أثناء مناقشة تناولت كيفية طيّ صفحة الحرب الأهلية في بلاده، أطلع ديبلوماسيّ سريلانكي كاتب هذه السطور، قبل بضعة أشهر، على المنظار الذي أفضى بالنصر للقوم الأكثري، السينهاليون البوذيون، على التاميل الهندوس، بعد أزيد من ربع قرن من القتال.
إذ ذهب الديبلوماسي المحنّك إلى أن ما صنع الحسم في تجربة بلاده أنّ القوات الحكومية عمدت إلى تحقيق «التزامن» بين الإطباق على معاقل «نمور تحرير إيلام التاميل» في شمال الجزيرة وبين تصفية قادة الفصيل، بدءاً من زعيمه فيلوبيلاي برابهاكاران في مايو 2009.
ولو أنّ الإطباق حصل من دون التمكن من تصفية القادة، أو لو أن تصفيتهم حدثت من دون تقويض المساحة المتمردة، لما أمكن الحسم، هكذا قال. لأمكن النمور إعادة تجميع قيادتهم بالمنفى بعد خسارتهم الأرض، بما يعيد تنبيت التمرّد من جديد تدريجياً. ولو أنهم خسروا قياداتهم واستمروا محتفظين بمعاقلهم، لأعادوا إنتاج قيادة بدم جديد، وما انتهت الحرب.
«التزامن» بين اقتحام المعاقل وبين تصفية قادة التمرد هو إذاً بحسب هذا الدبلوماسيّ زبدة التجربة السريلانكية في حسم حرب أهلية استمرت كل هذه السنين، من دون أي تنازل للنمور في نهاية المطاف، وبما لا يظهر اليوم بعد ذلك أنه سوف تقوم لهؤلاء النمور قائمة.
وليس هذا، على ما يظهر – بالمقارنة مع حال البلدان الأخرى المنكوبة بالاقتتال الداخلي – هو الدأب في الحروب الأهلية. فالغالب فيها ليس بالغالب المطلق على الصعيد الإثني – الأهلي، إلا في سريلانكا. المدهش أن هذا ما حصل بعد سنوات قليلة من توسّع مناطق سيطرة نمور التاميل بشكل يفيض كثيراً عن الحجم الديموغرافي ورقعة الوجود الجغرافي التاريخي للإثنية التي يحاربون باسمها. وأنّ هزيمة التاميل في سيلان لم تحدث نقمة بين تاميل جنوب الهند تحملهم على البعث بكتائب الإنجاد لأخوتهم، هذا مع أن القضية التاميلية – الدرافيدية في جنوب الهند ملتهبة، بوجه الهيمنة «الآرية- الشمالية» على البلاد.
أي بالاختصار : «أمة» التاميل سكتت، وتركت تاميل ايلام (سيلان) لحال سبيلهم. كذلك، بالنسبة إلى «أمة» الهندوس: مليار هندوسي في الهند لم يتدخلوا لثني بوذيي الجزيرة عن حسم الحرب الأهلية بشكل لا مراجعة فيه.
يظهر اليوم أن استراتيجية الجيش الإسرائيلي تحاكي شيئاً من هذا: تحقيق الترابط التزامني بين تقويض معاقل حركة حماس في غزة وبين تصفية قادتها السياسيين في الخارج، والميدانيين في القطاع. قتلهم جميعاً الواحد بعد الآخر، إنما بالتزامن مع الإطباق على المعاقل، بدلاً من أن تتعارض سرعة الإطباق مع سرعة التصفيات. التعويل إذاً على «السنكروني». تحقيق عملين في وقت واحد.
إن الاستئصالية لطالما كانت عنصراً مساهماً في إعادة شحن بطارية الإسلام الحركي بدلاً من التعجيل في نضوب طاقتها
يعني ذلك بالدرجة الأولى أن قرار إسرائيل الفعلي لم يزل هو هو منذ 7 أكتوبر: القضاء على حركة حماس. بالشكل الذي حققه نظام السينهالا في سريلانكا بوجه نمور أحرار ايلام التاميل. أي بتقويض المعاقل، وتصفية القيادات. ومن دون تقديم مهمة زمنية من الاثنتين على الأخرى. هذا يطرح المغزى أساساً من المفاوضات الدائرة بخصوص ملف الرهائن ووقف النار.
ليس هذا فقط. لقد طورت إسرائيل تصوراتها حول «مكافحة أعمال التمرد» انطلاقاً من انخراطها في الحرب السريلانكية! كيفية القضاء على نمور التاميل أظهرت أنه بالفعل يمكن تصفية منظمة تخوض حرب غوار عاتية لمرحلة طويلة ولها حيثية عميقة بين أبناء جلدتها. لكن إسرائيل ليست مجرد «مقتبسة» للدرس السريلانكي. لقد شاركت على نحو حثيث في صنعه. وأكثر: من دون فهم دور إسرائيل في سريلانكا هناك شيء سينقص لجهة المقدرة على فهم «لماذا إسرائيل؟».
كانت جزيرة سيلان بالإجمال مناهضة لإسرائيل في السبعينيات. أيام حكم سولوكون باندرانايكه ثم زوجه سيريمافو. الأخيرة أغلقت سفارة الدولة العبرية بكولومبو بالسبعينيات. تبدّل الأمر بشكل سريع بنهاية العقد نفسه.
ومع اندلاع الحرب الأهلية مع التاميل، لعبت المؤسسة الاستخبارية الإسرائيلية والجيش أدواراً عدّة : تقديم النصح للجانب الحكومي كي يولي اهتماماً منهجياً بتوطين السينهاليين في مناطق مختلطة أساساً مع التاميل. مدّ الجانب السريلانكي بالأعتدة الحربية. تجريب عدد من الأسلحة المصنعة إسرائيلياً على أرض الجزيرة.
ما الذي يمكن أن يحمل «مشروع الحل القومي للمسألة اليهودية» كما قدم المشروع الإسرائيلي نفسه في الأساس على مؤازرة السينهالا البوذيين الثيرافاديين على التاميل الهندوس؟
قبل كل شيء القناعة بأن تجارب مكافحة التمرد وحروب العصابات ينبغي أن تتعلم من بعضها البعض على الدوام، وأن هذا التعلم لا يكون الا بالمشاركة الميدانية. ومن ثم، هناك تصور لحل المسائل هكذا فوق كل رقعة من الأرض: هناك قوم، يفرض منطق أن هذه الأرض له، ويعطي للقوم الآخر حقاً بالوجود الفولكلوري المقتضب على هذه الأرض. الأهم يبقى فكرة استئصال حركة واسعة من جذورها.
هل يمكن ذلك مع حركة حماس؟ الرهان الإسرائيلي على المنطق التزامني بين تقويض المساحة وبين تصفية القيادات حيثما كانت يحاول أن يجيب بشكل حاسم على هذا السؤال. والأخطر إظهار أن حماس، رغم دعم تشكيلات المنظومة التي تقودها إيران لها، ورغم التعاطف في أوساط واسعة في كل البلدان الإسلامية معها، إلا أنها، ستبقى عملياً وحيدة، متروكة لحالها، كما في نموذج أحرار التاميل، التي لم ينجدها لا تاميل الضفة الأخرى للبحر، ولا عموم الهندوس.
يبقى أن للمقايسة على الوضع السيلاني حدودها. فالرهان الاستئصالي للإسلام الحركيّ سابق بعقود على قيام الحرب بين التاميل والسينهالا أساساً. عند اغتيال الإمام حسن البنا، عند إعدام سيد قطب، عند إطلاق عجلة الحل الدموي الاستئصالي بالجزائر، عند الاطاحة بالرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، ومن ثم مجزرة رابعة، وعند اغتيال اسماعيل هنيه. في كل مرة كان هذا الرهان يكبر، ويكون له سياقه التداولي، ثم يخبو. وفي الوقت نفسه كانت الحركة الإسلامية تعود فتنشب، ومن دون الحاجة حتى للتعلم من أخطائها، إلا فيما ندر. يمكن اليوم كتابة تاريخ قرن كامل من العمل الاستئصالي ضد الحركات الإسلامية. الحرب على حماس المدمجة بحرب ذات طابع إبادي ضد سكان القطاع تدخل، في جانب منها، ضمن هذا السياق. لكن من قال إن هذه الدينامية مرشحة للاستمرار هكذا من دون توقف؟ لا يمكن الاتكال على ذلك. إنما في الوقت نفسه ينبغي القول إن الاستئصالية لطالما كانت عنصراً مساهماً في إعادة شحن بطارية الإسلام الحركي بدلاً من التعجيل في نضوب طاقتها.
كاتب لبناني
- القدس العربي