هناك نمط واضح من الممكن رسمه كخط انحداري في مسار الحروب بين العرب وإسرائيل يمكن الاستدلال منه على أن ما نشهده اليوم في غزة ولبنان قد يكون آخر الحروب العربية مع إسرائيل. بدأت الحروب الإسرائيلية العربية عام 1948 بمشاركة ست دول عربية، ثم فقط دولة واحدة عام 1956 وثلاث دول عام 1967، ثم مصر وسوريا عام 1973، وبعدها توقفت الجيوش العربية عن خوض الحروب كليا. وبدأت مرحلة الحركات غير النظامية، خاصة بعد عام 1967.
عام 1969، ونتيجة الضغط العربي تم التنازل عن السيادة اللبنانية لصالح “منظمة التحرير الفلسطينية”، وكان الأردن قد تعرض لضغط شبيه. لكن المملكة الهاشمية حمت سيادتها بعد احداث أيلول الأسود 1970. أما لبنان فقد سقط بحرب أهلية أضعفت الدولة، وأدى توسع النشاط المسلح للمنظمات الفلسطينية فيه إلى احتلال الجنوب اللبناني من قبل إسرائيل بحجة إنشاء منطقة عازلة عام 1978. ومن بعدها نفذت إسرائيل اجتياحا عام 1982 للأراضي اللبنانية واحتلال العاصمة بيروت خلال أسابيع قليلة. وقد تُرك لبنان وحيدا في هذه الحرب التي لم تشارك فيها أي دولة عربية، بل شوهد جيش نظام الأسد ينسحب من الميدان.
والحقيقة ان حرب 1973 كانت آخر الحروب العربية الإسرائيلية العربية بين جيوش نظامية.
جراء الحرب الدائرة اليوم، وما ظهر من نتائج ميدانية عسكرية لصالح إسرائيل، يكون زمن الميليشيات الخارجة على شرعية الدولة اللبنانية، والسلطة الفلسطينية كقوى عسكرية قد سقط
وبعدها أغلقت كل الجبهات، ولم يبق منها سوى جبهة لبنان، والانتفاضات الشعبية في الداخل الفلسطيني كما في الضفة وغزة والمناطق العربية داخل إسرائيل في الثمانينات والتسعينات. وقد خفتت بعد توقيع اتفاق أوسلو الذي أسس لما عرف لاحقا بمسار حل الدولتين. لكن بعد فشل مفاوضات السلام الفلسطينية والسورية مع إسرائيل بسبب رفض الأخيرة الإقرار بالحدود الأدنى من الحقوق خصوصا للفلسطينيين، عاد الزخم إلى المجموعات المسلحة التي كانت قد تقلصت بعد “أوسلو”. واستغل النظام السوري بدعم إيراني تلك الفرصة للهيمنة على ثلاثة تنظيمات مسلحة (“حماس”، “الجهاد”، “حزب الله”) استفاد منها من أجل تحسين موقعه التفاوضي مع الإسرائيليين. والواقع أن نية النظام السوري والإيراني، لم تكن كشعاراتهم الكاذبة بتحرير فلسطين، بل هي استخدامهم أدوات للسياسة الخارجية للنظام الإيراني والنظام السوري، الأول ليحقق مكاسب ويطور سلاحه، والثاني ليحمي النظام ويسترد الجولان. وكان ذلك قبل الحرب السورية، أما بعدها فأصبحت تلك الشبكة كاملة الولاء لإيران وحدها، وفي خدمة الدفاع عن نظام الملالي التوسعي، وسياساته النووية.
وفي عام 2008، انقلب “حزب الله” على شركائه في الوطن وهجم عليهم عسكريا، ومثله فعلت “حماس”في قطاع غزة، بهجومها على أهلها وبسط نفوذها على القطاع. ومع الوقت حصن التنظيمان مواقعهما في الحكم، وسيطرا أمنيا وعسكريا وطورا قدراتهما بدعم إيراني. وخاض “حزب الله” حرب سوريا دفاعا عن النظام السوري تلبية لإرادةإيران، وقتل منه آلاف المقاتلين. وقد زادت ثقة “حزب الله” و”حماس” بنفسيهما، بينما كانت إسرائيل تتربص بهما، وتغض النظر عنهما كي يتم تقسيم الصف الفلسطيني وزيادة الشرخ اللبناني وإزهاق الدم السوري، مسرورة من أدائهما.
ظنت حركة “حماس” أن حجمها ودورها وأهميتها أكبر بكثير من كونها أداة لطهران، فقامت بهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وكان فاتحة أبواب الجحيم الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، في حرب يقودها أسوأ ذهن عنصري متطرف. ومثلها ظن “حزب الله” أن مكانته لدى إيران وانتماءه للمحور الممانع كفيل بحمايته من ذات المصير التي تعرضت له غزة، ليعود ويكتشف أنه فقط بيدق لدى الإيراني. كما اكتشف أن النظام السوري الذي أزهق “حزب الله” آلاف الأرواح من الشباب اللبناني للدفاع عنه، تخلى عن “الحزب” ولم يحرك ساكنا من أجله.
وجراء الحرب الدائرة اليوم، وما ظهر من نتائج ميدانية عسكرية لصالح إسرائيل، يكون زمن الميليشيات الخارجة على شرعية الدولة اللبنانية، والسلطة الفلسطينية كقوى عسكرية قد سقط. ويستدل من المسار التاريخي أنها ستزول إلى غير رجعة، فنتيجة سقوط شعارات “التحرير”، “والمقاومة”، “ووحدة الساحات”، ستتصرف الشعوب بما يحمي مصلحتها، وتعتمد الدول وقياداتها ما يحمي وجودها ومصالحها.
المواجهة مع المشروع الإسرائيلي يجب أن تستمر للاستحصال على كامل حق الشعب الفلسطيني بدولة عاصمتها القدس، لأن في ذلك الحل الوحيد لاستقرار المنطقة ودولها
الإيرانيون والسوريون، تماما كسائر العرب قبلهم،أدركوا ان لا جدوى من المواجهات العسكرية مع الإسرائيليين الذي هم الأكثر إحاطة عالميا من قبل أميركا، وأوروبا والصين والهند، وروسيا، وتركيا، وغيرهم. ويدرك الجانب الإيراني خاصة أن زمن توسعه قد ولى، وأن لا جدوى للاستثمار في ميليشيات خارج الدولة تكلف مليارات الدولارات ولا يمكن أن تخوض حربا حقيقية لأكثر من أسابيع لتعود بعدها حركات محلية مسلحة مع بضعة صواريخ ومسيرات ترمى بين الحين والآخر من دون فعالية تذكر.
كما أن مسار التسوية بين العرب وإسرائيل أصبح خيارا استراتيجيا ثابتا، وأن ذلك الخيار يسمح بحماية الدول العربية وشعوبها، وبتطورها وازدهارها وجعلها شريكا بقيمة أكبر في العالم. وربما كانت7 أكتوبر لكبح جماح التوجه العربي نحو ذلك الخيار. قد يكون هذا الخيار، كما تطور الدول العربية ولعبها أدوارا عالمية أكبر وأساسية، مدخلا لتصبح أكثر قدرة على استحصال حقوق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة عاصمتها القدس عبر المقاربة الدبلوماسية المنهجية، وليس الاستمرار بخطابات حربية عبثية رنانة، مدمرة للشعوب العربية من دون أن تحقق لها أي إنجاز أو انتصار.
وكان عام 1973، آخر حرب بين الجيوش العربية وإسرائيل. عام 2024 قد يكون لآخر الحروب بين الميليشيات خارج الدولة وإسرائيل. المواجهة مع المشروع الإسرائيلي يجب ان تستمر للاستحصال على كامل حق الشعب الفلسطيني بدولة عاصمتها القدس، لأن في ذلك الحل الوحيد لاستقرار المنطقة ودولها. ولذلك فالاعتماد على الحل الدبلوماسي، وتطوير دور العرب على الساحة العالمية، هما عنصرا المقاربة التي تبرز بالخيار الأنسب والناجع اليوم. ما بعد هذه الحرب، لن تكون هناك حروب في المدى المنظور بين العرب وإسرائيل، بل إن المواجهة الحقيقية سوف تكون في أن يتمكن العرب من بناء دولهم وقدراتهم فتميل عندها مصالح الدول العالمية لاسترضاء العرب وليس الإسرائيليين.
- المجلة