في الواقع السوري الحالي، نلاحظ الانقسام والجبهات المستعرة على صفحات وجداريات التنافر الاجتماعي، يبدو أن كل طرف يسعى لإظهار نفسه في أبهى صورة أخلاقية مثالية، متقمصاً دور المدافع عن الفضيلة والحق. في هذا المناخ الملبد بالتصريحات والمجادلات، تصبح الفضيلة أداة للتباهي وليس لتحقيق التغيير الفعلي. تجد الجميع يتنافسون في إظهار معايير أخلاقية نبيلة، بينما تغيب الأفعال التي تتماشى مع هذه الأقوال. بين الردود السريعة والتعليقات الحادة، تختلط النوايا، ويسيطر الظهور على الجوهر، ما يجعلنا نواجه الحقيقة المرّة: إننا نعيش في زمن أصبحت فيه الفضيلة مجرد وسيلة للاستهلاك الاجتماعي، أكثر منها دعوة حقيقية للتغيير في مواقع التغيير العملية.
حسب الباحث السلوكي جيفري ميللر في كتابه «انتحال الفضيلة» (Virtue Signaling)، هناك خيط رفيع يفصل بين ادعاء الفضيلة الصادق وانتحال الفضيلة المنافق. عندما تتناقض الفضائل التي يدعيها شخص ما مع أفعاله الحقيقية وسلوكه في الخفاء، تصبح هذه الفضيلة مجرد «إشارة» فارغة تهدف إلى تحسين صورته أمام الآخرين، دون أن تعكس الحقيقة. كما يعرّف المفكر العربي علي الوردي هذا السلوك بـ»الشيزوفرينيا الثقافية» ـ حيث يظل الفرد محافظاً على صورة أخلاقية أمام المجتمع وفي الوقت نفسه يمارس أفعالاً مناقضة لما يدعيه، وإذا تم توجيه اللوم له أو تم تذكيره بتناقضاته، ينكر الحقيقة ويدافع عن صورته المزيفة.
في هذا السياق، يمكننا ملاحظة ظاهرة الكبت النفسي السياسي، كإحدى سمات المجتمع السوري المقهور، هذا الكبت، المتراكم على مدى عقود من القمع والاستبداد، يجعل من الأفراد أكثر عرضة للتناقض بين ما يعلنونه وما يمارسونه. فالاستبداد لا يقمع فقط الحقوق والحريات، بل يخلق أيضاً حالة من الانفصال النفسي داخل الإنسان السوري، حيث يصبح مضطراً لارتداء أقنعة متعددة ليتمكن من التعايش مع واقع ملوث بالخوف والاضطهاد.
هذا القمع الطويل الأمد أدى إلى ترسيخ ما يمكن وصفه بسيكولوجية «الشخصية المقهورة»، حيث يتبنى الأفراد سلوكيات دفاعية للتأقلم مع البيئة القمعية. من بين هذه السلوكيات نجد التردد في التعبير عن الآراء بحرية، الخوف من المواجهة، وفي كثير من الأحيان الميل إلى تصديق الشائعات ونشرها كوسيلة للتنفيس عن الإحباط. هذه السلوكيات ليست سوى انعكاس لحالة قهر داخلي تجعل الإنسان عاجزاً عن التفكير النقدي وممارسة حرية الاختيار بوعي.
تظهر هذه السمات بوضوح في سلوكيات المجتمع السوري اليوم، خاصة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة للتعبير. فعلى الرغم من الفرصة التي توفرها هذه الوسائل للخروج من قفص الصمت، إلا أنها أحياناً تصبح ساحة لإعادة إنتاج القمع بأسلوب مختلف، حيث يتبارى الأفراد والجماعات في فرض معايير فضيلة زائفة على الآخرين، ويمارسون نوعاً جديداً من الاستبداد الرقمي.
قد نرى كيف تُستغل الفضيلة على مواقع التواصل الاجتماعي لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية، بينما تكون أفعال البعض في الواقع عكس ما يتظاهرون به. هذا التناقض ليس مجرد حالة فردية، بل أصبح يشكل جزءاً من المشهد الاجتماعي الذي يعزز الانقسامات، ويسهم في تعميق الهوة بين ما يُقال وما يُفعل. في ظل هذا الواقع، تصبح الحاجة إلى وعي جمعي بمفهوم الفضيلة الحقيقية أمراً ملحاً.
إن الفضيلة الحقيقية ليست في ما نعلنه أو في ما نصرح به علناً، بل هي في الأفعال الصادقة التي نمارسها بعيداً عن الأضواء، في تلك اللحظات التي لا نكون فيها تحت الأنظار. الفضيلة تكمن في التزامنا بالقيم حتى عندما لا يكون هناك من يشهد على ذلك، وهي لا تتحقق من خلال الكلمات المنمقة، أو الاستعراضات الأخلاقية، بل في الأفعال اليومية التي تُعبّر عن حقيقتنا بعيداً عن المظاهر، خاصة مع من يخالفنا. فما نفعله في الخفاء هو ما يحدد مصداقيتنا، ويبني مجتمعا قائماً على قيم حقيقية مثل الثقة والصدق والألفة والتراحم، بدلًا من مجتمع يُلهي نفسه بإشارات الفضيلة الفارغة والطهرانية المزعومة والتراشق غير مجد.
لكن كيف يمكن للمجتمع السوري أن يكسر دائرة القهر النفسي والسياسي، التي تحكم قبضتها عليه؟ الإجابة تكمن في إعادة تشكيل بنية الثقافة المجتمعية، على أسس جديدة ترتكز على الصدق مع الذات قبل الآخرين. هذه الثقافة ينبغي أن تفتح المجال أمام الأفراد للتعبير الحر عن ذواتهم، دون رهبة من العقاب أو الوصم، ما يتيح لهم الانعتاق من قيد الكبت المتوارث، واستعادة قدرتهم على التفكير النقدي واتخاذ الخيارات الواعية.
إن الوصول إلى هذه الثقافة يستدعي تحولاً جذرياً يبدأ بإعادة صياغة نظم التعليم بحيث تصبح أداة لتحرير العقول، بدلاً من تكريس الخضوع. كما يتطلب إعلاماً مسؤولاً يكرس الحقيقة بدلاً من التلاعب بالمشاعر والحقائق، ومؤسسات اجتماعية تعمل على تعزيز الأمان النفسي بدلًا من تكريس الانقسام والريبة. إلى جانب ذلك، تبرز أهمية مسؤولية الأفراد أنفسهم في قيادة هذا التحول من الداخل، عبر مواجهة تناقضاتهم بشجاعة وممارسة النقد الذاتي الذي يعيد تعريف علاقتهم بذواتهم والمجتمع.
إن التحرر من الكبت النفسي والسياسي ليس مجرد عملية تغيير سطحية، بل رحلة عميقة تتطلب مواجهة الذات والواقع بكل صراحتهما. البداية تكمن في الاعتراف بجراح الماضي دون تزييف أو إنكار، لأن الاعتراف هو أول خطوة في رحلة التعافي الجمعي. إن المجتمعات التي تتجاوز قهرها ليست تلك التي تخفي عيوبها تحت ستار شعارات زائفة، بل تلك التي تقبل أخطاءها بوعي وتعمل على إصلاحها بروح من التواضع والمثابرة.
ما يحتاجه السوريون اليوم ليس مجرد رؤية، بل رؤية مبنية على شجاعة المواجهة وصدق الالتزام. رؤية تتجاوز الأوهام والانقسامات، وتستند إلى قيم أصيلة تُعيد بناء النسيج الاجتماعي على أساس من الثقة المتبادلة، والاحترام المتبادل، والعمل المشترك نحو مستقبل يليق بتضحياتهم وآمالهم. في عمق هذا المشهد، يكمن الأمل في أن يكون التحرر من القهر النفسي والسياسي بداية لنهضة أعمق، تُعيد تشكيل الهوية الجماعية بما يتجاوز القيود والآلام.
كاتب سوري/ مختص في الصحة النفسية
- القدس العربي