مثّل انهيار نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول الماضي لحظة محورية في تاريخ سورية، حيث فتح الباب أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والفرص. أعقب سقوط النظام فراغ أمني وسياسي عميق، مما تطلب استجابات فورية من السلطات السورية الجديدة لمعالجة الوضع المعقّد، خاصة في مناطق كانت تُعدّ معاقل للنظام السابق مثل حمص، حماة، اللاذقية، وطرطوس.
وفي هذا السياق، قام معد هذا التقرير خلال زيارته لحمص وبعض المناطق الساحلية بإجراء عدة لقاءات مع عناصر وقيادات أمنية وشخصيات من المجتمعات المحلية. هدفت هذه اللقاءات إلى تكوين صورة شاملة حول سير العمليات الأمنية في مراحلها الأولى، مما أتاح فهماً أعمق للتحديات والفرص المرتبطة بهذه المرحلة الانتقالية.
شهدت هذه المناطق تشكُّلات عسكرية وأمنية رفضت الاستسلام بسهولة، مما دفع السلطات إلى إطلاق حملات أمنية مكثفة لاستعادة السيطرة وضمان الاستقرار. رافق هذه الحملات تحديات اجتماعية، منها التعامل مع مجتمعات كانت موالية للنظام السابق وشكوكها تجاه النوايا الحكومية الجديدة. في هذا السياق، برزت استراتيجيات متوازنة تجمع بين العمليات الأمنية وإعادة دمج المجتمعات لتحقيق استقرار مستدام.
المناطق المستهدفة: الساحل والوسط السوري نموذجاً
مدينة حمص وريفها الغربي
في أحياء مثل العباسية، عكرمة، والزهراء، أطلقت السلطات حملات أمنية شملت تفتيشاً منزلياً دقيقاً واعتقالات واسعة، أبرزها في 4 كانون الثاني 2025. انتهت العمليات بتوقيف عدد كبير من المطلوبين وإطلاق سراح بعضهم بعد التحقيق. كما استهدفت الحملات الريف الغربي لحمص، المعروف باستخدامه كمعبر تهريب بين سورية ولبنان، مما ساهم في تقليص نفوذ ميليشيات مثل حزب الله. إحدى أبرز العمليات تمثّلت بمقتل شجاع العلي، المسؤول عن مجزرة الحولة، في 26 كانون الأول 2024، مما أضعف الشبكات المسلحة في المنطقة. إضافة إلى ذلك، شهد الريف الغربي تعزيزاً للأمن عبر بناء نقاط مراقبة جديدة ودعم التعاون مع المجتمعات المحلية.
أرياف حماة الغربية
شهدت مناطق مثل مصياف والسقيلبية حملات واسعة بدءاً من 27 كانون الأول 2024، حيث اعتُقلت شخصيات بارزة مثل قائد شرطة حماة السابق حسين جمعة. أفضت العمليات إلى مصادرة كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، مما ساهم في تقليص خطر إعادة تنظيم التشكيلات الموالية للنظام السابق.
أرياف اللاذقية وطرطوس
مثلّت هذه المناطق تحدياً مزدوجاً، إذ كانت مراكز ولاء للنظام السابق ومواقع مهمة للبنية التحتية العسكرية. شملت العمليات مداهمات واعتقالات، أبرزها في 21 كانون الأول 2024، حيث تم الكشف عن أسلحة متطورة وخرائط عمليات. كما واجهت القوات الأمنية كمائن مسلحة، مثل حادثة حي العوينة في مطلع كانون الثاني 2025. انتهت إحدى أبرز المواجهات بمقتل حسام بسام الدين، قائد تشكيلات “أسود الجبل”، في 13 كانون الثاني 2025.
الاستراتيجيات المُنفَّذة
كانت المداهمات الليلية واحدة من أبرز الأدوات التي اعتمدت عليها القوات الأمنية لتحقيق عنصر المفاجأة في العمليات، حيث كانت تتم في ساعات متأخرة من الليل مستفيدةً من هدوء المنطقة وضعف الحركة. هدفت هذه الاستراتيجية إلى تقليل احتمالية المقاومة من قبل العناصر المستهدفة والحد من الخسائر بين المدنيين. لم تكن هذه المداهمات مجرد عملية عشوائية، بل اعتمدت على معلومات استخباراتية دقيقة، حيث تم استهداف مواقع محددة تُستخدم كمخابئ للأسلحة أو نقاط تجمع للمسلحين.
أما تكتيك التطويق، فقد كان مكملاً لهذه المداهمات. اعتمدت القوات الأمنية على عزل المناطق المستهدفة بشكل كامل قبل بدء العملية، مما منع تسرب المعلومات أو هروب العناصر المستهدفة. شهدت بعض الأحياء في مدينة حمص تطبيقاً دقيقاً لهذا التكتيك، حيث تم تطويق الأحياء بشكل كامل قبل بدء العمليات الأمنية. أثار هذا التكتيك حالة من الطمأنينة بين السكان المحليين، حيث شعروا بجدية السلطات في السيطرة على الوضع الأمني. أثر هذه الاستراتيجيات لم يكن فقط على الجانب الأمني، بل امتد ليشمل الأثر النفسي على السكان. فالتواجد المستمر للقوات الأمنية في المنطقة بعد العمليات عزز شعور الأمان لدى السكان، وبدأت المجتمعات المحلية في استعادة ثقتها بقدرة السلطات الجديدة على فرض النظام.
مثلّت الضربات الاستباقية جزءاً هاماً من الاستراتيجيات الأمنية، حيث استهدفت هذه العمليات مواقع حساسة لتجمعات التشكيلات المسلحة ومخازن أسلحتها. تم استخدام الطائرات المسيّرة والمدفعية الثقيلة لضمان دقة الضربات وتقليل الأضرار الجانبية.
في ريف حمص الغربي وريف طرطوس، كانت هذه العمليات فعالة للغاية. اعتمدت القوات على تقنيات حديثة مثل الاستطلاع الجوي والرصد الميداني لتحديد الأهداف بدقة. استهدفت الضربات مستودعات أسلحة في قرى خربة الحمام وبعض المناطق الريفية الأخرى. رافقت هذه العمليات حملات توعية للسكان المحليين، حيث شرحت السلطات أهداف الضربات وأهميتها في تحقيق الاستقرار. ساهم هذا التوجه الإعلامي في تقليل مخاوف السكان وزيادة دعمهم للجهود الأمنية.
إلى جانب العمليات واسعة النطاق، لعبت المهام الخاصة دوراً محورياً في استهداف الشخصيات القيادية والشبكات الأكثر خطورة. وحدات النخبة، مثل “العصائب الحمراء”، كانت مسؤولة عن تنفيذ هذه المهام الحساسة. تميزت هذه الوحدات بالسرعة والدقة، حيث كانت تُكلَّف بمهام عالية الخطورة تتطلب تخطيطاً دقيقاً وتنفيذاً سريعاً. في أحياء حمص وبعض مناطق الساحل، نفذت هذه الوحدات عمليات نوعية استهدفت مواقع قيادية للتشكيلات المسلحة. كان لهذه العمليات تأثير مزدوج: فمن جهة، ساعدت في تفكيك الشبكات الرئيسية، ومن جهة أخرى، قللت قدرة التشكيلات المسلحة على تنفيذ هجمات مرتدة.
إضافة إلى ذلك، كان لهذه العمليات تأثير نفسي كبير على العناصر المسلحة التي بدأت تفقد ثقتها بقدرتها على مقاومة السلطات الجديدة. عززت هذه النجاحات من الشعور بالأمان والاستقرار في المناطق المستهدفة، وأظهرت قدرة السلطات على التعامل مع التهديدات الأمنية بشكل فعال ومخطط له.
نتائج الحملات الأمنية
على مدار الحملات الأمنية، تمكنت السلطات السورية الجديدة من اعتقال مئات الأشخاص، بينهم عناصر بارزة تنتمي إلى الاستخبارات والجيش التابع للنظام السابق. لم تكن هذه الاعتقالات مجرد إجراءات روتينية، بل جاءت ضمن استراتيجية مدروسة لتفكيك الشبكات المسلحة التي ظلت تعمل في الخفاء. وقد ساهمت هذه العمليات بشكل كبير في إضعاف قدرة تلك الشبكات على التنظيم والتخطيط لأي أنشطة عدائية مستقبلية.
من جانب آخر، كشفت التحقيقات التي أُجريت مع المعتقلين عن وجود خلايا نائمة وخطط سرية كانت تهدف إلى زعزعة الاستقرار. أتاح هذا للسلطات اتخاذ تدابير وقائية محكمة، تضمنت ضربات استباقية وعمليات نوعية استهدفت مصادر التهديد قبل أن تتحول إلى وقائع.
ورغم أن الحملات الأمنية حققت تقدماً واضحاً، إلا أنها واجهت مقاومة عنيفة في بعض المناطق، خاصة في طرطوس واللاذقية. شهدت هذه المناطق اشتباكات عنيفة، حيث استخدمت التشكيلات المسلحة تكتيكات الكمائن لاستهداف قوات الأمن. على الرغم من التحديات، أظهرت القوات مرونة تكتيكية ملحوظة، حيث استعانت بتقنيات الاستطلاع الجوي والطائرات المسيّرة لتحديد مواقع العدو وإحباط هجماته.
في الوقت نفسه، لم تقتصر جهود السلطات على العمليات العسكرية فقط. فقد تم تقديم تسويات لعناصر النظام السابق، وهو ما أدى إلى قبول عدد كبير منهم بهذه الخطوات والابتعاد عن النشاط العدائي. مثلت هذه التسويات نقطة تحول في بعض المناطق، حيث ساهمت في تقليل التوترات وإظهار استعداد السلطات للعمل مع مختلف الأطراف لتحقيق استقرار شامل. ورغم النجاح النسبي لهذه السياسة، إلا أن التشكيلات النشطة لا تزال تشكل تهديداً مستمراً، مما يتطلب مراقبة دائمة واستجابة سريعة لأي تحركات مشبوهة.
بالتالي، يمكن القول إن هذه الجهود المتوازنة بين الحزم الأمني والمرونة السياسية قد نجحت في تحقيق قدر من الاستقرار، وإن كان مؤقتاً، مما يتيح فرصة للعمل على تعزيز الثقة المجتمعية وبناء مستقبل أكثر أمناً واستقراراً.
الفرص والتهديدات
تمثل المرحلة الجديدة في سوريا مزيجاً من الفرص الواعدة والتهديدات المستمرة، التي تتطلب من السلطات السورية الجديدة استراتيجيات فعالة لتحقيق التوازن بين تعزيز الاستقرار ومعالجة التحديات القائمة.
الفرص
برزت العديد من الفرص التي يمكن للسلطات استغلالها لتحقيق تقدم ملموس في بناء مستقبل سوريا. من أبرز هذه الفرص كان تعزيز الأمن والاستقرار، حيث أدى الانخفاض الملحوظ في معدلات النشاط الإجرامي إلى شعور السكان بمزيد من الأمان. هذا التحسن لم يكن فقط نتيجة العمليات الأمنية، بل جاء أيضاً نتيجة لتعزيز حضور الدولة بشكل أعمق في حياة المواطنين. ازدادت الثقة بين السكان والسلطات، مما وفر أرضية خصبة لتعزيز التعاون بين الطرفين.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك فرصة كبيرة لبدء المصالحة الوطنية. بعد سنوات من الانقسام، يمكن للمرحلة الجديدة أن تمهد الطريق لحوار سياسي شامل يجمع مختلف الأطياف السورية. يمثل هذا الحوار وسيلة فعالة لمعالجة الجروح المجتمعية وتعزيز الوحدة الوطنية. علاوة على ذلك، كانت الجهود الرامية إلى تحسين الاقتصاد المحلي خطوة مهمة، حيث بدأت السلطات في إعادة تشغيل المشاريع الزراعية والصناعية، مما ساهم في توفير فرص عمل وتحسين الظروف المعيشية.
التهديدات
رغم هذه الفرص، فإن التهديدات لا تزال حاضرة وتلقي بظلالها على مستقبل البلاد. من أبرز هذه التهديدات كانت التوترات الاجتماعية، خاصة في المناطق التي كانت تُعد معاقل للنظام السابق. استمرار تحفظات السكان في هذه المناطق قد يؤدي إلى تصاعد التوترات إذا لم تتم معالجتها بحكمة.
على الجانب الاقتصادي، يظل بطء التعافي الاقتصادي عائقاً رئيسياً. يمكن أن تؤدي البطالة واستمرار الأزمات الاقتصادية إلى تأجيج الاضطرابات وزعزعة الاستقرار. كما أن هناك مخاوف متزايدة من الانتهاكات المحتملة لحقوق الإنسان، والتي قد تؤثر سلباً على الثقة بين السكان والسلطات.
من التهديدات الأكثر تعقيداً كانت الخلايا النائمة، التي تواصل العمل في الخفاء لزعزعة الأمن والاستقرار. الهجمات المفاجئة التي قد تنفذها هذه الخلايا يمكن أن تعيد البلاد إلى حالة من الفوضى، مما يتطلب استجابة أمنية سريعة وفعالة.
بالتالي، فإن تحقيق التوازن بين استغلال الفرص ومواجهة التهديدات هو السبيل الوحيد لضمان استقرار مستدام في المرحلة القادمة.
السيناريوهات المتوقعة
يمثل مستقبل سوريا ما بعد الأسد مشهداً متعدد الاحتمالات، حيث تتراوح التوقعات بين استقرار شامل واستمرار التحديات. يمكن تقسيم السيناريوهات المتوقعة إلى ثلاث مسارات رئيسية:
- السيناريو الأول: التفكيك الكامل
في هذا السيناريو، تحقق السلطات الجديدة نجاحاً كاملاً في عملياتها الأمنية، مما يؤدي إلى تفكيك جميع التشكيلات المسلحة الموالية للنظام السابق. ينتج عن هذا الوضع استقرار أمني شامل في البلاد، يفتح المجال أمام إطلاق مشاريع إعادة الإعمار على نطاق واسع. استثمار هذه المرحلة سيعزز من ثقة المجتمع الدولي بسوريا الجديدة، مما يشجع على تقديم الدعم المالي والتقني اللازم لإعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية.
- السيناريو الثاني: التفكيك الجزئي
أما في هذا السيناريو، فتتمكن السلطات من تحقيق تقدم محدود في عملياتها الأمنية، حيث يتم تفكيك جزء كبير من التشكيلات المسلحة مع بقاء تهديدات متفرقة في بعض المناطق. يؤدي هذا إلى استقرار نسبي، لكنه يتطلب استراتيجيات طويلة الأمد لمعالجة التهديدات المتبقية. قد تكون هذه المرحلة فرصة لتطوير خطط شاملة تجمع بين التدخلات الأمنية والسياسات التنموية لتعزيز الاستقرار تدريجياً.
- السيناريو الثالث: استمرار التهديدات
في أسوأ الاحتمالات، تستمر التشكيلات الموالية في العمل كخلايا نائمة، مما يعطل جهود إعادة الإعمار ويهدد الاستقرار الأمني والسياسي. تؤدي الهجمات المفاجئة إلى زيادة الضغط على السلطات وتقويض الثقة بين السكان والحكومة. قد يؤدي هذا السيناريو إلى انسحاب بعض الجهات الدولية الداعمة، مما يضعف من قدرة البلاد على تجاوز المرحلة الانتقالية بنجاح.
في ضوء هذه السيناريوهات، يتعين على السلطات السورية الجديدة تبني نهج شامل ومتوازن يجمع بين الحزم الأمني والتوجه نحو التنمية. تحقيق ذلك سيمكن سوريا من تجاوز التحديات وبناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.
إن نجاح الحملات الأمنية في تفكيك التشكيلات الموالية للنظام السابق وتحقيق الاستقرار في المناطق المستهدفة يُعد خطوة محورية في بناء سوريا الجديدة. ومع ذلك، يتطلب تحقيق استقرار مستدام توازناً بين العمليات الأمنية وتعزيز الثقة المجتمعية من خلال الحوار الوطني ومعالجة المظالم الاقتصادية والاجتماعية.
إضافة إلى ذلك، فإن الاستثمار في مشاريع تنموية وبنية تحتية يمكن أن يُسهم في تحسين الظروف المعيشية وتقليل الدوافع للتوترات. عبر هذه الجهود المتكاملة، يمكن لسوريا أن تتجه نحو مستقبل أكثر أماناً واستقراراً.
- تلفزيون سوريا