حتى تدرك عزيزي القارئ مدى صعوبة الوضع في لبنان، تخيل أن سوريا التي تسببت فيها الحرب والاستبداد بأكبر أزمة لجوء في العالم أصبحت الآن ملاذاً آمناً، إذ منذ شهر أيلول الماضي، نزح نحو 500 شخص بسبب الغزو الإسرائيلي للبنان باتجاه ذلك البلد الذي مزقته الحرب وتشظت فيه معالم الدولة التي كانت موجودة في السابق، وأغلب هؤلاء نزحوا سيراً على الأقدام، وبعضهم عبر فوق الفوهات التي تسبب بها القصف الإسرائيلي عند استهدافه للمعابر الحدودية، أما غالبية النازحين فقد تركوا البلد نظراً لأن الشعب اللبناني لم يبد أي رغبة بإيوائهم.
عاد أكثر من ثلثي اللاجئين السوريين إلى بلدهم، أما البقية فأغلبهم من شيعة لبنان على أمل أن أن يستقبلهم حاكم سوريا الذي ينتمي إلى إحدى الطوائف الشيعية، أي إلى الطائفة العلوية، بطريقة أفضل من تلك التي استقبلتهم بها بقية الطوائف في لبنان. بيد أن مدخراتهم الضئيلة التي قلت بعد انهيار الليرة اللبنانية، صارت تتبدد في سوريا التي ينتشر فيها الفقر والعوز، بما أن نحو 16.7 مليون سوري باتوا يعتمدون على المساعدات بحسب ما أعلنته هيئة الأمم المتحدة، وثمة نقص في الخدمات الأساسية، لكن الوكالات الأممية تعمل على توزيع الغذاء، كما أن إيجارات البيوت أرخص بكثير مما هي عليه في لبنان. لكن هذا التدفق أدى إلى ارتفاع أسعار البيوت والإيجارات في سوريا لأول مرة منذ عقد من الزمان.
ترحيب أسدي بشيعة لبنان
منذ أمد بعيد اعترت ديكتاتور سوريا، بشار الأسد، بهجة عارمة عن اقتناصه للفرصة القائمة على استبدال الغالبية السُنية لبلده بأقليات أشد طاعة له، بما أن أغلب السوريين تركوا مدنهم في سوريا زرافات عند وصول الحرب إلى ذروتها، كما أن الحاضنة العلوية لا تمثل سوى 10% أو يزيدون من تعداد السكان، ولهذا صار يرحب وبشكل كبير بقدوم الآلاف من الشيعة اللبنانيين، وأغلبهم لاذوا بالمراقد الشيعية الموجودة في سوريا، مثل مقام السيدة زينب الذي يقع في الطرف الجنوبي لدمشق. كما تودد الأسد لهؤلاء النازحين عبر إلغاء فرض مبلغ 100 دولار على الحدود الذي كان يفرض على القادمين من لبنان (في الوقت الذي أبقى القيود على اللاجئين السوريين، بما أنه مايزال يشك بتعاطفهم مع المعارضين)، ويقال إن بعض النازحين اللبنانيين حصلوا على جوازات سفر سورية.
الاستثمار في أزمة اللجوء
ونظراً لواقع الاقتصاد المتردي في بلده، قد يعمل الأسد على الاستثمار في أزمة اللاجئين، وخير مثال بوسعه أن يحتذي به في هذا المضمار دولة الأردن المجاورة، التي استضافت الآلاف من السوريين مقابل بضعة مليارات من الدولارات أتتها على شكل مساعدات. أما السياسيون الأوروبيون الذي خافوا من الغزو الإسرائيلي واحتمال تسببه بموجة لجوء أخرى قد تصل إلى قارتهم، فقد سعوا لإخفاء مدى سعادتهم بنزوح السوريين بشكل غير متوقع نحو الشرق بدلاً من التوجه غرباً، إذ خلال الصيف الماضي، وقعت ثمانية دول أوروبية على وثيقة تقترح تقديم الدعم المخصص لبعض عمليات إعادة الإعمار في سوريا التي دمرتها الحرب، مع تخفيف العقوبات عنها في حال قبل الأسد بإعادة مليون سوري يعيشون في أوروبا اليوم (في حين فضل الترك الساخطين هم أيضاً الاحتفاظ بالجيب الذي أقاموه للثوار في الشمال).
بيد أن عرين الأسد المتهالك ليس إلا محطة بنظر أغلب النازحين، وذلك لأن كثيراً من العائدين خافوا على أنفسهم من بلطجية الأسد وانتقامه، وهذا ما دفعهم للتوجه مباشرة نحو الجيب التركي في الشمال أو الجيب الكردي في الشرق. ولكن بعد أشهر من المراوغة، افتتح الثوار في نهاية المطاف أحد معابرهم مع النظام في منطقة أبو الزندين شمالي حلب.
“لا تتركنا نهلك”
غير أن شيعة لبنان لم يسرهم كثيراً أمر النزوح إلى سوريا، وتشك إسرائيل بأن بعضهم من عناصر حزب الله، ولهذا أرسلت طائراتها الحربية ومسيراتها لملاحقتهم، ففي الثالث من شهر تشرين الثاني، شنت القوات الخاصة الإسرائيلية عملية برية في سوريا، فاختطفت سورياً أعلنت إسرائيل أن لديه صلات بإيران، ثم إن عناصر حزب الله لم ينسوا الدور المحوري الذي لعبوه في دعم نظام الأسد، ولهذا تمنى هؤلاء أن يهب الأسد لنجدتهم، وهذا ما عبر عنه أحد أنصار حزب الله المنكوبين بقوله مستنجداً ببشار: “لقد أنقذنا نظامك، فلا تتركنا نهلك اليوم”، ولكن قوات الأسد المنهكة قد يصعب عليها مقارعة القوات الإسرائيلية ولهذا من الأفضل أن تبقى خارج المعركة.
أصبح الغضب الشعبي العارم كالنار تحت الرماد، إذ إن بعض السوريين انتابتهم حالة من الاستياء والامتعاض بسبب التنافس الذي صار أشد وأشرس على الموارد المحدودة بالأصل، فيما يتذكر آخرون كيف تدخل مقاتلو حزب الله في الحرب التي قامت ببلدهم، فدمروا مدنهم وحولها إلى أوكار لتصنيع الكبتاغون، الذي أصبح أهم سلعة تصدرها سوريا، ويخشى آخرون أن يحول الوافدون اللبنانيون سوريا إلى ساحة الحرب القادمة مع إسرائيل، إذ تقول امرأة من حمص: “لا يمكنكم الدفاع عن أنفسكم، فكيف بالدفاع عنا؟ لذا أرجوكم لا تدفعونا لخوض حربكم”.
حماية أفضل للبنانيين في العراق
ولذلك توجه آلاف اللبنانيين شرقاً نحو العراق الأكثر ثراء، فصار العراقيون الذين يعيشون في مدن مثل كربلاء والبصرة يتحدثون عن سماعهم خلال الفترة القصيرة الماضية لعدد من اللهجات اللبنانية المميزة بمخارجها التي تصدر من الأنف. ومن لديه علاقات أفضل تربطه بنخبة هذا البلد انتقلوا إلى شقق فارغة ذكر عراقيون بأن حزب الله اشتراها خلال فترة الطفرة العقارية في البلد، والتي تزامنت مع انهيار الاقتصاد اللبناني.
وبعض من تبقى من كبار القادة الشيعة اتخذوا لأنفسهم زوجات عراقيات أو إيرانيات، وهذا ما جعل الحكومة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة تتوق للترحيب بهم واستقبالهم، فقد أصدر رئيس الوزراء أوامره التي تقضي باستصدار أذونات عمل لهم على الرغم من صعوبة منحها في العادة، إلى جانب تقديم معونات السكن لهم فور وصولهم، كما أن الميليشيات الشيعية العراقية المسلحة تسليحاً جيداً والتي تعتبر رديفاً للدولة، صارت هي الأخرى تقدم حماية أفضل بكثير من تلك التي يؤمنها الأسد لهم.
إن نزوح السكان ليس بأمر جديد على الشرق الأوسط كما سبق للأسد نفسه أن علق على هذا الموضوع، لكن الجديد هنا هو التغيرات الديموغرافية التي تعمق الانقسامات الطائفية التي تسببت بها الحرب بالأصل.
المصدر: The Economist