شك.
ثامنًا: إن استخدام زعماء اليمين الشعبوي الشوفيني المتطرف في الغرب شعارات التمييز العنصري و”القومية البيضاء” ضد المهاجرين ما هو إلا لإيقاظ غرائز القوة ومشاعر الكراهية لدى أنصارهم وكسب أصواتهم الانتخابية بصفتهم جماعات متطرفة لا تتردد في ممارسة العنف. كما تساهم هذه الشعارات على الصعيد الدولي في تبرير تحالف دول ليبرالية بلغت مرحلة متقدمة من حماية حقوق الإنسان مع أنظمة تسلّطية ذات سجل أسود في هذه الحقوق.