لا يبدي الروائي البرتغالي، خوسيه ساراماغو، الحد الأدنى من الإستغراب في روايته “انقطاعات الموت” (منشورات الجمل)، حيال حرص مافيا تجارة الجثث على التمسّك بالسيادة المطلقة على مناطق نفوذها، بعكس الحال مع أهل السلطة في تلك البلاد المتخيلة التي تدور فيها أحداث الرواية، ذلك أن مجمل السرد في هذا العمل ومنذ بداياته الأولى يفضي إلى ضرورة سيادة هذه المافيا على حدودها الجغرافية. فهذا أمر لا يطاوله النقاش من قريب أو من بعيد، وهو ما لا ينطبق على الدولة حيث تجري أحداث الرواية، إذ أن حدود هذه الدولة سائبة متفلتة، وهو ما يؤدي بالتالي إلى خضوع قرارات دولة “انقطاعات الموت”، حتى المصيرية منها، إلى مزاج التجارة المافيوية بالجثث عبر الحدود وفي داخل الدولة.
يعلّمنا التاريخ أن الجثة يجب أن تحافظ على ولائها لباطن الأرض. بيد أن مافيا الجثث، ولأن وجودها في العالم يقوم على هذه الجثث، تأبي الركون إلى دروس التاريخ، فإذا بجثث تجارتها تشكّل في مضمونها الأعم، أسلاكاً شائكة لجغرافيتها شديدة الصرامة والتيقّظ والإنضباط. تكفّ الجثة، حسب التداول المافيوي لها، عن أن تكون سرداً مضاداً للحياة، بل تُلقى هذه الجثة لدى قادة هذه المافيا، كمهماز أو بوصلة يحدّد حجم هذه المافيا في العالم. لا تحتاج مافيا المتاجرة بالجثث، كما بثّها ساراماغو في حكيه – أكاد أن أقول عن لبنان – لا تحتاج إلى ترويض أمزجة ناسها بغية القبول بهذا الواقع الكارثي. ذلك أن الموت بعامة هو التجلّي الأول لهذه المافيا، وكل جثة بالتالي هي انعكاس لتجلي البدء هذا، أي لجعل الموت مستساغاً في كل آن وحين.
يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، إن الجسد هو الحقل الأكثر توظيفاً للسلطة، أما ناس المتاجرة بالجثث فيرون في الجثة حقل الإمكان الأول لوجودهم السلطوي، لنشاطهم الجهادي في الحياة، وصولاً إلى شؤونهم اليومية. فالجسد هو حدث مؤقت في سياقات هؤلاء. أما الجثة فهي الحدث الدائم… الجسد الحي واقعة طارئة، أما الجثة فتمتاز بالديمومة، ذلك أنها في نهاية الأمر تبث سادة المافيا بالحياة.
كعادته السردية، لا يشير ساراماغو بوضوح في “انقطاعات الموت” إلى تلك الفصاحة التي تتمتع بها الجثث بالنسبة إلى المتاجرين بها، بيد أن كثيرة هي المقاطع في هذه الرواية والتي تهمس بالحقيقة التالية: إن الجثث حاجة المنابر بعامة، بالنسبة للمتاجرين بها، فالكلام المنبري – كما يلمّح ساراماغو – لا يستمدّ وهجه من محض فصاحة اللسان ومتانة القول وبنيانه، إنما من متانة الجثث، من انتشارها ومن شيوعها في كل مكان وزمان. فالجثة في الكلام المنبري ليست صدفة يتمّ ابتكارها أو واقعة ملتبسة الملامح والقسمات، بل تراها ترقى في هذه المنبريات إلى مصاف حدث ترميمي للذاكرة التاريخية، لكنها أيضاً، وفي الوقت نفسه، حاجة ماسة لتماسك الحاضر والإلتفاف عليه إذا ما اقتضت الحاجة.
لا يحتاج متلقّي رواية “انقطاعات الموت” إلى عُدّة تأويلية ساحقة ماحقة بغية الوقوف على الشرط الذي يربط المتاجرة المافياوية بالجثث، بحرص هذه المافيا على عدم تراخي قبضتها الحديدية من فوق حيزها الجغرافي، كما بثّ الأمر ساراماغو في هذا العمل الرائع. لكن بعض النبش في متون الرواية يبيّن أنّ أنظمة القول والخطاب في هذه الجغرافيا، تقوم على شيوع الجثث وازدهارها… على الأشلاء الممزقة وعلى اللحم المسفوع بسبب جم الحرائق ووبالها، وتقوم أكثر ما تقوم على روبصات تستقي ثقتها في العالم من محض صورة للعالم وكأنه عظام، ولا أخال أن هؤلاء بمنأى عن ذلك الترادف الذي تقيمه اللاتينية بين الصورة image والعظام ossa. فبالنسبة إلى تجار الجثث – ودائماً بحسب ساراماغو – لا حدود واضحة بين العظام وصورة العالم. فبالنسبة إلى هؤلاء، الأمر سيان، أن يحفل العالم بالجثث، أو تحفل الجثة بالعالم.
لا أخفي أن ثمة إغواء لدى التطرق بالحديث عن الجثث، لكن هذا الإغواء يضمحلّ عندما تتحول الحياة إلى سرّ في طي الجثث، أو عندما تتحول الجثث إلى جدران تحمي سيادة هذه الجماعة المافيوية أو تلك فوق بقعة من هنا وأخرى من هناك.