ما مدى دقة الحديث عن «غَلَبة» في سوريا اليوم؟
في نقاشات الأسابيع الماضية السياسية، شاعت كثيراً الإشارةُ إلى «التغلّب» أو «الشرعية الثورية» أو «من يحرر يقرر» للمرافعة عن «حق» أحمد الشرع ومجموعته بحكم سوريا دون اضطرارهم لمفاوضة أحد، ولا لمشاركة السلطة أو القرار مع أحد. تمتلك الإدارة الجديدة فعلاً «شرعية الغلبة» في وجه النظام البائد، إذ تمكنت من إنهائه بسرعة قياسية مستفيدةً من ظروف مواتية، وأزالَت بشار الأسد وزمرته من السلطة بشكل يجعل من غير المنطقي مطالبتها بأي خطوات سياسية تجاه المهزومين، وجلُّ ما يمكن أن يُقال في هذا الصدد هو المطالبة الضرورية بالتمسك بشرعة حقوق الإنسان في التعامل مع مقاتلي النظام الواقعين تحت رحمة السلطة الجديدة، مرغمين كانوا على القتال أم متحمسين ومجرمين كانوا أم أبرياء؛ والإدانة لأي انتهاكات تحصل في سياق «مُلاحقة فلوله»، مجرمين كانوا أم أبرياء، أيضاً.
لكن، عدا النظام الساقط، هل من «شرعية غَلبَة» يملكها أحمد الشرع في مواجهة بقية الأطراف في سوريا؟
نعتقد أن هذا السؤال هو مُنطلَق التفكير الحقيقي بسوريا المستقبل، بعيداً عن وصفات «الشرعية» الجاهزة. واقعياً، لم تغلب هيئة تحرير الشام والفصائلُ المتحالفة معها في «إدارة العمليات العسكرية» فصائلَ «الجبهة الجنوبية» سابقاً في حوران، ولا فصائل السويداء، ولا قوات سوريا الديمقراطية، ولا فصائل «الجيش الوطني» التابع لتركيا، ولا «جيش سوريا الحرّة» المدعوم أميركياً في الشرق. كل هذه كيانات عسكرية قائمة، وقد تُحاربها هيئة تحرير الشام أو تتفاوض معها أو الاثنتين معاً أو بالتتابع، لكنها قطعاً ليست أطرافاً «مغلوبةً» سلفاً. وسيحتاج التغلّب عليها، إن كان التغلّب هو الخيار الأوحد، حرباً جديدة غير مضمونة النتيجة، عدا عن كارثيتها الإنسانية وضررها السياسي البالغ على «سوريا الجديدة». تخوض هذه الكيانات العسكرية اليوم مفاوضات مُركّبة مع وزارة دفاع الإدارة الجديدة للانضواء ضمن الجيش السوري الجديد، مفاوضات فيها الكثير من المطالب السياسية والمناطقية والهوياتية من جهة، والكثير من محاولات التطمين ووعود صون الحقوق من جهة أخرى، وفيها كثيرٌ مما يجري على مضض. هي مفاوضات طرف قوي مع أطراف أقلّ قوة منه، لكنها ليست ترتيبات استسلام بين منتصر ومهزومين، ويُحسِنُ قادة «إدارة العمليات العسكرية» صُنعاً لو سعوا لتهدئة روع المتحمسين لهم وتبريد انفعالاتهم تجاه هذه الأطراف الأخرى، فهذا ضروري لضمان إنجاز العملية، البطيئة والمركّبة، بأفضل نتائج ممكنة.
لكن عدا الكيانات العسكرية المستقلة هذه، ماذا عن إدارة العمليات العسكرية نفسها؟ ماذا عن الفصائل التي انضوت في معركة «ردع العدوان»؟ نَعرفُ جيداً أي صراعات دامية خاضتها هيئة تحرير الشام ضد هذه الفصائل على مر السنين بُغية تطويعها، ونعرف جيداً أن دماءً كثيراً سالت حتى خضعت هذه الفصائل لقيادة هيئة تحرير الشام. وإذا كان صحيحاً أن الهيئة «غلبتها» فإنه صحيحٌ جزئياً فقط، لأن الغَلَبة لو كانت ناجزة فعلاً لما بقيت لتلك الفصائل استقلاليتها النسبية. هل نحتاج أن نستعيد وقائع المعارك بين هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام أو كتائب نور الدين الزنكي، أو غيرهما من فصائل قاتلت في معركة ردع العدوان، كي نشرح إلى أي حد كان هذا الانضواء على مضض أيضاً.
وغيرُ العسكر وفصائلهم، ثمة فئاتٌ اجتماعيةٌ متنوعة وتعقيدات جهوية ذات صلة بمدن سوريا وأريافها وعلاقتها ببعضها بعضاً، على نحو يُضعف كثيراً من صلابة «شرعية الغَلَبة» التي يجري الحديث عنها. منذ لحظة دخولها مدينة حلب، احتاجت هيئة تحرير الشام إلى إبراز كثير من التغييرات في سلوكها وخطابها كي تتمكن من السيطرة. وإذ نتحدث هنا عن أوساط اجتماعية كانت موالية للنظام أو حيادية تجاه أطراف الصراع، فإننا لا نتحدث عن هذه الأوساط فقط، بل أيضاً عن أوساط وفئات كانت منضوية في الثورة أو مناهضة للنظام، حتى أنه يصح أن نقول إن «الفاتحين» استولوا على خطاب الثورة السورية ومقولاتها ورموزها بعد طول عداء حتى يتمكنوا من صناعة شرعيتهم الجديدة، حتى كادوا أن يقولوا «نحن لم نعد نحن». يحصل ذلك في سياق عملية فيها فرضُ هيمنة عسكرية على مناطق جديدة، لكن القوة التي تهيمن عسكرياً تعمل في الوقت نفسه على بناء شرعيتها السياسية بطريقة مغايرة لسلوكٍ قد يسلكه مُتغلّب عسكري بحت، غير مضطرٍ لحساب خاطر أحد.
تُناقِضُ كل هذه الوقائع أي مقولات عن «وحدة» قوى الثورة والمعارضة السورية وعن أحقية الهيئة بقيادتها وتمثيلها، وإذا كان هناك ميلٌ عامٌ للقفز فوق هذه الوقائع من أجل صناعة أسطورة «الثورة التي انتصرت»، فإن الأسطورة لا تُعيد صناعة الواقع وتشكيله بهذه البساطة، ويحتاج الأمر إلى ما هو أكثر من قبول الوقائع الراهنة على مضض لأجل المضي نحو المستقبل.
الواقع اليوم هو أن هيئة تحرير الشام تغلّبت على الجهة ذات الشرعية الأممية التي تسمح لها بالتحدث باسم الدولة السورية. هذا خرقٌ هائل بطبيعة الحال، وهو مصدر الحصول على الشرعية من العالم، لكنها شرعية مشروطة كما تقول دول العالم كلها دون استثناء واحد؛ وهذا التغلُّب على النظام الأسدي هو أيضاً مُنطلَقُ الحصول على الشرعية الداخلية، التي ما تزال أضعفَ مما يتخيّله المتحمسون للإدارة الجديدة، وتحتاج للكثير من العمل وبناء الثقة، ومن ثم لصونها، كي تصل إلى مُستَقرٍّ ما. ما الذي يدفع عموم الناس في مناطق سيطرة الإدارة الجديدة إلى قبول «شرعية» سلطة الشرع، بعضهم على مضض وبعضهم الآخر بحماسة؟ نعتقد أن هذا القبول، أو هذا «الاستعداد للشرعية»، هو أولاً وقبل كل شيء محصلة الفرصة التاريخية المُتاحة أمامنا لانتهاء الحرب والقتل والموت والتهجير في سوريا المهترئة، الفرصة التي لن ينجو من يتحمّلُ مسؤولية تفويتها.
هذا هو الضاغط الأكبر على فصائل عسكرية لكي ترسل وفودها إلى دمشق رغم تاريخها الدموي مع الهيئة؛ وهذا ما يضطر قسد لمحاولة الإقناع بصدق نواياها أمام أوساطٍ لم تكترث يوماً بالحديث معها؛ وهذا ما يدفع أوساطاً اجتماعية وأطيافاً سياسية، لديها في تاريخ الهيئة وسيرة قائدها ما يكفي من المعطيات، لكي لا تحاول القيام بأدنى اقتراب منه، إلى أن تضع ذلك جانباً وتلجأ للشك الإيجابي والترقُّب البنّاء، بل وحتى إجبار النفس على الحماسة في بعض الأوساط؛ وهذا قبل كل شيء ما يدفع أحمد الشرع والحلقة المحيطة به، خصوصاً الزمرة الأمنية ذات الماضي المعروف في إدلب وغيرها، لتحمُّل ما يُعرَف من تاريخها القريب جداً أنها لا تُطيقه.
نقترح أنَّ «على مضض»، وليس «شرعية الغَلَبة»، هو عنوان المرحلة الحالية. كل المذكورين أعلاه، السلطة في دمشق والسلطة في مناطق أخرى وفئات اجتماعية وسياسية متنوعة، كانوا يفضّلون عدم المُسايسة بهذا الشكل ومع هؤلاء «الشركاء» ووفق توازنات القوّة هذه (أو بالأحرى «توازنات الضعف»)، لكن ثمنَ عدم الذهاب إلى المُسايسة أدهى وأخطر من ثمن الخوض الصعب وغير المضمون فيها.
ولا بأس بـ«على مضض»، بالمناسبة، فهذه السطور تراه عنواناً فضيلاً، وذلك لقناعة كاتبَيها أن السياسة عموماً، والسياسة الديمقراطية خصوصاً، لا تَنتُجُ عن فضيلة أخلاقية مهرولة إلى التعايش، بل عن قيامِ متجاورين بإرغام أنفسهم على قبول مُجاوريهم «على مضض»، سعياً للمساومة على شروط قد تكون أفضل للجميع. فلو كان أصحاب التوجهات والعقائد والمصالح المختلفة يقبلون الشراكة في السلطة «حباً وطواعية»، لما كنا بحاجة إلى الدساتير والبنى والهياكل السياسية التي تتقاسم السلطة وتُنظّم تداولها. عهدٌ مُتبادلٌ بانتفاء القتل، أي قتل، هو الشرط القَبلي الوحيد للسياسة الذي نحتاجه، وما بعد ذلك فليكن «على مضض»، ولا بأس بأن يظل كذلك.
- الجمهورية نت