افتتح العام الجديد 2010 في سورية بمشهد سوريالي متميز ، عم المدن والبلدات والقرى في مختلف المحافظات . وعبر بحق عن حجم الموروث المادي والمعنوي الذي نقله السلف للخلف ، وحملته شهور وأيام العام السابق إلى الذي يليه . لم يكن هذا المشهد – الذي عمت سيرته الآفاق – خير معبر عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم والأحوال المعيشية الصعبة التي يعاني منها الشعب السوري فحسب ، إنما عن الوضع الإنساني المزري الذي وصل إليه المواطنون السوريون على أبواب الحكومة . وكان منظر الناس في باحات البلديات والمصارف العامة ودوائر الكهرباء والمياه ، وتدافعهم وصياحهم منذ ساعات الصباح الأولى أمام مؤسسات الدولة ، التي توزع " جعالة " المازوت يثير الحزن والألم والقرف في الوقت نفسه . ويكشف عن جوهر العلاقة بين السلطة والمجتمع ، وفي أحد أبرز وجوهها " الإذلال " . وبغض النظر عن الحق والاستحقاق ، وقضايا استمرار الدعم لبعض المواد والسلع أو رفعه ، فقد أجمع الذين شاهدوا هذه العملية السوريالية والذين شاركوا فيها على أنها " عملية إذلال منظم وموصوف " طالت نفوس المواطنين وأرواحهم ، قبل أن تنال من كرامتهم وأجسادهم .
أما معاناة أهل المحافظات الشرقية ، فلها شأن آخر ووقع مختلف ومضاعف . فالجفاف والبطالة والترحال وسوء معاملة الدولة عصفت بحياة الفلاحين وأسرهم في أرياف الرقة ودير الزور والحسكة ، وجعلتهم نهباً للفقر والتشرد والاستغلال ، بلغ حد انعدام اللقمة الكريمة ، بشكل لا يليق بسورية والسوريين ، ولا يتوافق مع حياة الإنسان المعاصر . والمساعدات العينية ، من مواد غذائية وحاجات منزلية ، التي وزعتها الدولة على بعض المتضررين والمحتاجين ، لم تكن من حيث الشكل والجوهر بعيدة عن " جعالة المازوت " ، بل تجاورها في الخانة وتشترك معها بنفس الاستنتاج : " شعب يشحذ وحكومة محسنة " . في الوقت الذي تصرخ فيه المنطقة وبأعلى وتيرة ممكنة معبرة عن حاجتها لمشاريع إنمائية على المستوى الاستراتيجي ، وخطط إنقاذ سريعة وفاعلة تلبي الحاجة ، وتكون أكثر من تبرئة ذمة ومسكنات . ومن الواضح أن الشعب السوري يدخل العام العاشر من الألفية الثالثة على الصعيد الاقتصادي والمعاشي بوضع صعب . المجهول فيه أكثر من المعلوم ، والمخاطر المحتملة تزيد عن الآمال الممكنة ، وما يدعو للتحسب والقلق أكبر بكثير مما يساعد على الاطمئنان . يتساوى في ذلك الأفراد والجماعات والمؤسسات ، وينسحب أيضاً على كل من الدولة والمجتمع . ولنا في القرارات الحكومية والتوجهات المعلنة و تلك التي يمكن استشرافها وتبشر السوريين بأوضاع أصعب خير دليل على ذلك .
وعلى المستوى السياسي ، فقد رحَّل العام السابق حصاده إلى بيدر العام اللاحق . وهو حصاد مر ، يبقي القديم على قدمه ، ويفاقمه عمقاً واتساعاً على صعيد الحريات والعامة وحقوق الإنسان . فالاعتقالات مستمرة ، والمحاكمات جارية ، ومنع المغادرة يتسع ، وأعمال التنكيل والاضطهاد السياسي يتم تجديدها واستحداث المزيد منها ، بشكل لا سابق له حتى في الثمانينات المنصرمة ، سنوات الضنك الأمني والسياسي في سورية . وفي الوقت الذي تهتم فيه السلطات في المنطقة بترتيب أوضاعها الداخلية ، وتحسين علاقاتها مع المجتمع وقواه الفاعلة ، وتمتين وحدتها الوطنية تمهيداً لمواجهة الاستحقاقات الإقليمية والدولية القادمة ، تبدو السلطة في بلادنا غير معنية بالداخل وشؤونه وشجونه ( عدا الاستمرار في شحذ همة أجهزة القمع ) ، معلقة الأنظار والآمال على المتكآت الإقليمية والعلاقات الدولية وحدها ، متجاهلة دور الداخل وبنائه المتماسك والفعال في إنجاز سياسات وطنية طموحة ، تكون مدخلاً لتحقيق المكاسب الإقليمية والدولية .
وعلى المستوى الاجتماعي ، مازالت السلطة تنظر إلى شعبها على أنه كم من البشر ، تتوجب عليه الطاعة والانصياع . وتستمر في نظرتها إلى المجتمع وحركته على أنهما من تخطيط وإنتاج الدولة وسلطتها ومؤسساتها . فتعيق أي تقدم في منظمات المجتمع المدني . وتمنع نشوء الجديد ، وتحرم الموجود من حقه في العمل والنشاط والقيام بواجباته وتنفيذ برامجه . وقد برزت للملأ مظاهر وإجراءات التضييق على جمعيات حقوق الإنسان .
وعلى الرغم من سيطرة السلطة المطلقة على العمل النقابي ، وبعد مضي ثلاثين عاماً على تخريب القوانين والعلاقات النقابية ، وخاصة في النقابات المهنية ( الأطباء – المحامون – المهندسون – الصيادلة . . . ) ، فمازالت تضن على النقابات بأي فسحة – مهما بدت بسيطة وجزئية – للعمل الحر والمستقل . أو أي نشاط لتحصين وتحسين المصالح الخاصة لمنتسبيها ، بعيداً عن تطاول أصحاب المصالح والنفوذ في هياكل النظام . وكانت الانتخابات النقابية عام 2009 ، قد جرت بأجواء من التضييق والتسلط متصاعدة عما قبل ، بحيث منع بشكل شبه كامل حضور الأصوات الأخرى والمختلفة ، التي تعبر عن حقيقة التعدد في المجتمع أصلاً وفي النقابات تالياً ، وبطريقة أقل ما يقال فيها ، أنها لا تحترم النخب الفكرية والثقافية والعلمية في البلاد ، وتصر على حرمانها من حقها في إدارة شؤونها والمشاركة في تقرير الشؤون العامة .
تعتقد السلطة أنها كلية القدرة ، وتملك سورية ، الأرض وما عليها ، تاريخ البشر والحجر وشؤونهما ، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً . وأنها صاحب الحق الحصري في تقرير مصير البلاد . وأن هذا الحق وتلك القدرة مؤبدان .
لكنها لا تعرف أن كل المستبدين الذين مضوا ، كانوا يعتقدون ذلك .
18 / 1 / 2010
هيئة التحرير