دلير يوسف
يقدّم أبو عمشة، والذي يحب أن يناديه أتباعه بـ”القائد الحاج”، نفسه كزعيم كبير، ويُعامله أتباعه على هذا الأساس، وذلك بعدما قُدِّم كأحد رجال تركيا البارزين، والمدعومين بشكل كبير وواضح من الحكومة التركيّة.
تواردت الأخبار في الأيام الأخيرة عن إرسال فرقة “السلطان سليمان شاه” المنضوية تحت لواء “الجيش الوطني” المعارض لنظام الأسد والموالي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مجموعات من الجنود لمشاركة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل “غرفة الفتح المبين” في عملية “ردع العدوان” التي تنفّذها ضد قوات الأسد والميليشيات والموالية له، واكتفى قائد فرقة سليمان شاه، محمد الجاسم، أو عمشة، بنعي القتلى وتبشيرهم بالجنّة.
في شهر أيلول/ سبتمبر 2024، اعتدت “فرقة السلطان سليمان شاه” التي يترأسها أبو عمشة، على تظاهرة نسائية في ريف عفرين تعترض على الانتهاكات المتكررة بحق السكان منذ عام 2018. وأطلقت عناصر الفرقة الرصاص الحي على التظاهرة، ما أدى إلى وقوع إصابات بين صفوف المتظاهرات.
وفي شهر شباط/ فبراير 2022، أصدرت لجنة تحكيم مُكلّفة بالتحقيق في انتهاكات “فرقة سليمان شاه” قراراً، ينص على “نفي كل من محمد الجاسم (أبو عمشة) ووليد الجاسم ومالك الجاسم مدة عامين هجريين خارج منطقة عمليات غصن الزيتون” لتهم متعلقة بالفساد، وذلك بعد قرار سابق ينص على إعفاء أبو عمشة من كلّ مهامه القياديّة.
في شهر آب/ أغسطس 2021، انتشرت أنباء على وسائل التواصل الاجتماعي تذكر قيام الرئيس السابق للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، سالم المُسلط، بتكريم قائد “فرقة السلطان سليمان شاه”، محمد الجاسم والمعروف باسم “أبو عمشة”، بعد نشر الأخير صوراً توثّق هذه الحادثة. أثار هذا “التكريم” موجة سخريّة وغضب واسعة بين السوريين، مستنكرين تكريم رئيس الائتلاف، والذي يُفترض أنّه جهة سياسيّة تنحاز الى ثورة السوريين، أحد أمراء الحرب السوريّة والمُتهم بقضايا فساد وسرقة واغتصاب.
عاد رئيس الائتلاف آنذاك لينفي خبر التكريم، ناشراً على صفحته الرسميّة على موقع فيسبوك صوراً مرفقة بالقول إنّه “لم يجرِ أيّ تكريم، والصورة التُقطت أثناء استقبال فرقة الحمزة وفد الائتلاف، ومن بين الضيوف والمستقبلين تقدّمت هدية لي”.
هذه بعض من الأخبار التي تظهر بين الحين والآخر، والمتعلقة بمحمد الجاسم، أبو عمشة، أحد أمراء الحرب السوريين الذين يبرزون في معظم التقارير المتعلّقة بشمال غربي سوريا. في هذا المقال-البورتريه نحاول أن نرسم صورة لأبو عمشة ونبحث عن دوره في المنطقة.
رجل تركيا في سوريا
يقدّم أبو عمشة، والذي يحب أن يناديه أتباعه بـ”القائد الحاج”، نفسه كزعيم كبير، ويُعامله أتباعه على هذا الأساس، وذلك بعدما قُدِّم كأحد رجال تركيا البارزين، والمدعومين بشكل كبير من الحكومة التركيّة. وتنتشر الأقاويل في شمال سوريا التي تقول إنّه الذراع العسكري التركي الأول في شمال سوريا. هذه الإشاعات تُدعم بأقوال أبو عمشة نفسه، وهو الذي يشكر الأتراك في كلّ مناسبة، ويرفع هو وفصيله العسكري العلم التركي، من دون أن يرفعا أعلاماً سورية، متّبعاً سياسة التتريك التي تنتهجها تركيا في شمال سوريا.
يدّعي الرجل معارضته للنظام السوري وهو يكاد ينسى وجوده، فلم يحاربه ولم يفاوضه، حتى عملية “ردع العدوان” الأخيرة، والتي تتردد الإشاعات في أوساط المعارضة والسياسيين بأنّها عملية تأتمر بأمر تركي.
عدو أبو عمشة الأساسي، مثل تركيا، هو الأكراد، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، منتمين الى أحزاب أو أفراداً مستقلين، فنرى حسابه الشخصي على موقع X ممتلئاً بتغريدات باللغة التركيّة، وتغريدات تشكر تركيا، وتغريدات تظهر قتال فصيله للأكراد، أو قتال فصائل وميليشيات أخرى في المنطقة، في ما يُمكن أن نطلق عليه اسم “الحروب الأهلية الصغيرة”.
مثلاً، كتب أبو عمشة تغريدة في شهر نيسان/ إبريل 2021 قائلاً: “أعتقدُ جازماً أنّه لم يأت حاكم على المسلمين أفضل من الرئيس رجب طيب أردوغان منذ سقوط الخلافة العثمانيّة”، مرفقاً التغريدة بصورة للرئيس التركي وخلفه عدد من الصواريخ، قال إنّ “كلّ هذه الصواريخ والقذائف الصاروخيّة صُنعت في تركيا”.
يُذكر أنّ فصيل “فرقة السلطان سليمان شاه”، والذي يترأسه أبو عمشة، هو أحد أهم وأكبر فصائل “الجيش الوطني السوري”، الذي أعادت تركيا تشكيله في العام 2017، عبر دمج وإعادة تكوين بعض فصائل “الجيش السوري الحر”، ومن ثمّ دعمته بالسلاح والمال، مقابل الولاء المباشر لها.
منذ العام 2018، تحوّلت مناطق شمال سوريا (باستثناء مناطق صغيرة خاضعة للنظام السوري) إلى ثلاث مناطق سيطرة أساسيّة: الأولى في الشرق تتحكم بها قوات كردية، وفي الغرب تُقسّم المنطقة إلى منطقة سيطرة الجيش الوطني في ريفي حلب الشمالي والشرقي، ومنطقة سيطرة هيئة تحرير الشام (هيئة النصرة سابقاً) في مناطق إدلب وأرياف حلب الغربية وريف اللاذقية الشرقي. ويسكن في مناطق شمال غربي سوريا حوالى ستة ملايين نسمة. لكن يبدو أن خريطة التقسيم هذه في طريقها إلى التغيير بعد بدء المعارك الأخيرة وسيطرة “القوات المعارضة” على مواقع وقرى عدة كانت تخضع لسيطرة النظام السوري.
من هو أبو عمشة؟
أبو عمشة، أو محمد الجاسم، هو مواطن سوري من أصول تركمانيّة، حسب ادعاءاته الشخصيّة، وهو حاصل على الجنسيّة التركيّة، من مواليد العام 1987، وينحدر من منطقة السقيلبيّة في ريف حماة الشمالي، في شمال غربي سوريا، وقد عمل قبل انطلاق الثورة، في أواسط آذار/ مارس 2011، سائقاً للحصّادات والجرّارات الزراعيّة.
بعد انطلاق الثورة السوريّة، وتحوّلها لاحقاً إلى حرب مفتوحة، شكّل أبو عمشة مجموعة مسلّحة في منطقته، سُميت بمجموعة “خط النار”، انضمت لاحقاً إلى “جبهة ثوار سوريا”، ومن ثمّ قاد مجموعته المسلّحة التي انضوت تحت لواء “الجبهة الشاميّة” في مناطق شمال مدينة حلب، بعد خلافات بين “جبهة ثوار سوريا” و”جبهة النصرة”.
عُرفت المجموعات المختلفة التي قادها أبو عمشة بانتهاكاتها الكثيرة، من قتل وتهريب واختطاف وفرض أتاوات، وصولاً إلى اتهامات شخصيّة لأبو عمشة بالاغتصاب.
انطلاقة “الزعيم” الحقيقيّة كانت عند انطلاق عمليات تركيا العسكريّة لاحتلال المدن الكرديّة في الشمال السوري في العام 2018، إذ تولى قيادة واحدة من فرق فصيل “السلطان مراد”، ومن ثمّ شكّل فصيله العسكري الخاص تحت اسم “فرقة السلطان سليمان شاه”، التي انضمت لاحقآً إلى “الجيش الوطني”، واستولت على قرى وبلدات عدة في منطقة عفرين.
بعدها بدأ نفوذ أبو عمشة في التوسّع بشكل كبير، وصار اسمه يتردد بشكل متواتر على وسائل الإعلام كأحد أمراء الحرب السوريين. ما دفع بوزارة الخزانة الأميركية في العام 2023 إلى فرض عقوبات على أبو عمشة وفرقته، فرقة السلطان سليمان شاه، ضمن مجموعة من العقوبات المفروضة على فصائل سوريّة “معارضة”.
في ردّه على قرار العقوبات، قال الجاسم في منشور له على موقع X: “إننا بالقوة المشتركة لا نعير أي اهتمام للعقوبات التي فرضتها الخزانة الاميركية علينا وذلك لأسباب عدة. أولاً، إننا لا نملك دولاراً واحداً خارج مالية القوة المشتركة. ثانياً، لا نملك أي شركة سواء كانت سيارات أو غيرها. ثالثًا، نحن نعلم أن الهدف من هذه العقوبات سياسي بحت. رابعاً، من المتعارف عليه أن السياسة الأميركية في منطقتنا متناقضة حيث تساوي بين الجلاد والضحية وتكيل بمكالين، فهي تصنف الـ PKK على قوائم الإرهاب ومن جهة أخرى تدعمهم بالمال والسلاح. ختاماً، نحن نعمل لإرضاء الله عز وجل أولاً ومن ثم أبناء شعبنا ونشكر كل من تعاطف معنا وعلى رأسهم الإخوة الأتراك والقطريين”.
صورة كاريكاتوريّة للزعيم
في مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر “الزعيم” أبو عمشة واقفاً في مناسبة ما، ويقترب منه أشخاص يمسحون العرق عن وجهه بكل “تبجيل” وكأنّه قائد عسكري هارب من القرون الوسطى، ويحتاج إلى من يمسح عنه عرقه.
في مقطع فيديو آخر من العام 2019، يظهر أبو عمشة وهو يبارك لعناصره قدوم عيد الأضحى، يصل بسيارته الفارهة إلى “قاعدته العسكريّة” التي ترفع العلم التركي في مدينة عفرين، التي هُجّر أهلها الأكراد منها، يسلّم القائد على جنده بمصافحة وقبلتين على الوجنتين ومن ثمّ يقبلونه قبلة على رأسه، ربما ليحفظ الله لهم رأس زعيمهم.
كذلك، انتشرت أغنيات “تمجّد القائد” أبو عمشة، مثل أغنيّة “أبو عمشة يهز الگاع (الأرض) بكلّ الكرة الأرضيّة” التي صدرت في العام 2020، أو الأغنيّة التي انتشرت بعدما أرسل أبو عمشة مرتزقة إلى ليبيا للقتال بأمر تركي، “أبو عمشة شرّد حفتر، روح وسجّل يا دفتر”.
بعد انتشار هذه الأغنيات والمنشورات التي تعلي من شأن “القائد”، انتشرت موجة سخريّة واسعة من “الزعيم الكاريكاتوري”، ما جعله يصدر بياناً يمنع فيه بأمر إداري “الترويج ونشر صور أو مقاطع فيديو تبجيل أو مدح لقائد الفرقة أو قادة الفرقة من الصف الثاني ودونهم بشكل عام”.
يضيف بيانه أنّ “خير العمل يكون من خلال الإنجازات على أرض الميدان وليس عن طريق الترويج والنشر للقائد لإظهار الولاء والوفاء”.
“الرجل العابر للقارات”
انتشر هذا اللقب لأبو عمشة في وسائل الإعلام بعد انتشار مقطع فيديو مُصوّر في دولة الكاميرون، في وسط غرب القارة الأفريقيّة، يُظهر مجموعة من الأطفال والنساء يحملون مساعدات، ويحمل أمامهما رجلان لوحة عليها العلمان التركي والكاميروني وأسماء بعض الأشخاص الذي قدموا هذه التبرعات، وعلى رأسها اسم محمد الجاسم، أبو عمشة.
يقول مصوّر الفيديو إنّ “هذه صدقة من الأخ حاجي (الحاج) محمد جاسم أبو عمشة وأولاده باسل علم دار، وفادي أبو مالك ومالك أبو سراج ويونس أبو حمزة وسيف أبو إحسان على روح المرحومة أم فادي. اللهم تقبل منهم والشكر موصول للأخ الحاج محمد جاسم أبو عمشة”.
سبق هذا “الخروج الدولي” لأبو عمشة، كونه واحداً من الرجالات الأساسيين في الجيش الوطني، وهو الجيش الذي ساهم بشكل رئيسي في “بيزنس المرتزقة” في سوريا، عبر تجنيده عدداً كبيراً، يُقدّر بالآلاف، من المقاتلين للذهاب إلى ليبيا والقتال إلى جانب حكومة الوفاق الوطني المدعومة تركياً، ضد الطرف الآخر، طرف خليفة حفتر، المدعوم روسياً، حسب تحقيق منظمة “سوريون من أجل العدالة والحقيقة”.
كذلك، جنّد الجيش الوطني مئات المقاتلين، للذهاب إلى إقليم ناغورنو كاراباخ، على الحدود الأرمينيّة الأذربيجانيّة، بهدف دعم الأجندات التركيّة والقتال إلى جانب قواتها، بعد تدخّل تركيا العسكري في الصراع الأرميني – الأذري.
تقول تقارير إعلاميّة إنّ أبو عمشة اشترى أملاكاً في دولتي الكاميرون وموزمبيق، كما أنّه افتتح مجمعاً تجارياً في ناحية الشيخ حديد، في ريف عفرين، وبحضور الوالي التركي للناحية، ما يُدرج ضمن رحلة أمراء الحرب السوريين إلى ريادة الأعمال.
في مقال بديع تحت عنوان “إلى آخر الحياة”، للكاتب اللبناني الراحل الياس خوري، نُشر في العام 2016، يقول: “… لا أريد أن أناقش من يقتسمون سوريا اليوم، ويحولون الكلام عنها إلى ممسحة للكلام… هذا النقاش صار إهانة للكلام، ومسخرة لغوية مليئة بوحول الدم”.
هذا ما نفعله أيضاً في هذا المقال، نرسم صورة لأحد الذين حوّلوا ثورة سوريا التي نادت بالحرية والعدالة والكرامة إلى بقعة من الدماء، وصار الكلام عنه مسخرة لغوية. هذا المقال الذي كتبناه عن “الزعيم” محمد الجاسم هو مسخرة لغوية مليئة بوحول الدم، هذا الكلام هو إهانة للكلام، لأنّ الكلمات تستحق أن تحمل معاني أفضل من أبو عمشة.
- درج