خرجت هدنة الستين يومًا بين إسرائيل ولبنان إلى النور وسط سياق سياسي ملتبس وإشكالي. تجاوز حزب الله عقباته الأيديولوجية وتنظيراته العقائدية التي برر بها خوضه حربًا لدعم غزة، وقَبِل باتفاق لا يملك القدرة على تأويله على هواه، ويحمل عناوين واضحة حول مسألة نزع سلاحه.
في المقابل، تبدو موافقة حكومة بنيامين نتنياهو على الهدنة خلال الفترة المتبقية من ولاية بايدن خطوة غامضة، مما يثير تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء الاتفاق.
في خطاب الإعلان عن الهدنة، أشار نتنياهو بوضوح إلى “عناوين كبرى” تتجاوز البنود المباشرة للاتفاق، لترسم خطوات أولى نحو صياغة “حل نهائي” لمعالجة مصادر التهديد الرئيسية: إيران ونظام بشار الأسد الذي يسعى إلى استعادة دور في خضم تحولات إقليمية كبرى.
تهدف الهدنة إلى تحقيق معادلة أمنية جديدة لإسرائيل، تبدأ بإنشاء منطقة خالية من السلاح جنوب نهر الليطاني، تُدار من قبل الجيش اللبناني، الذي يُتوقع أن يحظى بدعم غربي وعربي. هذه الخطوة تسعى إلى إخراج حزب الله من دائرة التهديد المباشر لإسرائيل، وتجريده من قدرته على تخزين الأسلحة الثقيلة في هذه المنطقة.
قبول حزب الله بهذه الشروط يفتح باب التساؤلات. فالاتفاق يضرب فكرة المقاومة في العمق، وينهي ارتباط الحزب بالقضية الفلسطينية، مما يجبره على الانكفاء نحو الداخل اللبناني. في ظل هذا الوضع، يصبح حزب الله أمام خيارين: مواجهة داخلية لتحقيق سيطرته بالقوة، أو التراجع عن طموحاته الإقليمية.
على سبيل المثال، أدت اتفاقيات مشابهة، مثل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، إلى تنازلات كبرى من الحزب تحت ضغوط دولية. ومع ذلك، فإن مثل هذه التنازلات لم تنهِ تحركات الحزب، لكنها أسهمت في إضعاف موقعه السياسي والعسكري.
إسرائيل تسعى من خلال هذه الهدنة إلى تحقيق هدف أكبر: فصل ساحات المواجهة الإقليمية بين لبنان، سوريا، وغزة. هذا الفصل لا يحقق فقط الأمن على الحدود اللبنانية، بل يتيح لإسرائيل التركيز على مواجهة إيران مباشرة.
الاتفاق مكّن إسرائيل من الحصول على أسلحة نوعية متطورة كانت الولايات المتحدة تتحفظ على تسليمها، وفقًا لتقارير صحفية أميركية. هذه الأسلحة تشمل قنابل خارقة للتحصينات يُعتقد أنها ستُستخدم ضد المنشآت النووية الإيرانية، إضافة إلى أنظمة هجومية متطورة لاستهداف المواقع الإيرانية في سوريا والبنية العسكرية لحماس.
في هذا السياق، يمكن مقارنة هذه الاستراتيجية بتحركات إسرائيل في سوريا على مدار العقد الماضي، فقد ركزت على استهداف شحنات الأسلحة الإيرانية لمنع وصولها إلى حزب الله. الفصل بين الساحات الإقليمية يتيح لإسرائيل التحكم في وتيرة المواجهات وتقليل المخاطر.
تصعيد الخطاب الإسرائيلي تجاه بشار الأسد يعكس تغيرًا كبيرًا في قواعد اللعبة. تحذير نتنياهو للأسد من “اللعب بالنار” يأتي في وقت حساس، إذ تكثف إسرائيل ضرباتها على الحدود اللبنانية السورية.
تهديد نتنياهو، الذي تزامن مع هجمات إسرائيلية مكثفة على مواقع قريبة من دمشق والحدود السورية اللبنانية، يُقرأ كرسالة واضحة للأسد بضرورة الانفصال عن إيران وميليشياتها. مثل هذا الضغط يعكس نية إسرائيلية لتقويض النفوذ الإيراني في سوريا كجزء من خطتها الشاملة لتحجيم دور إيران في المنطقة.
في هذا الإطار، يمكن العودة إلى تصريحات سابقة لمسؤولين إسرائيليين، مثل وزير الدفاع يوآف غالانت، الذي قال إن “إسرائيل لن تتردد في اتخاذ خطوات حاسمة لإنهاء التواجد الإيراني في سوريا.” هذه التصريحات تشير إلى أن التحركات الإسرائيلية منظمة ومترابطة وتتناسق مع العقيدة السياسية الطاغية، التي ترى في حضور إيران في سوريا تهديدا إستراتيجيا.
التطورات الأخيرة تضع إيران في موقف صعب. تجد نفسها مضطرة إلى خوض مواجهاتها معزولة عن أذرعها التقليدية، التي باتت بمنزلة كيان أخطبوطي منتشر في أنحاء العالم، ويعد حزب الله، الذي يواجه استنزافًا في الداخل اللبناني، درة تاجها.
وكانت العقوبات الأميركية المتجددة، إلى جانب الضربات الإسرائيلية المكثفة في سوريا ولبنان، قد قلصت قدرة إيران على دعم أذرعها والاستفادة منها. فقد كشفت تقارير استخباراتية غربية أن طهران باتت تواجه صعوبة في إيصال الأسلحة إلى حلفائها بسبب زيادة الرقابة والتدخلات الإسرائيلية.
هذا الوضع يضع إيران أمام معضلة: هل تستمر في محاولة دعم حلفائها، مما قد يستنزف مواردها؟ أم تنكفئ إلى الداخل لتجنب المزيد من الخسائر؟
لا يمكن فصل هذه التطورات عن السياق الدولي. المرحلة المتبقية من ولاية بايدن تمثل فرصة لإسرائيل لتأمين مصالحها الاستراتيجية قبل تغير الإدارة الأميركية. ومع عودة ترمب، المعروف بمواقفه المتشددة ضد إيران، يبدو أن إسرائيل ستتحرك بثقة أكبر لتصعيد مواجهتها مع طهران.
على الصعيد العربي، الموقف الرسمي يبدو متماشيًا مع الخطط الإسرائيلية، إذ تدعم العديد من الدول العربية تعزيز الجيش اللبناني كقوة شرعية تنهي حالة حضور حزب الله ودوره.
وكان الحزب قد اتخذ من ضعف الجيش اللبناني وعجزه عن تأمين الحماية ذريعة ميدانية وسياسية لتبرير سلاحه ووجوده. ومع الدعم الأميركي والأوروبي المتناغم مع الموقف العربي لتعزيز الجيش وتسليحه، فقدت تلك الحجة قوتها، ما أسهم في تمويتها. كما أن الحرب الأخيرة أظهرت عجز الحزب عن الدفاع عن لبنان، مما أسهم في تركيب نسق جديد من الانتظام الحدودي، الذي كان الحزب يطمح أن يكون الوصي عليه مقابل تشريع دوره السياسي.
هدنة الستين يومًا الهشة ليست مجرد اتفاق لوقف إطلاق النار، بل خطوة إستراتيجية لإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية. إسرائيل نجحت في فرض شروطها، وفصل الساحات، وتأمين مكاسب عسكرية وسياسية تمهد الطريق لمواجهة أكبر مع إيران.
أما حزب الله، فيواجه تحديات غير مسبوقة بين محاولة استعادة موقعه الداخلي وبين الحفاظ على دوره الإقليمي، الذي يتضاءل تدريجيًا.
هذه التطورات ترسم ملامح مرحلة جديدة للصراع الإقليمي، إذ تسعى إسرائيل إلى تحويل هذه الاتفاقيات إلى أرضية صلبة لتصعيد أكبر، في وقت تجد فيه إيران نفسها في مواجهة سيناريوهات لم تكن في الحسبان.
- تلفزيون سوريا