هل هناك سوري واحد غير سعيد لسقوط النظام؟
الجواب: لا أحد، باستثناء من أجرم بحق الشعب السوري في سنوات الثورة وهو مدركٌ أن يد العدالة ستطاله.
هل هناك من السوريين من لا يشعر بالرضى الكامل حول هوية من استحوذ على النصر في دمشق؟
الجواب بلا ريب: كثيرون!
وما ذلك إلا لأن إرادة السوريين ليست الفاعل الوحيد في الساحة فهي في حالة اشتباكٍ منذ أربعة عشر عاماً مع كلٍّ من إرادة الإقليم وإرادة الغرب.
إرادة السوريين
أصل الحكاية كانت إرادة السوريين عام 2011 بالتغيير الديمقراطي ورفع بلادهم إلى مصاف الدول الحديثة والمتقدمة. لكن إرادة السوريين منذ اليوم الأول استفزّت كلاً من إرادة الإقليم وإرادة الغرب، فكل ما يحصل منذ عام 2011 وكل ما نتج عنه اليوم هو حصيلة اصطراع هذه الإرادات الثلاث. ومع سقوط نظام الأسد وولادة سوريا الجديدة فإننا نجد أشياء تسرّنا وأخرى لا تسرّنا فيما تتمخض عنه الأحداث. فلا بد والحال كذلك من أن نتذكر دائماً أجندتنا الأصلية من عام 2011 يوم كانت الثورة ديمقراطية وطنية تحررية تقدمية. إن أيّ انحراف عن هذه التطلعات الجامعة لا يهدد بالتفريط بإرادة السوريين الأصليّة فحسب، بل بوحدة البلاد ومستقبلها ككيان.
السوريون إذاً أمام تحدي المضيّ بإرادتهم حتى نهايتها المرجوّة. المهمة لم تكتمل بعد.
إرادة الإقليم
يشهد الإقليم الذي تقع فيه بلادنا تنافساً محموماً بين إسرائيل والمحور الشيعي بقيادة إيران. كان نظام الأسد الأب والابن بحكم تركيبته الطائفية جزءاً من المحور المذكور ولم يكن ذلك ليضرّ النظام كثيراً لأن التنافس كان منضبطاً ومفيداً لإسرائيل وإيران معاً كونه كان يتم على حساب الدول السنيّة الغنية في المنطقة. لكن هجوم حماس (المدعومة من إيران) عام 2023 قلَب الطاولة على دولة الاحتلال وتحول التنافس إلى صراع وجود لإسرائيل التي استفاقت لتكتشف أن اللعب على التناقضات السنية الشيعية في المنطقة صار وبالاً عليها، وأن المحور الشيعي تجاوز بكثير مبادئ المنافسة المقبولة.
وهكذا قرر نتنياهو أن يضع على رأس أولوياته محو المحور الشيعي عن الوجود، فشنّ حملته المجنونة على حماس، وأوشك على تدمير حزب الله واحتلال جنوب لبنان، وهدد لأول مرة نظام الأسد بشكلٍ مباشر محذراً إياه بأنه يلعب بالنار. انقلبت أمور الإقليم إذاً وصار السيناريو الأنسب بالنسبة لإسرائيل هو إسقاط النظام الطائفي العلوي في سوريا المرتبط بإيران على ألا يكون البديل نظاماً وطنياً أو تقدمياً، بل يفضل أن يكون هو الآخر نظاماً طائفياً، وإنما – ويا لها من مفارقة – طائفياً “سنّياً” هذه المرة كي يشكّل حائط صدٍّ إيديولوجيّ نهائي ضد النفوذ الإيراني في سوريا يخرجها مرة واحدة وإلى الأبد من المحور الشيعي. أما أن تكون سوريا دولة ديمقراطية جامعة لكل السوريين فهذا مما لا يعني إسرائيل بشيء، بل على العكس هو في غير صالحها على المدى البعيد.
ولا ننسى إرادة الجارة تركيا التي حابت الإسلاميين السوريين لأسبابٍ حزبية تخصّ الداخل التركي، وهو ما جعل إدارة الرئيس أردوغان تعمل كل ما بوسعها لتقوية العناصر السنية المتشددة في صفوف المعارضة والثوار السوريين على حساب شركائهم في الوطن والثورة حتى كان ما كان من أفول نجم الجيش الحرّ، وتصدّر التنظيمات المتشددة، إذ لا يبدو أن تركيا ترى في سوريا أكثر من ممرّ تجاري يفضل أن يكون في قبضة حلفاء موالين ولاءً أعمى.
فإرادة الإقليم لم تشأ إذاً أن يمسك السوريون في كلّيتهم وعلى نحوٍ تشاركيّ بالحكم في بلادهم بعد فرار الأسد، فلم نر الجيش الحر والضباط المنشقين مثلاً يدخلون دمشق ولم نشاهد ثوار الحرية الأوائل من عام 2011 يتصدرون شاشة الجزيرة، ولا حتى المعارضة السياسية التي كانت فاعلة في إسطنبول، وبدا أن سوريا صارت بلقعاً خالياً إلا من مقاتلين سابقين في تنظيم القاعدة وأشتات متفرقين من مغتربي الإخوان المسلمين.
يرى شطرٌ من السوريين ضرورة تشكيل معارضةٍ سياسية قوية داخل سوريا تقدم مشروعها البديل، وتمارس دور الرقابة الإيجابية على السلطة القائمة في دمشق.
إرادة الغرب
سواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا نحن نعيش في عالم الغرب نتأثر سلباً وإيجاباً بما يقع فيه، وخصوصاً في الجارة أوروبا. لكن الغرب منافق طالما تشدق بالحرية وحقوق الإنسان ثم دعم نظام الأسد من تحت الطاولة. والغرب أناني لا يريد رؤية دُولٍ حديثة ومتقدمة على الضفة الشرقية من البحر المتوسط. وهكذا فإرادة الغرب لسوريا قبل الأسد وبعده هو أن يرى دولة مستقرة لا تصدّر لاجئين على أن تبقى دولة بلا تقدم ولا ديمقراطية ولا سياسة ولا تكنولوجيا ولا ظروف مواتية بأي شكل من الأشكال كي يسهم الإنسان السوري المبدع في الحضارة الإنسانية بما يتوافق مع عمق تاريخه وتميز شخصيته وخصوبة أرضة وعطائها. إن أوروبا التي راحت تدعو ظاهراً بعد سقوط الأسد لقيام حكم تمثيلي غير طائفي في سوريا هي نفسها التي لا يسرّها في الحقيقة إلا أن تبقى سوريا في قبضة دكتاتور دموي قاتل، فإن هرب مهزوماً – كما حصل مع المخلوع بشار الأسد – فلا بأس من تسليم البلاد لجماعات الإسلام السياسي والرؤية السفلية والإخوانية الرجعية التي لا تبني حضارة، ولا تُنشئ حداثة، ولا ترفع السوريين من حضيض الطائفة إلى يفاع الوطن.
ما العمل؟
هكذا إذاً نجحت إرادة السوريين جزئيا بإسقاط النظام لكن الإرادة التي يبدو أنها نفذت على أتم وجه بعد الثامن من ديسمبر حتى الآن هي إرادة الإقليم ومن ورائها الإرادة الغربية المتواطئة معها. فالسوريون إذاً أمام تحدي المضيّ بإرادتهم حتى نهايتها المرجوّة. المهمة لم تكتمل بعد.
وهكذا فقد يرى شطرٌ من السوريين ضرورة تشكيل معارضةٍ سياسية قوية داخل سوريا تقدم مشروعها البديل، وتمارس دور الرقابة الإيجابية على السلطة القائمة في دمشق. وقد يمضي شطرٌ آخر للنشاط بالتوازي من خلال جماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني الوطنية التي لا ترتهن للخارج. وقد ينحو آخرون للعمل مع هذه السلطة الجديدة ذاتها ومن داخلها، ليساعد على التخفيف من غلواء الفصائل الإسلامية، فينقذها من نفسها، ويذكّرها أن سوريا أكبر من أيديولوجيتها الضيقة، حتى لو توهّمت أنها تمثّل الأغلبية. ومع حسن الظنّ بهذه الفصائل علينا ألا نتوانى عن تحذيرها من أن تتحول مع الوقت – ومن دون أن تشعر – إلى مطيّةٍ لتحقيق الإرادتين الإقليمية والغربية دون إرادة السوريين أنفسهم.
- تلفزيون سوريا