-
-
بسطات الوقود المنتشرة على أطراف الطرقات، التي تبيع البنزين اللبناني بعيار 95 أوكتان، لم تغادر مواقعها. حتى الباعة لم يتغيروا كثيراً، سوى أن ملامحهم أصبحت أكثر مدنية؛ غابت العَبسة الأمنية عن وجوههم، وخلعوا الجاكيت العسكري الذي كانوا يرتدونه فوق البيجاما. بات منظرهم الآن عادياً، بلا هيبة السلطة التي كانت تظهر عليهم في السابق.
الساحة التي عُرفت يوماً باسم «ساحة الرئيس» أصبحت الآن تحمل اسم «ساحة الكرامة»، واختفت منها دورية الشرطة التي كانت تُشرف على كل صغيرة وكبيرة.
سيارات الدفع الرباعي التي ملأت شوارع جرمانا خلال السنوات العشر الماضية، بموديلاتها الفخمة ونُمرها القادمة من بغداد وبيروت، كانت تُعرَف بين الأهالي باسم «سيارات الحزب» في إشارة إلى حزب الله. اليوم، عادت السيارات بموديلاتها المألوفة نفسها، وبزجاجها المظلل الذي يُخفي الركاب، لكن النمر تغيّرت، كما تغيّرت اللهجات. اللهجة اللبنانية أو العراقية التي اعتدنا سماعها من السائقين استُبدلت باللهجة السورية، وغالباً ما تأتي من الشمال، من إدلب أو الرقة أو حلب. ومع ذلك، بقيت تلك الأسئلة البدائية التي تكشف الغربة: «هل هذه جرمانا؟ كيف أخرج من هنا إلى دمشق؟». في الأيام القليلة الماضية، درجَ بين الناس وصفُ مُضلِّلٌ لتلك السيارات بأنها «سيارات الهيئة» نسبة «لهيئة تحرير الشام»، لكن يوماً بعد يوم بدأ هذا الوصف يتأنسن، فهؤلاء ليسوا سوى مدنيين يزورون أقاربهم، أو صحفيين جاءوا من الشمال لتوثيق الحكايات، وبعضهم مقاتلون يلتقون بأسرهم بعد سنوات طويلة من الفراق. لحظات اللقاء مليئة بالعناق والقبلات، وأضواء كاميرات الهواتف تلتقط المشهد، وكأنها تحفظ هذه اللحظات للأبد.
رغم أن جرمانا، التي يفوق تعداد سكانها مليوني نسمة، تضم خليطاً من الطوائف والأعراق، وتُلقَّبُ باعتزاز من قبل عائلاتها التقليدية بـ«سوريا الصُغرى»، فإنها ظلت بمعزل عن الانتشار المكثف لعناصر السلطة الجديدة كما حدث في دمشق والمناطق المحيطة بها. مع ذلك، استطاعت المدينة الحفاظ على هدوءٍ نسبي، وكأنها تتنفس بتأنٍ وسطَ ضجيج التحوُّلات الكبرى.
لكن السؤال يبقى: كيف تُدار مدينة بهذا التنوع، وبهذه الفوضوية، بحيث تتمكن من مواصلة الحياة والعمل، رغم القصور الوظيفي لسلطة جديدة لا تزال تتلمس خطواتها الأولى؟
من جرمانا – تصوير تمام صيموعة استعادة السيطرة
منذ انطلاق عملية «ردع العدوان» في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بدأ الناس في المدينة مثلهم مثل باقي السوريين، يتابعون ما يحدث في الشمال.
في الخامس من كانون الأول (ديسمبر)، كان المشهد في جرمانا يعكس حالة من القلق والترقب بعد سقوط مدينة حماة. أعضاء مجلس المدينة، الذين عيّنهم النظام السابق، قرروا في تلك اللحظة أن يسلكوا الطريق التقليدي في طلب الدعم. كان الخيار بالنسبة لهم: طلب مساعدة الهيئة الروحية للطائفة الدرزية، التي تُعتبر القوة الاجتماعية الأكبر في المدينة. سعى المجلس إلى ضمان دعم الهيئة في حال حدوث أي طارئ، معتقدين أن ذلك قد يكون السبيل الوحيد للحفاظ على استقرار المدينة.
لكن الهيئة الروحية الذي كانت دائماً صاحبة الكلمة الفصل في الأمور الاجتماعية والأهلية، دعت بدورها إلى اجتماع طارئ مع عائلات المدينة لمناقشة الوضع المتأزم. وفي هذا اللقاء، كانت الأجواء مشحونة بالقلق والاعتراضات. كان الجميع يُدركون أن الأحداث قد تخرج عن السيطرة، لكن لم يكن هناك توافق على كيفية التصرف. انتهى الاجتماع بلا قرار حاسم، وكأنَّ المدينة كانت عالقة بين اتخاذ خطوة جريئة أو الانتظار في مكانها حتى تمر العاصفة.
عدم التوصُّل إلى قرار حاسم بشأن كيفية التعامل مع ما سيحدث انعكس بسرعة على شوارع جرمانا، المدينة التي لا تنام. في مساء ذلك اليوم، قرر كثيرون أن يغلقوا محلاتهم مبكراً، حوالي الساعة السابعة، وكأنهم جميعاً يشعرون بتغيُّر غامض في الهواء. كل شيء كان هادئاً، لكن الهواجس كانت تُسيطر على الجميع. عيونهم تُراقب شاشات هواتفهم، يتنقّلون بين الأخبار القادمة من الشمال، تلك التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة تاركة وراءها شعوراً من القلق العميق.
كانت المخاوف تتزايد: هل ستكون معركة دمشق القادمة دامية؟ هل ستتحول هذه المدينة، التي طالما احتفظت بهويتها المستقلة، إلى متراس يتحصّن فيه النظام؟ هل سيعود مسلسل قذائف الهاون الذي كانت تطال شوارعها وتخترق جدران بيوتها خلال سنوات الحرب؟
في السابع من كانون الأول، قبيلَ سقوط النظام بيوم واحد، كانت المدينة تغرق في حالة من الرعب. ضغطٌ نفسيٌ غير مرئي كان يلاحق كل من يخطو في شوارع جرمانا. في الطوابير الطويلة أمام محلات المواد الغذائية كانت الوجوه مليئة بالقلق، وكانت الأيدي تمسك بما تستطيع من أكياس صغيرة من الأرز أو الطحين. كان الجميع يسعون لتأمين القليل ممّا قد يعينهم على النجاة في الأيام القادمة، حيث كانت الأجواء مشحونة بالخوف من المجهول.
عند الساعة الثالثة ظهراً، قررت مجموعة من الشبان الذين عجزوا عن تحمل حالة الخوف والانتظار، أن يكسروا الصمت؛ كانت لديهم فكرة واحدة، أن يُعبّروا عن موقفهم تجاه ما يحدث في المدينة. كانت الطريقة الوحيدة التي تُمكِّنهم من إعلان هذا الموقف دون الدخول في مواجهة عسكرية هي تحطيم الصنم الذي كان يهيمن على ساحة «الرئيس»، وهو تمثال حافظ الأسد الأب الذي بقي جاثماً على قلب المدينة لسنوات.
كان سقوط التمثال بمثابة كسر للقيد الذي علقت المدينة في حلقاته؛ لحظة تاريخية تعلن عن موقف صريح وجلي بعد أيام من الحذر والتردد. لقد كانت تلك اللحظة بالنسبة لجرمانا بداية مرحلة جديدة، مرحلة تَخلَّصت فيها المدينة من خوفها الذي ظل يلاحقها مثل ظل ثقيل. مع سقوط التمثال، اختفت دورية الشرطة التي كانت تراقب الساحة، وكأن المدينة قد انتزعت جزءاً من قبضتها الأمنية الثقيلة.
بُعيدَ سقوط التمثال، سارعت الهيئة الروحية في جرمانا إلى نشر سياراتها في أرجاء المدينة، وقد أُذيعت عبر مكبرات الصوت دعوات للتهدئة. كانت تلك الكلمات التي أُطلقت تبثّ شيئاً من الأمان، وتحاول الحفاظ على هدوء المدينة طالبةً من الناس الالتزام بالسكينة وعدم الانجرار وراء مشاعر الهلع والخوف.
الهيئة الروحية في جرمانا – تصوير كرم منصور بعد ساعات قليلة من سقوط التمثال، بدأ المشهد في جرمانا يأخذ منحىً أكثر تنظيماً. تم تشكيل غرفة عمليات مشتركة تضمّ شباب المدينة المسلحين، وكان العماد الأكبر فيها حركة «رجال الكرامة» التي يقع مجلسها العسكري في السويداء.
جمعَ هذا التحالف الجديد بين المدينتين رغم المسافة الجغرافية التي تفصلهما، ليبرز تَداخُل النَسَب والخارطة الدينية كعامل قوي في صياغة المواقف المشتركة.
الشيخ أبو فهد حيدر، أحد قادة غرفة العمليات وقائد حركة «رجال الكرامة» في جرمانا، تحدَّثَ للجمهورية.نت: «عند الساعة الحادية عشرة ليلًا، مع توالي الأخبار بتداعي حصون النظام، بدأت غرفة العمليات المشتركة عملها بشكل فعلي، وضمت مجموعات مختلفة من شباب جرمانا، من ضمنها مقاتلوا حركة رجال الكرامة، إضافة إلى عناصر من الدفاع الوطني السابقين، الذين لم يتورطوا في القتال خارج حدود المدينة. كانت أولوياتنا واضحة؛ تأمين المؤسسات الرسمية في المدينة وضمان استمرار عملها».
وأشار الشيخ حيدر إلى أن غرفة العمليات سارعت إلى نشر عناصرها أمام المرافق الحيوية، من فرن الخبز إلى المحاكم، ومن المالية إلى مديريات الكهرباء والمياه. كان الهدف الأساسي حماية هذه المؤسسات من أي محاولة للفوضى أو النهب، خاصة في ظل الوضع المتوتر. كما أُعلِنَ أن المخفر الرئيسي في المدينة قد تم تسليمه لغرفة العمليات، ليصبح تحت إدارتها المباشرة. كانت هذه التحركات تعبيراً عن محاولة استعادة السيطرة على زمام الأمور في المدينة، وسط حالة من الغموض بشأن ما قد تحمله الساعات المقبلة.
كانت معظم المفارز الأمنية في جرمانا قد خلت من عناصرها مع تَصاعُد الأحداث، باستثناء مدرسة أمن الدولة الواقعة في الناحية الشمالية الشرقية من المدينة، تلك التي تفصل جرمانا عن الغوطة. يقول الشيخ أبو فهد حيدر: «قمنا بتطويق المدرسة وطلبنا من الضابط المسؤول تسليمها. أجرى الضابط عدة اتصالات، وبعدها أَذِنَ لنا بالدخول».
المدرسة، التي تمتد على مساحة خمسة كيلومترات، كانت أشبه بحصن مُغلق. تتألف من ثلاثة طوابق، وهي مقر لتدريب ضباط الأمن والاستخبارات. عند دخولها، واجه أفراد غرفة العمليات مشهداً صادماً. كانت المدرسة تعجّ بالعبوات الناسفة، وداخل غُرَفها وُجدت صفوف مجهزة بمقاعد ولوحات تعليمية مخصصة لتدريب الضباط على صناعة العبوات وتمويه السيارات وتفخيخها. لكن المفاجأة الكبرى، كما يروي الشيخ حيدر، كانت في العثور على خمس عشرة غرفة ممتلئة بالأسلحة الكيمياوية. بعد أيام، تم التواصل مع فريق الخوذ البيضاء الذي قام بعمليات نقل هذه الأسلحة.
بعد فحص المكان، تقرَّرَ إغلاق المدرسة على الفور وتسليم مفتاحها إلى الهيئة الدينية في المدينة لضمان حماية الموقع. نُشرت مجموعة من العناصر حول المدرسة لمنع أي هجوم محتمل، وأصبحت المدرسة رمزاً آخر للانتقال الذي كانت تشهده جرمانا في تلك اللحظات.
بينما كانت هذه التحركات تجري، ظل معظم سكان المدينة ملتزمين بيوتهم، عيونهم ملتصقة بشاشات هواتفهم، تتابع الأخبار المتسارعة التي كانت وسائل التواصل الاجتماعي تضخُّها بلا توقف. فصائل المعارضة كانت تقترب أكثر فأكثر من العاصمة، تلتهم الأراضي واحدة تلو الأخرى. بعد أن كان سقوط تمثال حافظ الأسد في جرمانا أول تعبير عن تغيير أوضاع المدينة، بات الجميع يترقبون الإعلان الرسمي للسقوط.
الفراغ المؤسساتي
جاء الفجر ليعلن عن يوم جديد في جرمانا، يومٌ اختلف عن كل ما قبله. بدا سقوط النظام وكأنه انكسارٌ في الزمان؛ المحلات مغلقة، لكن الشوارع تعجُّ بالناس. كان الفضاء العام الذي طالما خنقته القيود يستعيد شيئاً من روحه. الخوف تلاشى من الزوايا، وكأن المدينة تُحاول التنفّس أخيراً.
وسط هذه الفوضى الهادئة، برزت الهيئة الروحية لتضبطَ نبض المدينة، واتكأت على لجنة العمل الأهلي التي كانت قد تأسست في الشهر الثالث من العام الماضي. لكن سقوط النظام غيّرَ قواعد اللعبة، فاللجنة التي كانت مجرد قناة لنقل الشكاوى ومتابعة إصلاح أعطال المياه أو الكهرباء، أصبحت فجأة الجهاز التنفيذي الجديد. وبين عشية وضحاها، وجدت اللجنة نفسها تتحمّل مسؤولية الإشراف على المدينة، فدخلت إلى المؤسسات الرسمية وأزالت صور بشار الأسد وشعارات النظام السابق، وقامت بتلحيم أبوابها لمنع الدخول إليها.
لم يكن صباح يوم السقوط خالياً من الفوضى أو الغليان. وسط الهدوء الظاهري الذي خيَّمَ على جرمانا، تسلَّلَ عدد من الأشخاص إلى مفرزة الأمن العسكري بجانب الفرن الآلي. هناك، وسط أوراق السجلات، اندلعت النيران التي لم تكن مجرد ألسنة لهب عابرة، بل رمزية لحرق ذاكرة طويلة من الخوف والوشايات.
كانت الشائعات أسرعَ من النار، وراحت تملأ المدينة باتهامات متبادلة. همس البعض أن هؤلاء المتسللين لم يكونوا سوى شبان من المدينة نفسها، متورطين في الماضي القريب كمخبرين للنظام السابق. حُمِّلَت النيران رمزيةً لمحاولة يائسة لإخفاء الجرائم التي ارتكبوها كأعين النظام وآذان له في أحياء المدينة.
ورغم هذه الحادثة، بدا المشهد العام أكثر تماسكاً مما توقعه الكثيرون. المؤسسات العامة، التي كانت لسنوات تحت رحمة قبضة أمنية مُشدَّدة، خرجت من هذا الزلزال السياسي دون أن تُمَسّ. لم تُخرَّب المدارس، ولم تُنهَب المستودعات داخل المدينة باستثناء مفرزة الأمن العسكري التي كان نهبها بمثابة فصل درامي منفصل، يحمل ثقله في الذاكرة الجماعية لجرمانا.
بعيداً عن مركز جرمانا، وعلى الطريق المؤدي إلى بلدة شبعا، كانت المستودعات الكبرى تقف شاهدة على فوضى السقوط. مستودعات الهلال الأحمر كانت أولى الضحايا، حيث تعرضت للنهب بمجرد أن بدأت السلطة القديمة تتهاوى، كأنما كل شيء خارج حدود المدينة بات مُباحاً.
هذا المشهد أثار قلق أصحاب المستودعات في المنطقة، ودفعهم إلى التحرك بسرعة.
شركة لاميرا، المعروفة باستيراد المشروبات الكحولية، لم تنتظر طويلاً. في اليوم الأول للسقوط، بدأت عربات النقل التابعة لها بالعمل بلا توقف، تنقل حمولات الصناديق من المشروبات إلى داخل مدينة جرمانا. كان القرار وقائياً؛ المدينة، رغم التغيرات التي اجتاحت المشهد، بدت ملاذاً أكثر أماناً من الطريق المفتوح للنهب والتحطيم.
في مساء اليوم التالي للسقوط زار وفدٌ من السلطة الجديدة الهيئةَ الروحية في جرمانا، كان الاجتماع تعارفياً، أَعلنَ فيها مبعوث السلطة الجديدة أنه بحاجة للتعاون مع الهيئات المحلية لإدارة شؤون المدينة.
لم ينتشر الأمن العام التابع للسلطة الجديدة في المدينة، ولم يَقُم بأي مداهمات طوال الأيام الأولى للسقوط، وتطوَّعَ عدد من الموظفين السابقين للعمل في المخفر، لكتابة الضبوط بشأن الذين يتم إلقاء القبض عليهم أثناء محاولة السرقات، فيما يتداور شبان المدينة حمايةَ مداخلها وشوارعها الرئيسية تحت إشراف غرفة العمليات في جرمانا.
بعد مرور 24 ساعة على إعلان سقوط النظام، بدأت الحركة تعود تدريجياً إلى شوارع جرمانا، وكأن المدينة كانت تتنفس مجدداً بعد فترة من الجمود. المعارضون الذين ظلوا بعيدين عن النشاط العام في الفترة السابقة بدأوا في عقد اجتماعات لبحث التوجهات القادمة، في محاولة لإعادة تنظيم صفوفهم والتخطيط للمرحلة المقبلة.
لكن هذا النشاط السياسي والاجتماعي الذي بدأ يطل برأسه لم يكن منفصلاً عن الواقع الصعب الذي كانت المدينة تعيشه. تردَّتْ الخدمات بشكل واضح، فمع استمرار انقطاع الكهرباء وتفاقُم مشكلة الطاقة، كانت المدينة تغرق في ظلام دامس لساعات طويلة. الشوارع امتلأت بأكياس القمامة التي تراكمت حول المكبات، فيما كانت الروائح الكريهة تملأ الأجواء. ومع إغلاق معظم المؤسسات الرسمية، ظلَّ الفرن يعمل بكامل طاقته لتوفير الخبز، في حين كان الموظفون في شركات الكهرباء والهاتف يتواجدون بنظام الدوام الجزئي.
أما المدارس في المدينة فقد كانت نسبة تواجد الطلاب والمعلمين فيها منخفضة مع إصدار وزارة التربية تأجيلاً للامتحانات إلى 15 الشهر الحالي. في حين تم حلُّ مجلس المدينة التابع للنظام القديم، وتشكيلُ مجلس محلي مكون من أسماء تَحظى بتوافقية مجتمعية، معظم أعضائه من أبناء عائلات المدينة الأصلية الدروز، إضافة إلى تسمية سيدة وشاب من الطائفة المسيحية.
كانت مهمة المجلس هي إدارة أمور المدينة بشكل مؤقت، ولكن بعد مرور شهر لم تأتِ الموافقة على الأسماء لبدء التعاون الرسمي من محافظة ريف دمشق التي تتبع لها جرمانا، ليبقى المجلس البلدي الذي عينته المدينة مُعلَّقاً. هكذا تحولت لجنة العمل الأهلي إلى أداة تنفيذية للهيئة الروحية، التي تدير المدينة بالتعاون مع السلطات الحالية.
منذ 21 كانون الأول بدأت بوادر التنظيم تظهر، وذلك مع قيام لجنة العمل الأهلي في المدينة بانتخاب لجنة حقوقية، ضمّت 13 محامياً من أبناء المدينة بينهم سيدتان، للإشراف على العمل داخل جرمانا. كانت هذه الخطوة بدايةً لتشكيل هيكل إداري جديد يدير شؤون المدينة، رغم الوضع المعقد والتحديات الكبيرة.
في لقاء مع الجمهورية.نت، تحدَّثَ سالم المغربي، أحد أعضاء لجنة العمل الأهلي في جرمانا، عن التحديات التي تواجه المدينة في ظل الفراغ المؤسساتي الذي نشأ بعد سقوط النظام. بدأ المغربي حديثه بالتأكيد على أن أكبر الهموم التي كانت تواجههم هي الحفاظ على عمل فرن الخبز، الذي يُعَدُّ من أهم الخدمات الأساسية. وقال: «احتفظنا بإدارة المخبز وسعينا لإقامة تواصلات مع كوادر التموين لضمان استمرار الحصول على الخبز بشكل مستمر».
أما النقطة الثانية التي كانت تشكل عبئاً على اللجنة فكانت معالجة ملف القمامة. مع إغلاق المكبّات اليت كان يتم نقل النفايات إليها خارج المدينة، حاولت اللجنة معالجة الوضع بترتيب تبرع من أحد سكان المدينة بقطعة أرض لاستخدامها كمَطمر مؤقت للنفايات، ورغم التحديات التي فرضتها الظروف، كانت الجهود تزداد من أجل إبقاء المدينة نظيفة ولو جزئياً.
يقول المغربي إن مخصصات بلدية جرمانا من الوقود كانت قد وصلت في الفترة السابقة إلى 23 ألف ليتر شهرياً، وهي موزعة على العديد من المؤسسات العامة. أما الآن، فقد قامت الإدارة الجديدة بصرف 1700 ليتر فقط، وهو ما لم يكن كافيًا لتلبية احتياجات المدينة: «اعتمدنا على التبرعات المالية من المغتربين لشراء الوقود اللازم لتشغيل الآليات الأساسية ودفع أجور العمال اليومية لتسيير الخدمات الرئيسية».
وفي ختام حديثه، أشار المغربي إلى أن اللجنة قابلت العديد من الشخصيات التابعة للسلطة الجديدة، وأخذت وعداً بزيادة الاهتمام بالمؤسسات الرسمية في المدينة. ومع ذلك، أكد أن الدعم الذي تم تلقيه حتى الآن لم يكن كافياً ولم يرتقِ إلى سدِّ حتى ربع حاجة المدينة من الخدمات الأساسية.
في العشرين من شهر كانون الثاني الجاري، خطت السلطة الجديدة خطوة إضافية في محاولتها لترسيخ حضورها الإداري في جرمانا، حيث تسلمت مديرية الناحية رسمياً. جاء هذا التطور بعد مشاورات استمرت لأسابيع، وبتنسيق مباشر مع الهيئة الروحية للمدينة، التي كانت ولا تزال الفاعل الأكثر تأثيراً في إدارة شؤونها منذ سقوط النظام.
رافقت تسليم المديرية مجموعة ضابطة شرطية مؤلفة من 15 عنصراً، تولت مسؤولية ضبط الأمن في المدينة. هذا التشكيل الشرطي المحدود، الذي تم تشكيله بناءً على طلب الهيئة الروحية، يعكس حالة التوازن الدقيق الذي تسعى جرمانا إلى تحقيقه بين إدارة محلية تُمثّل التنوع المجتمعي الكبير للمدينة، وبين سلطة مركزية ما زالت تحاول إيجاد موطئ قدم لها في المشهد الجديد.
كان هذا التسليم بمثابة مؤشر على التحول التدريجي نحو إعادة بناء مؤسسات الدولة. وإن بدا ذلك بطيئاً ومتردداً، لكنه في الوقت نفسه يُعيد التأكيد على نفوذ القوى المحلية.
من تجمع لاستقبال مدير الناحية المكلف من جانب السلطة الجديدة في دمشق – تصوير تمام صيموعة الوجه المدني
في الجمعة الأولى بعد سقوط النظام، شهدت جرمانا حدثًا بارزاً عبّرَ عن تحول جديد في الحياة المدنية داخل المدينة. أعلن التجمع المدني في جرمانا عن نفسه من خلال وقفة احتجاجية نظمت في أحد ساحاتها، جامعاً تحت مظلته عددًا من نشطاء المدينة، الذين كانوا رواداً للملتقيات الثقافية التي نشطت بشكل غير مرخص في زمن الحكم السابق.
التجمع المدني في جرمانا، الذي قدَّمَ نفسه ككيان عابر للطوائف والمذاهب، أكَّدَ في بيانه أنه يسعى لبناء دولة مدنية تحتضن جميع أبنائها بعيداً عن الاعتبارات الدينية والطائفية. في هذا السياق، التقت الجمهورية.نت سلمان كاتبة، أحد مؤسسي التجمع، الذي أوضح أهدافهم: «هدفنا في هذه المرحلة هو تأسيس جسم مدني يطالب بإقامة نظام مدني يكون الأساسُ فيه الانتماءَ للوطن، لا للطائفة أو الدين. ننطلق من جرمانا، ونسعى للتعاون مع كل التيارات المدنية في سوريا لتحقيق هذا الهدف».
يرى كاتبة أن الطائفية والمُحاصصات التي تُطرَح كحلول للمرحلة الانتقالية تحمل في طياتها خطراً كبيراً: «هذه الوصفات قد تؤدي إلى تكريس الانقسام أو تحويل المجتمع إلى ساحة مُحاصصة دائمة، مما يُبعد الكفاءات عن مواقعها الحقيقية، ويترك رجال الدين يمسكون بزمام الأمور، وهو ما يتعارض مع فكرة الدولة المدنية التي نَنشدُها».
كان هذا الإعلان بمثابة صرخة مدنية في وجه تاريخ طويل من الإقصاء، وشكَّلَ إشارة واضحة إلى أن سقوط النظام لم يكن مجرد تغيير سياسي، بل لحظة لإعادة التفكير في أُسس العيش المشترك ومستقبل البلاد.
فتحَ سقوط النظام باباً جديداً لمدينة جرمانا، باباً طالما ظل مغلقاً بقفل الخوف والصمت. في 20 من الشهر الماضي، شهدت المدينة حدثاً لم يكن ممكناً في زمن النظام السابق. أقيم موقف عزاء جماعي لضحايا التعذيب من أبناء المدينة، أولئك الذين اختفوا في أقبية سجون الأسد، حيث لم يُسمَح لذويهم حتى باستلام جثامينهم. أسماء المعتقلين، التي كان مجرد ذكرها يُعَد تهمة، خرجت للعلن، مكتوبة على لوحات حملها ذووهم الذين ارتدوا السواد واستقبلوا الأهالي لتلقي العزاء.
الحدث لم يكن مجرد عزاء، بل كان إعلاناً رمزياً عن كسر قيود الصمت. صور الضحايا التي كانت تُخفى خوفاً، ظهرت أخيراً لتروي قصص أصحابها. الأمهات والآباء، الذين حملوا أحزانهم لسنوات، وقفوا يتلقون التعازي من أهالي المدينة، بينما تتقاطع الدموع مع كلمات العزاء التي كانت تخرج من القلوب.
مع انتهاء العزاء، لم تنتهِ المشاعر التي غمرت المدينة. خرج المعزون إلى شوارعها، رددوا شعارات تمجد أبناءهم الذين غيبهم نظام الأسد الابن، ورفعوا صورهم لتكون شاهدة على الجراح التي لم تندمل بعد.
من موقف إحياء ذكرى الشهداء في جرمانا – تصوير تمام صيموعة رغم الحراك الحيوي الذي يشهده الشارع المدني في جرمانا، لا تزال المرأة تعاني من ضعف في تمثيلها داخل التشكيلات المدنية والسياسية الناشئة بعد سقوط النظام. سلمى الصياد، عضوة الحركة السياسية النسوية ومديرة منظمة جرمانا، ألقت الضوء على هذه القضية في حديثها للجمهورية.نت؛ تقول: «على الرغم من زيادة مشاركة النساء في الحياة العامة بعد سقوط النظام، إلا أن تمثيلهنَّ في الهيئات والتشكيلات المدنية لا يزال محدوداً. إذا نظرنا إلى التشكيلات المدنية التي ظهرت مؤخراً، نجد أن وجود المرأة فيها غالباً ما يكون شكلياً، بعيداً عن التأثير الفعلي على صُنع القرار». وأضافت أن الدور الذي لعبته المرأة خلال السنوات الماضية كان جوهرياً، خصوصاً في المجال الاقتصادي، حيث أصبحت الكثير من النساء معيلات رئيسيات للعائلات في ظل الظروف الصعبة. و«رغم ذلك، فإن هذا الدور الأساسي لم ينعكس بوضوح في الهيئات المدنية الجديدة».
أعربت الصياد عن مخاوفها من أن السلطة الحالية، التي تتشكل بشكل كبير من حكومة ذات لون واحد، لا تسمح بتمثيل حقيقي للمرأة، ما يحد من فرصها في المشاركة الفاعلة: «المطلوب الآن هو أن تأخذ المرأة زمام المبادرة لتوسيع مشاركتها، وأن تدعمها التشكيلات المدنية لتحقيق تمثيل حقيقي يعكس حجم التضحيات والأدوار التي قدمتها في الماضي».
رغم نجاح جرمانا في التماسك وإدارة شؤونها ذاتياً حتى الآن، إلا أن غياب طاقم خدمي رسمي يضع المدينة على حافة أزمة قد تتفاقم مع استمرار التردي في الخدمات الأساسية. هذا الوضع يُضيف ضغطاً جديداً على السكان الذين يواجهون تحديات يومية لإبقاء المدينة واقفة على قدميها. في الوقت ذاته، تظل المخاوف قائمة من توجُّهات السلطة الحاكمة في دمشق، التي تعتمد على الصبغة الواحدة في التعيينات حتى الآن، مما يعزز الهواجس بشأن تهميش الكفاءات وتفاقم الانقسامات، ليبقى مستقبل المدينة مُعلَّقاً بين إرادة سكانها وسلوكيات القوى المهيمنة.
-