يقف القارئ أمام مكتبته ويختار مجموعة عناوين تشكّل أثاث فصل قرائي يحدّده بعناية، قد يكون هذا مقصودا منه لتشكيل رؤية حول فكرة ما، لكن أيضا قد يمرّ القارئ على مكتبة وتعجبه رواية ما فيقتنيها، كما أنّ الإعلان عن الروايات الجديدة تكون فرصة للبحث عن تلك العناوين للاطلاع عليها. هناك عدّة مسارب ليقع القارئ في فخّ القراءة، أو أزقتها الملهمة للخيال النشيط والباحث عن القليل من الزّاد لتغذيته، فيتوالد الخيال عن الخيال ليصبح الروائي أيضا قارئا أو متعاطيا للمادّة الأوّلية التي تفجّر فيه كمونات الكتابة، التي لا تتحرّر سوى بفعالية الخيال.
العنوان مصباح يضيء:
تستصحب القراءة العنوان بحثا عن موقعه في النص أو معنىً ما يدل عليه، فالقارئ العادي قد يتبادر إليه فهم النص من خلال العنوان، وبالتالي، يبني كل متخيّله عن الرواية انطلاقا من جملة العنوان. أما القارئ المستكشف فالعنوان بالنسبة إليه مصباح يضيء، والعثور عليه لا بد أن يكون في مستوى من مستويات النص، وفعلا قد يكون العنوان بجملته متكرّرا في النص أو مذكورا في سياق فقرة أو متجلٍّ معناهُ في النص بصورة أو بأخرى.
ينشأ الهاجس الذي يشكله العنوان للقارئ بسبب البحث عن علاقته بالمتن، وتسيطر هذه الحالة على القارئ إلى درجة اقتناعه بأنّ على الرواية أن تستجيب لقناعته، والإشكال الذي يطرحه هذا الهاجس إنّما مردّه إلى الفقر النّقدي الذي يعانيه القارئ، أو عدم اهتمامه بكتابات الرّوائي وحواراته حول أعماله أو تجربته في الكتابة، إذ يغيب على القارئ العادي مفهوم التّأويل في فهم النص، فقد يكون العنوان فعلا له علاقة مباشرة بالمتن كما هو الحال في بعض الروايات الرومانسية والواقعية، لكن في الإطار الرّمزي تأخذ العناوين مسارات أخرى ترتبط بما هو سياق، فنجيب محفوظ مثلا في الثلاثية، تتقمّص العناوين هويات مكانية، «بين القصرين» و»قصر الشوق» و»السكرية»، والملاحظ أنّ الثلاثية صدرت بين عامي 1956-1957، أي أربع سنوات بعد ثورة 1952، وهي المدّة التي انقطع فيها محفوظ عن الكتابة احتجاجا على مصادرة الحرّيات وانهيار الليبرالية وضرب حرية التعبير، فجاءت الثلاثية كاستعاضة عن الصمت الذي فُرض على الإنسان مُقدِّمة صوت المكان. لا يضع الرّوائي العنوان اعتباطا، والقارئ لا يرى سوى المرحلة النّهائية من بنائه، فإنتاجات الرّوائي العنوانية معاناة فعلية، مع اختيار إحداها لما يراه دالا وله علاقة ليس بالمتن وحسب، بل بمتخيّله ومرموزاته وأفكاره التي أنتجت الرواية، وهذه الحيرة يتبادلها الروائي والقارئ، الأول بالبحث عن العنوان والثاني بمحاولة إيجاد معنى له يصله بالنص.
ضمن هذا الإطار قُرئ عنوان الثلاثية من خلال الظروف المحيطة بالكتابة وموقف الروائي منها، بطبيعة الحال فالمكان هو فضاء الحدث في الثلاثية، إلا أنّ المسار الحكائي لا يقف عند حرفيةٍ قارّة، بل يتجاوزها إلى مجاز متعدّد لا يستقر عند حد، بل يستمر منتجا في الوعي تمثلاته الفلسفية والفكرية والثقافية، وبهذا تطور النقد من الأدبي إلى الثقافي وتحوّلت السياقات القرائية من البنيوي المحيّد للقارئ إلى التفكيكي المرتكز على ثقافة القارئ.
الهوية الدلالية لجملة البداية:
تُروى الحكاية باللغة سردا فتصبح رواية، أو بيتا إذا اعتبرنا «اللغة مسكن الوجود» بتعبير هيدغر، ولا بد لهذا المسكن من عنوان يدل عليه بسهولة، وكأنّي بالرّوائي يتقمص المثل الشعبي: «البيت يظهر من عنوانه»، ربّما لهذا ترتخي اليد لتزيح الغلاف من مجالها البصري متلهفة لقراءة جملة البداية، وكأنّها المفتاح الدّلالي لما تختزنه الرواية اتفاقا أو اختلافا مع جملة النهاية.
تشكل جملة البداية هاجسا لبعض القرّاء، إلى درجة أنّه يتم حِفظها لأنّها تمثل مفتاح خيال الروائي ربما، والفكرة التي فجرت العمل الروائي، والقارئ من هذه الناحية يبحث عن مِثل هذه التفاصيل التي تساهم في تفجير خياله الراغب في تتبع مسار الرواية خيالا في ذهن كاتبها، ولأنّها أيضا – بالنسبة لبعض القرّاء ـ تمثل الآلية التي تكتب بها الرّواية، لأنّ القارئ في مرحلة من مراحل التشبّع التخييلي يحاول أن يقتحم تجربة الكتابة. تبدو جملة البداية كعنوان من نسيج المتن تكتمل هويّتها في بناء الرواية بقراءتها في سياق جملة النهاية، إذ تتواشجان لتسندا معمار الرواية بأكمله. ويقف الروائي بينهما في حالة اضطراب، يظهر هكذا في مخيال القراءة المداومة على الرواية، فإذا كانت جملة البداية هي المُفجر للعمل الروائي فإنّ جملة النّهاية هي الستار الذي لا يرومه الكاتب أن يُسدل على حكايته، لأنّه بذلك سيجد النص ذاته بين حدّين، حد الانطلاق وحد الوصول، ورغبة الروائي ألا يصل القارئ إلى مرفأ تنتهي به إليه رحلة القراءة، بل يستمر خيال القراءة في إنتاج أحداثه المنفصلة عن حدث الرواية، كي يغذّي خيالات الروائي المستقبلية، وكي يضمن ديمومة نصّه، رغم أنّ جمال الغيطاني يرى أنّه ليس هناك نصا خالدا، كل عمل أدبي له عُمْرٌ محدود ويتبخر.
تنطوي جملة البداية على مفعول سحري، فالقارئ مسحور أمامها باعتبارها المختزل الذي كشف كونا من العلامات والرموز والدلالات داخل فضاء الرواية تقدّمها اللغة حمّالة الرسالة، رسالة بالنسبة للقارئ فالروائي رهانه مع اللغة كفن.
يختبر الروائي افتراضا حنكة القارئ في تفكيكه لجملة البداية، فهناك من يمر عليها باعتبارها جزءا من الحكاية والمعنى يكمن في حدثيتها، وهناك من يتلقاها كأي جملة في النص، وهناك من يقرأها وفق برنامج خصوصيتها، وتعدّد مستويات تلقيها يمنح القراءة الناقدة آلية لتفكيكها انطلاقا من الوقوف عند عتبتها كجملة ضمن نسق أو كجملة عادية أو كجملة فارقة.
اللاهناك وخيال القارئ:
ينخرط القارئ في التهام النص عابرا من منطقة حكائية إلى أخرى مستلهما خيال الروائي منتجا لخياله الخاص، إذ كل قراءة هي سياحة في عالم خاص يتحرّك فيه القارئ بقوانينه المنفصلة عن قوانين الروائي، فتصبح الرواية مَرْكَبا من أحلام يستعيد بها القارئ فُرَصَه الضّائعة في الواقع، أو يجمع بها شتات شمله التائه في اللاهناك الذي لا يستطيع تحديده، لكنه موجود، فعن طريق الرواية يبني فجوته الوجودية المتمثلة في اللاهناك الوجودي. قد تشتد حدّة القراءة فيضبط القارئ كيانه على وقع الجمل المتتالية الحاملة للمعنى، مركّزا، بحيث يحاول ألا تفوته شاردة ولا واردة، حتى يستطيع الوقوف على سيرورة الحدث، أو الحكاية المتضمَّنة، وفي مستوى أعلى الوقوف على المعنى المخفي في طبقات النص المضمرة.
يروي خيري شلبي أنّه في قريته وهو طفل كان الناس يجتمعون لسماع السّير الشعبية، ولا بد لهم من قارئ الذي كان أحيانا يغيب، فلمّا يرمقون خيري عائدا من المدرسة يجلبونه للقراءة لهم، وبعد أن نضج لاحظ أن السيرة الشعبية شكّلت وعيه المبكر بالحدث الفنّي وما وراء هذا الحدث من قيمة تجعل هؤلاء ربّما يتعطلون عن أشغالهم ليعرفوا مثلا كيف نجا أبو زيد الهلالي من الموت، أو كيف انتصر أو… القيمة التي يتحدّث عنها خيري شلبي هي خيال القارئ الذي يرمّم صورته انطلاقا من شذرات متفرّقة تعيد رسم الحكاية بمعطياته ومفرداته وعوالمه وثقافته العادية أو العارفة، وتلك هي أهمية الأدب والرواية على الخصوص في ترقية الذوق الفني وبناء عالم «اللامحدود» الذي لا يتأثّث إلا في حضن الأدب والفنون والموسيقى، لأنّه بطبيعته متجاوز للذّات غير مسجون فيها.
كاتب جزائري
- القدس العربي