المقدمة
مثّل انهيار نظام بشار الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، لحظة محورية في تاريخ سورية؛ إذ فتح الباب أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والفرص على حد سواء، وأعقب سقوطَ النظام فراغ أمني وسياسي، حيث لم يكن ذلك السقوط مجرد نهاية للنظام، بل كان بداية حقبة تحمل مسؤولية إعادة بناء دولة تمزقت بفعل الحرب والاستبداد.
وجدت السلطات السورية الجديدة نفسها أمام واقع مُعقّد، حيث لم يقتصر المشهد على تركة مثقلة بالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل شمل أيضًا مناطق كانت تُعدّ طوال عقود حاضنة للنظام السابق، مثل حمص، حماة، اللاذقية، وطرطوس. وشكّلت هذه المناطق نقاطًا مركزية لبقايا تشكيلاته العسكرية والأمنية التي رفضت الاستسلام بسهولة.
في هذا السياق، أطلقت السلطات الجديدة حملات أمنية مكثفة تستهدف تفكيك التشكيلات الموالية للنظام السابق من العناصر الذين رفضوا تسليم سلاحهم والانخراط في عملية التسوية الأمنية، وإعادة السيطرة على هذه المناطق بعد قيام هذه التشكيلات بالتمركز في بعض المناطق الريفية، وكانت هذه الحملات جزءًا من استراتيجية شاملة تهدف إلى ملء الفراغ الأمني، وإضعاف أي تهديد محتمل لعملية تعزيز الأمن والاستقرار، لكن التحديات التي واجهتها السلطات الجديدة لم تكن أمنية فحسب، بل كانت اجتماعية أيضًا، إذ كان لا بد من التعامل مع مجتمعات ظلّت موالية للنظام مدة طويلة، ويضاف إلى ذلك أن المجتمعات التي تأثرت بعقود من الدعاية والتضليل من قبل النظام السابق كانت تشكك في نيات السلطات الجديدة وأهدافها، مما يشكل تحديات نفسية واجتماعية تشكّل عقبات أمام القبول الشعبي، فضلًا عن أن وجود عناصر استخباراتية وعسكرية من النظام السابق داخل هذه المجتمعات أدّى إلى تعقيد المشهد الأمني والاجتماعي، حيث عمل هؤلاء الأفراد على تقويض جهود الاستقرار، من خلال نشر الشائعات أو تنظيم أنشطة معادية. أمام هذه التحديات، اضطرت السلطات إلى تبني سياسات متوازنة تجمع بين استخدام القوة لإزالة التهديدات الأمنية، وخطوات شاملة لإعادة دمج السكان المحليين في المشهد الجديد وتحقيق الاستقرار.
مع مرور الوقت، أصبح واضحًا أن الحملات الأمنية ركيزة أساسية في بناء أسس الاستقرار في هذه المرحلة الحساسة، من وجهة نظر السلطات الجديدة، لكنها كشفت أيضًا عن مدى تعقيد التحديات أمام تحقيق مصالحة وطنية شاملة. فبينما سعت السلطات الجديدة لفرض سيطرتها، كان عليها في الوقت ذاته العمل على معالجة الانقسامات المجتمعية، واستعادة الثقة في مؤسسات الدولة التي طالما ارتبطت في أذهان السوريين بالاستبداد والفساد.
المناطق المستهدفة(الساحل والوسط السوري نموذجًا)
شهدت مناطق الساحل والوسط السوري حملات أمنية مكثفة، نفذتها السلطات الجديدة، بهدف فرض السيطرة الكاملة وإعادة الاستقرار في مناطق كانت تشكّل معاقل رئيسية للنظام السابق، وتميزت هذه المناطق، مثل حمص وريفها الغربي وأرياف حماة الغربية وريف الساحل السوري، بتحديات معقدة تتعلق بالولاءات السياسية والانقسامات الطائفية، إضافة إلى أن مجموعات مسلحة وقيادات بارزة للنظام السابق كانت تستخدمها كمعاقل للاختباء والتمركز، وركزت الجهود على تفكيك هذه الشبكات وملاحقة العناصر المسلحة، مع الحرص على تحقيق التوازن بين العمليات الأمنية وتعزيز الثقة المجتمعية، وشملت الفترة ما بعد الإجراءات الأمنية في المناطق المستهدفة إطلاقَ حملات تواصل مجتمعي، هدفت إلى تهدئة المخاوف وضمان عودة الحياة الطبيعية للسكان المحليين، وذلك من خلال قيام مسؤولين أمنيين وكوادر من المحافظة بزيارة تلك المناطق والاجتماع بالأهالي.
مدينة حمص وريفها الغربي:
- الأحياء في المدينة: تمثلت الجهود الرئيسية في أحياء مثل وادي الذهب، عكرمة، الزهراء، العباسية وغيرها، حيث كانت هذه المناطق معروفة بولائها للنظام السابق، وشملت الإجراءات الأمنية حملات تفتيش منزلية دقيقة واعتقالات واسعة، لمنع أي محاولات لزعزعة الاستقرار، واستمرت الحملة بشكل فعلي يومين وبدأت في 4 كانون الثاني/ يناير 2025، وسبقها عملية إغلاق كامل لتلك الأحياء، وفي 6 كانون الثاني/ يناير 2025، أعلنت الجهات الأمنية انتهاء حملة التمشيط، وذلك بعد تحقيق أهدافها المعلنة وتوقيف عدد من المطلوبين[1]. وفي 12 كانون الثاني/ يناير 2025، أعلنت إدارة الأمن العام بحمص إطلاق دفعة من الموقوفين بعد استيفاء التحقيق الأولي، مع الالتزام بالمثول حين الاستدعاء إذا لزم الأمر، وأكّدت جهات رسمية أن هناك دفعات أخرى ستخرج، وأعلنت أن الدفعة الأولى شملت إطلاق سراح أكثر من 310 أشخاص كانوا قد احتُجزوا في السجن المركزي بحمص، ممن اعتُقلوا خلال الحملات الأمنية الأخيرة في بعض أحياء المدينة.
- الريف الغربي من حمص: يعدّ الريف الغربي لحمص منطقة استراتيجية، لاحتوائه على معابر تهريب بين سوريا ولبنان، كانت تستخدمها مجموعات تهريب محلية وميليشيات “حزب الله اللبناني”، في عهد النظام السابق، إضافة إلى الخليط المعقّد من الطوائف المختلفة. وتمكّنت الأجهزة الأمنية من تقليص نفوذ تلك المجموعات ونشاطاتها، عبر عمليات تمشيط وتفكيك شبكات مسلحة عديدة كانت تتخذ الأرياف ملاذًا آمنًا. وعزّزت استقرار الوضع الأمني في هذه المناطق، لضمان عودة السكان النازحين وتشجيع النشاط الزراعي والاقتصادي. ومن أبرز العمليات الأمنية في هذه المنطقة، الهجوم على معاقل ميليشيا شجاع العلي، في الريف الغربي من المحافظة، وأسفر الهجوم عن مقتل العلي وعدد من عناصره وأسر الباقين. ويعدّ شجاع العلي المسؤول عن ارتكاب مجزرة الحولة في حمص التي قُتل فيها 109 من المدنيين، ويُتهم بتزعمه ميليشيا مسلحة تابعة لفرع الأمن العسكري في حمص، متورطة في عمليات خطف وابتزاز مدنيين، للحصول على فديات بمبالغ كبيرة. وفي 26 كانون الأول/ ديسمبر 2024، قُتل العلي خلال اشتباكات مع قوات الأمن التابعة لسلطات السورية الجديدة في قرية بلقسة[2].
وشهد الريف الغربي لمحافظة حمص، في 20 و21 كانون الثاني/ يناير 2025، أحداثًا أمنية جديدة، حيث قُتل ستة أشخاص على الأقل خلال حملة تمشيط واسعة أطلقتها السلطات الجديدة، وشملت هذه الحملة عمليات مداهمة وتمشيط في عدة قرى في الريف الغربي، جاءت في إطار استهداف مستودعات أسلحة وشبكات تهريب ومجموعات مسلحة من بقايا النظام السابق ممن رفضوا تسليم أسلحته، حيث شهدت قرية الغور الغربية، القريبة من الحدود اللبنانية، اشتباكات عنيفة، بين قوات الأمن ومسلحين يُعتقد أنهم ينتمون إلى مجموعات محلية كانت مرتبطة سابقًا بميليشيا “حزب الله” اللبناني. وتخلل الاشتباكات استخدام أسلحة رشاشة وثقيلة، وكانت قوات الأمن قد جلبت دبابات لدعم العمليات الميدانية[3].
وأصدرت مجموعة “السلم الأهلي في حمص”، في 25 كانون الثاني/ يناير 2025، بيانًا تناول الحملة العسكرية في بلدة فاحل بريف حمص، وأشار البيان إلى سقوط قتلى ودفنهم خلال اليومين السابقين، ووصَف عددًا منهم بالمدنيين، إلا أن المجموعة عدّلت بيانها، في 26 كانون الثاني/ يناير 2025، بعد التحقق من هوية القتلى عبر مصادر موثوقة، وأكدت أن معظمهم ضباط يحملون رتبًا عسكرية مختلفة[4]. ومن ثم بات من الضروري، ولا سيما بعد أحداث الغور الغربية وقرية فاحل، التأكيد أن أولويات العمليات الأمنية يجب أن تكون لاعتقال المتورطين من النظام السابق، خاصة أولئك الذين لعبوا أدوارًا رئيسية في الانتهاكات والجرائم التي ارتُكبت خلال فترة حكم النظام. ومع ذلك، يبقى تنفيذ هذا الهدف مشروطًا بالظروف الميدانية، إذ إن تحوّل بعض المجموعات إلى العمل الهجومي ضد قوات الأمن قد يُغيّر طبيعة المهمة من عملية أمنية تستهدف الاعتقال، إلى مواجهة عسكرية مباشرة تستدعي استخدام القوة المناسبة لحماية القوات وتنفيذ الأهداف الأمنية.
أرياف حماة الغربية:
في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أطلقت إدارة العمليات العسكرية حملة أمنية واسعة في ريف حماة الغربي، استهدفت ملاحقة بقايا النظام السابق، وشملت الحملة مداهمات في مناطق مثل مصياف والسقيلبية، وأسفرت عن اعتقال شخصيات بارزة، منها قائد شرطة حماة السابق، حسين جمعة. وفي 29 كانون الأول/ ديسمبر 2024، واصلت السلطات الجديدة حملاتها الأمنية في أرياف محافظة حماة الغربية، مركزة على تفكيك الشبكات المرتبطة بالنظام السابق، وتمكنت القوات الأمنية من مصادرة كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، خلال عمليات التمشيط في مناطق ريف حماة الغربي، مما ساهم في تقليص خطر إعادة تنظيم الأعمال المسلحة.
الساحل السوري:
أرياف اللاذقية وطرطوس: مثلت هذه المناطق تحديًا مزدوجًا للسلطة السورية الجديدة. فمن جهة، كانت هذه المناطق مركزًا رئيسيًا لدعم النظام السابق، سواء من خلال الدعم الشعبي أو البنية التحتية العسكرية والأمنية. ومن جهة أخرى، تحتاج السلطة الجديدة إلى إدارة هذه المناطق بحذر، لتجنب تصاعد التوترات الطائفية أو ردات فعل عنيفة من السكان المحليين الذين قد يشعرون بالتهديد أو الإقصاء، في مرحلة ما بعد نظام الأسد. شملت العمليات الأمنية مداهمات لأوكار سرية واعتقالات لعناصر أمنية وعسكرية في النظام السابق، وأسفرت عن مصادرة أسلحة متطورة خفيفة ومتوسطة وخرائط عمليات سرية لمناطق مختلفة في الساحل السوري. وفي 21 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أعلنت إدارة العمليات العسكرية إطلاق حملة أمنية شاملة في ريفي طرطوس واللاذقية الشرقي، بعد سلسلة من الهجمات التي استهدفت قواتها، وأشارت الإدارة إلى أن الحملة شملت ملاحقة عدد كبير من المطلوبين الذين وردت بلاغات عن تورطهم في أعمال تخريبية وامتلاك أسلحة، منهم مقاتلون سابقون في جيش النظام السابق، وشملت الحملة الأمنية مناطق عديدة في ريفي المحافظتين وفي المدن الرئيسية، وخلال العمليات الأمنية، تعرّضت قوات الأمن للعديد من الكمائن، أبرزها كان في مطلع شهر كانون الثاني/ يناير 2025 في مدينة اللاذقية، حيث نفذت مجموعة مسلحة عملية ضد قوات الأمن، في حي العوينة بمدينة اللاذقية، في أثناء عملية تمشيط لقوات الأمن العام.
ولعل أبرز العمليات الأمنية تمثلت بحادثةٍ وقعت في المناطق الجبلية في محافظة اللاذقية، وبالتحديد في قرية عين الشرقية في جبال اللاذقية، بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير 2025[5]، حيث قامت مجموعة من التشكيلات الموالية لنظام السابق، بقيادة حسام بسام الدين، بمهاجمة ثكنة لإدارة العمليات التابعة لسلطات الجديدة، وأسفر الهجوم عن مقتل اثنين من رجال الأمن العام واختطاف سبعة آخرين، وظهر حسام بسام الدين في مقطع فيديو مهددًا بتصفية المختطفين، إذا لم تتم الاستجابة لمطالبه التي تمثلت بطلبه من قوات الأمن الانسحاب الكامل من المنطقة الجبلية من المحافظة. وتمكنت قوات الأمن خلال ساعات قليلة من تنفيذ عملية نوعية لتحرير المختطفين. وانتهت العملية بتفجير حسام الدين نفسه في أثناء الاشتباك. ويُذكر أن حسام الدين كان سابقًا من أبرز قادة ما عُرف بكتيبة “أسود الجبل”، التي تلقت دعمًا من المخابرات الجوية.
الاستراتيجيات المُنفَّذة
لضمان نجاح العمليات الأمنية، اعتمدت السلطات الجديدة على استراتيجيات شملت المداهمات الليلية والتكتيكات المنسقة للتطويق، وهدفت هذه الأساليب إلى تقليل الخسائر بين المدنيين، ومنع هروب العناصر المستهدفة، مع الاستفادة من التقنيات المتطورة كأجهزة الرؤية الليلية والطائرات المسيّرة. وأدت الاستخبارات البشرية والإشارية دورًا كبيرًا في تعزيز فعالية العمليات، من خلال الكشف عن مواقع الشبكات الموالية للنظام السابق ومخزونات الأسلحة، مما أسهم في تحقيق نتائج دقيقة واستعادة النظام في المناطق المستهدفة[6].
المداهمات والتطويق:
المداهمات الليلية: استخدمتها قوات الأمن للاستفادة من عنصر المفاجأة، وتقليل الخسائر بين المدنيين، وتقليل احتمالات هروب المشتبه بهم. ومن خلال استخدام أجهزة الرؤية الليلية المتطورة والتكتيكات المنسقة، استهدفت هذه العمليات الأفراد ذوي الأهمية الكبيرة ومخزونات الأسلحة، وكانت أرياف حماة من أكثر المناطق التي اعتُمد فيها على العمليات الليلة ، حيث ساعدت جغرافيا تلك المناطق في التحرك والانتشار السريع[7].
تكتيكات التطويق: من خلال تطويق المناطق المستهدفة، عزلت قوات الأمن العناصر المستهدفة، ومنعت وصول الإمدادات أو الهروب. وسمح هذا النهج بإجراء اشتباكات تحت السيطرة، مما قلل الخطر على كل من عناصر قوات الأمن والمدنيين. وسهّل أسلوب التطويق إجراء عمليات تفتيش منظمة وإقامة أطواق أمنية للحفاظ على النظام بعد انتهاء العملية، ومن أبرز المناطق التي شهدت عملية تطويق كامل، أحياء الحضارة، عكرمة، ووادي الذهب في مدينة حمص، حيث طُوّقت تلك الأحياء وأعطيت مهلة راوحت بين يومين أو ثلاثة، قبل البدء بعملية التمشيط الفعلي، وخلال فترة التطويق، كانت تُجمع المعلومات بالاعتماد على:
- الاستخبارات البشرية، إذ أتاحت الاستفادة من المخبرين المحليين وشبكات المجتمع الحصولَ على معلومات ساعدت في الكشف عن أماكن وجود الشبكات الموالية للنظام السابق وأنشطتهم[8].
- الاستخبارات الإشارية، إذأتاح اعتراض الاتصالات بين عناصر شبكات النظام السابق التنبؤ والحد من الأعمال العدائية المحتملة، وساعد في اكتشاف الشبكات السرية ومستودعات الأسلحة. وأسهمت التقنيات المتطورة للمراقبة، ومنها الطائرات المسيّرة وأدوات الرصد السيبراني، في جمع البيانات وتحليلها في الوقت الفعلي، مما زاد دقة العمليات الأمنية وحسّن نتائجها[9].
الضربات الاستباقية:
الضربات المدفعية والطيران المسيّر (شاهين): استُخدمت الضربات الدقيقة على مخازن الأسلحة ونقاط تمركز التشكيلات الموالية للنظام السابق بغرض تعطيل الأنشطة العدائية المحتملة، واتبعت هذه الاستراتيجية في العديد من المناطق بريف حمص الغربي، ومنها خربة الحمام وبعض القرى من تلكلخ. ومن خلال استخدام صور الأقمار الصناعية والتقارير الاستخباراتية، سعت هذه الضربات إلى تحييد التهديدات، مع الحد من الأضرار الجانبية لها في حال وقوعها. وبعد تنفيذ الضربات، أُجريت تقييمات للتحقق من فعاليتها، والتخطيط للعمليات اللاحقة بأدوات واستراتيجيات مختلفة.
العمليات الخاصة: استُخدمت وحدات النخبة “العصائب الحمراء” للمهام عالية الخطورة، ضدّ أهداف رئيسية كعامل مكمل للجهود العسكرية الأكبر نطاقًا، وتطلبت هذه العمليات التخطيط الدقيق والاستخبارات الفورية والتنسيق مع الدعم الصاروخي والبري، لضمان النجاح وسلامة العناصر المنفذة والمدنيين في المناطق المستهدفة. وأسهم التأثير النفسي لهذه المهمات في ردع عمليات التشكيلات الموالية للنظام السابق التي كانت متوقعة في مواقع ومناطق أخرى، وكانت هذه الاستراتيجية واضحة في أحياء العباسية، حي السبيل، والزهراء في حمص، وفي كل من أرياف جبلة وبانياس وبعض المواقع في جبال الساحل[10].
نتائج الحملات الأمنية
الاعتقالات
اعتقلت قوات الأمن مئات الأشخاص، من بينهم مخبرون سابقون للنظام وعناصر استخبارات وجيش تنتمي إلى النظام السابق، وأدت هذه الاعتقالات إلى إرباك جهود جيوب التشكيلات الموالية للنظام السابق في المناطق المستهدفة، وأسهمت في تفكيك بعض الشبكات الموالية التي يشكل وجودها ونشاطاها خطرًا على استقرار الإدارة الناشئة.
الاشتباكات
وقعت مواجهات مسلّحة في مناطق عدة، مثل طرطوس واللاذقية وريف حمص الغربي، مما يشير إلى وجود جيوب أكثر جاهزية وتنظيم أعلى من قبل التشكيلات الموالية للنظام السابق. واختبرت هذه الاشتباكات جاهزية قوات الأمن وقدرتها على التكيف، مما أدى إلى إجراء تعديلات تكتيكية وتحسين في بروتوكولات الاشتباك، للتعامل بشكل أفضل مع التحديات التي فرضتها كمائن التشكيلات الموالية للنظام السابق. وفي بعض الحالات، تسببت الاشتباكات في وقوع ضحايا بين أفراد الأمن والتشكيلات الموالية. ويشير استمرار جيوب التشكيلات الموالية للنظام السابق بالعمل المنظم في بعض المناطق، ولو جزئيًا، إلى تعقيدات بسط السيطرة الكاملة، والحاجة إلى يقظة مستمرة ومرونة استراتيجية.
التسويات
قبِل العديد من عناصر النظام السابق القيام بعملية التسويات المؤقتة التي قدّمتها السلطة السورية الجديدة، وأدى ذلك إلى انخفاض الأعمال العدائية التي تمثلت بسرقات وعمليات إجرامية متعددة، ظهرت بشكل متفاوت في الفترة التي تلت سقوط نظام الأسد، وساعد هذا الأمر في تحسين الاستقرار المجتمعي، ولو كان ذلك بشكل محدود في الوقت الحالي. وقد أثبتت هذه التسويات فعاليتها بشكل خاص في المناطق التي سهّل فيها القادة المحليون حوارات بين عناصر أمنية وعسكرية تتبع للنظام السابق من جهة، والسلطة السورية الجديدة من جهة أخرى.
بعد انتهاء المرحلة الحالي من عمليات التمشيط الأمني، يمكن تصنيف الفئات المتبقية والموالية للنظام السابق على الشكل التالي:
- الفئة الأولى هي الأفراد الذين قبلوا بالتسويات: هؤلاء هم الذين قبلوا التسويات الأمنية واستفادوا من مخرجاتها، مما يعكس استعدادهم للاندماج من جديد في المجتمع. وتعتبر هذه الفئة نقطة انطلاق مهمة نحو المصالحة الوطنية، إلا أنّ إعادة دمجهم تتطلب توفير فرص عمل مناسبة، وتعزيز مبادرات القبول المجتمعي، وهي أمور أساسية لضمان نجاح هذه العملية، بما يحقق استقرارًا طويل الأمد ويمنع عودتهم إلى النشاط العدائي.
- الفئة الثانية هي التشكيلات العسكرية النشطة والموالية للنظام السابق: لا تزال هذه الفئة تشكل تهديدًا مباشرًا على الاستقرار، حيث تتمركز غالبيتها في مواقع ريفية نائية، وتشن عمليات عدائية باستخدام السلاح. وبعض أفرادها مدفوعون بأيديولوجيات معينة، في حين يعمل آخرون على حماية مصالحهم الخاصة في استمرار الاضطرابات. ويتطلب التعامل مع هذا التهديد نهجًا مزدوجًا يجمع بين العمليات العسكرية المحددة بدقة لتعطيل هذه التشكيلات، وجهود موازية لقطع شبكات الدعم اللوجستي والمالي التي تغذي نشاطهم.
- الفئة الثالثة هي العناصر الانتهازية التي تعتمد على الكمائن العشوائية: هذه الفئة هي الأكثر تعقيدًا وصعوبة في التعامل معها، حيث قد تشمل عناصر من الفئة الأول أو الثانية أو خليطًا منهم، وظهورها قد يكون مباغتًا، حيث تستغل الثغرات الأمنية لتنفيذ هجمات متفرقة تهدف إلى زعزعة الاستقرار وتقويض سلطة الإدارة الجديدة. غالبًا ما تلجأ التجمعات الانتهازية إلى العمل كخلايا نائمة، ما يجعل مواجهتها تحديًا يستلزم تعزيز قدرات الرد السريع، وتحسين آليات تبادل المعلومات الاستخباراتية. وإضافة إلى ذلك، يمكن للمجتمعات المحلية أن تلعب دورًا حيويًا في كشف هذه الأنشطة، من خلال تعزيز التواصل مع الأجهزة الأمنية والإبلاغ عن أي تحركات مشبوهة.
الفرص والتهديدات
شهدت المناطق التي شملتها الحملات الأمنية المكثفة، مثل حمص وأريافها، ريف حماة الغربي، والمناطق الساحلية، تحسنًا ملحوظًا في الأوضاع العامة. وقد تمثل هذا التحسّن في انخفاض محدود بمعدلات النشاط الإجرامي، مثل حوادث السرقة وأعمال الترهيب التي نفذتها جهات مجهولة، إضافة إلى الحد جزئيًا من حوادث الاختطاف أو القتل الناتجة عن أحقاد قديمة خلقتها البيئة الأمنية غير المستقرة في زمن نظام الأسد.
الفرص:
- التحسّن الأمني الحالي قد يساهم في تعزيز شعور الأمان لدى السكان، مما قد يهيئ بيئة أكثر ملاءمة لتعافٍ اقتصادي واجتماعي مستدام إذا استمرت الجهود الأمنية.
- نجاح العمليات الأمنية وضبط أدائها قد يساهم في ترسيخ الدور الإيجابي الذي تقوم به قوات الأمن، مما قد يساعد في زيادة ثقة السكان بالدولة.
- تعزيز الاستقرار الأمني يمكن أن يفتح الباب أمام تعزيز الحوار السياسي والمصالحة الوطنية، وهو ما قد يسهم في التخفيف من التوترات، وتهيئة بيئة أفضل للتعاون بين مختلف الأطراف.
التهديدات:
- على الرغم من التحسّن الأمني بشكل جزئي في بعض المناطق المستهدفة بالعمليات الأمنية، ما زالت هناك تحفظات ومخاوف بين السكان، خاصة في المناطق التي كانت تُعدّ معاقل للنظام السابق، ما قد يؤدي إلى توترات طائفية أو اجتماعية، حيث شهدت بعض العمليات الأمنية انتهاكات بدرجات متفاوتة، مما أثر سلبًا على مستوى الثقة بين السكان وقوات الأمن، لذلك يجب معالجة هذه الانتهاكات بشكل صارم لضمان التزام القوات بالمعايير الحقوقية وتعزيز الثقة مع المجتمع المحلي.
- استمرار المظالم الاجتماعية والاقتصادية، مثل البطالة والفقر، كعوامل تؤجج الاضطرابات إذا لم تُعالج بسرعة وفعالية.
- إن تصفية الشخصيات الأمنية والعسكرية المرتبطة بالنظام السابق قد تؤدي إلى ضياع تفاصيل مهمة حول الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت ضد المدنيين. لذا، من الضروري التركيز على اعتقال هذه الشخصيات والتحقيق معها، لضمان جمع الأدلة ومحاسبة المسؤولين، مما يساهم في تحقيق العدالة وحفظ حقوق الضحايا.
التوصيات:
- تعزيز مشاركة المجتمع: تشجيع مشاريع شبيهة بمشاريع الشرطة المجتمعية، وبناء الثقة بين الأمن والسكان، إضافة إلى تنفيذ حملات توعية حول برامج نزع السلاح وإعادة الاندماج. ويمكن أن تشمل هذه البرامج جلسات حوارية محلية تهدف إلى فهم احتياجات السكان وطمأنتهم حول مستقبل الاستقرار.
- إنشاء آليات رقابة فعّالة: لتجنب أي تكرار للانتهاكات التي قد تهدد ثقة السكان، يُوصى بإنشاء هيئات مستقلة لمراقبة أداء القوات الأمنية أثناء العمليات. ويجب أن تكون هذه الهيئات قادرة على تلقي شكاوى السكان، وإجراء تحقيقات شفافة، ورفع توصيات لمعالجة أي تجاوزات.
- تعزيز المصالحة الوطنية: ينبغي تنظيم مؤتمرات مصالحة وطنية، تُعقد على مستويات مختلفة (محلية ووطنية)، حيث يمكن لجميع الأطياف المشاركة لمعالجة المظالم التاريخية وتعزيز الوحدة الوطنية. ويُفضل أن تكون هذه المؤتمرات تحت إشراف هيئات محايدة لضمان شموليتها ونزاهتها.
- الاستثمار في التنمية الاقتصادية: لتحييد تأثير التحديات الاقتصادية كالبطالة والفقر، يجب إطلاق مشاريع تنموية واسعة النطاق، ولا سيما في المناطق الريفية التي تأثرت بالنزاع. ويمكن تحقيق ذلك من خلال دعم المشاريع الصغيرة، وتحفيز الاستثمار في الزراعة والصناعات المحلية، وتحسين البنية التحتية الأساسية.
- تعزيز التدريب والتطوير لقوات الأمن: لضمان كفاءة العمليات الأمنية والالتزام بالمعايير الحقوقية، ينبغي تقديم دورات تدريبية لقوات الأمن حول حقوق الإنسان، وإدارة النزاعات، والتواصل المجتمعي.
- التركيز على جمع الأدلة والمحاسبة: بدلًا من تصفية الشخصيات العسكرية والأمنية المرتبطة بالنظام السابق، يجب التركيز على اعتقالهم والتحقيق معهم للحصول على تفاصيل دقيقة حول الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت خلال السنوات السابقة. هذه الأدلة يمكن أن تكون أساسًا لتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين.
يتطلب الانتقال إلى مرحلة الاستقرار والتنمية في سورية تحقيق توازن دقيق بين الإجراءات الأمنية والحلول السلمية، مع التركيز على المصالحة الوطنية وتعزيز الشعور بالانتماء لدى الجميع.
السيناريوهات المتوقعة
السيناريو الأول: التفكيك الكامل للتشكيلات الموالية للنظام السابق
في هذا السيناريو، قد تنجح السلطات السورية الجديدة في تنفيذ حملات أمنية شاملة وفعّالة تستهدف التشكيلات الموالية للنظام السابق، ومن الممكن أن تبدأ هذه الحملات بجمع معلومات استخباراتية دقيقة حول مواقع هذه التشكيلات ونشاطاتها، مما يسمح بتنفيذ عمليات مداهمة منسقة ومفاجئة. قد تتضمن العمليات استخدام وحدات خاصة مدربة على مكافحة التمرّد، إضافة إلى التعاون مع المجتمعات المحلية للحصول على دعم ومعلومات إضافية.
قد تتواصل الجهود لتفكيك البنية التحتية لهذه التشكيلات، ويشمل ذلك تعطيل شبكات التمويل والإمداد، ومصادرة الأسلحة والمعدّات. ويمكن التركيز على اعتقال القادة الرئيسيين وتقديمهم للعدالة.
السيناريو الثاني: التفكيك الجزئي للتشكيلات الموالية للنظام السابق
في هذا السيناريو، قد تواجه السلطات تحديات متعددة تعوق إنجاز تحقيق تفكيك كامل لهذه التشكيلات. وقد تشمل هذه التحديات نقصًا في المعلومات الاستخباراتية، أو مقاومة شرسة من قبل بعض المجموعات، أو حتى تضاربات داخلية تؤثر في فعالية العمليات الأمنية. وقد تتمكن السلطات من تفكيك بعض التشكيلات والحد من نشاطاتها، إلا أنّ مجموعات أخرى قد تنجح في التكيف مع الضغوط الأمنية، وتلجأ إلى تغيير تكتيكاتها، مثل الانتقال إلى العمل السري أو الاندماج في المجتمعات المحلية لتجنب الكشف. وإضافة إلى ذلك، قد تستفيد هذه التشكيلات من شبكات دعم خارجية أو موارد مالية مخفية، مما يمكنها من الاستمرار في نشاطاتها رغم الجهود المبذولة للقضاء عليها.
في هذا السياق، قد تجد السلطات نفسها مضطرة إلى تكثيف جهودها الاستخباراتية وتعزيز التعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين لمواجهة التهديدات المستمرة. وقد تحتاج إلى تطوير استراتيجيات جديدة تتناسب مع تكتيكات التشكيلات المتبقية، مع التركيز على كسب دعم المجتمعات المحلية وتعزيز الثقة بينها وبين الأجهزة الأمنية.
السيناريو الثالث: استمرار التهديدات وزعزعة الاستقرار
في ظل الجهود المبذولة لتقليص النفوذ الإيراني في سورية، تواجه السلطات تحديات معقدة، من أبرزها احتمال تحول التشكيلات الموالية للنظام السابق، والتي كانت تُعرف بولائها أو تنسيقها المباشر مع إيران، إلى خلايا نائمة تستمر في شن هجمات متفرقة. هذا السيناريو قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار وتعطيل جهود إعادة الإعمار، وإلى تأجيج التوترات الطائفية، مما يزيد من تعقيد مهمة السلطات الجديدة. وقد يسفر استمرار هذه الهجمات عن انسحاب بعض الجهات الدولية الداعمة، مما يضعف القدرة على تحقيق الأهداف الأمنية والسياسية المنشودة.
الخاتمة
يمثّل سقوط نظام بشار الأسد لحظة فارقة في تاريخ سورية، حيث فتحت هذه المرحلة الجديدة المجال أمام تحديات كبيرة وأعادت فرص بناء الدولة. وأظهرت الحملات الأمنية التي أطلقتها السلطات السورية الجديدة نتائج ملموسة في تحقيق الاستقرار، من خلال تفكيك التشكيلات الموالية للنظام السابق، واعتقال مئات العناصر، منهم شخصيات بارزة ومسؤولون أمنيون سابقون، ومصادرة كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر. وأدت هذه الحملات إلى تقليص الأنشطة العدائية، واستعادة السيطرة على مناطق استراتيجية عدة، مثل حمص وأرياف حماة والساحل السوري.
إلى جانب النجاح الأمني، ساعدت العمليات في تعزيز الشعور بالأمان بين السكان، مما مهّد الطريق لعودة النازحين وإحياء النشاط الزراعي والاقتصادي في المناطق المحررة. وأثمرت جهود التسويات الأمنية عن استسلام العديد من عناصر النظام السابق، مما قلل من خطر العمليات العدائية في الوقت الحالي. ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة، حيث أظهرت بعض الاشتباكات والكمائن وجود جيوب مقاومة للتشكيلات الموالية للنظام السابق، مما يتطلب استمرارية الحملات الأمنية إلى جانب تعزيز التعاون مع المجتمعات المحلية، وتقديم حلول تنموية تعالج المظالم الاجتماعية والاقتصادية.
إن هذه النتائج تؤكد أهمية الموازنة بين الحزم الأمني والسياسات الشاملة لتعزيز المصالحة الوطنية. وصحيح أن الإدارة الجديدة أحرزت تقدّمًا واضحًا في تحقيق الأمن، إلا أنّ المستقبل السوري يعتمد على معالجة التحديات المتبقية، وضمان حقوق الإنسان، وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع. ومن خلال هذه الجهود المتكاملة، يمكن لسورية أن تتجه نحو استقرار مستدام، وتنمية شاملة تؤسس لمرحلة جديدة من الازدهار الوطني.
[1] الإفراج عن دفعة أولى من الموقوفين بعد انتهاء حملة حمص الأمنية، الشرق الأوسط، نشر في 12/1/2025، شوهد في 15/1/2025، https://shorturl.at/PfUwx
[2] شجاع العلي.. شارك في مجزرة الحولة وترأس ميليشيا عمليات الاختطاف عند الحدود السورية اللبنانية، الجزيرة، نشر في 29/12/2024، شوهد في 7/1/2025، https://shorturl.at/wXnxK
[3] سوريا: قتلى خلال حملة أمنية في ريف حمص، الشرق الأوسط، نشر في 21/1/2025، شوهد في 26/1/2025، https://shorturl.at/bWPSk
[4] منصة تأكد، نشر في 26/1/2025، شوهد في 27/1/2025، https://shorturl.at/v29nd
[5] مقتل قائد كتيبة أسود الجبل في سوريا… من هو بسام حسام الدين؟، النهار نت، نشر في 13/1/2025، شوهد في 17/1/2025، https://shorturl.at/ivMaO
[6] المعلومات المتعلقة بردود الفعل للأساليب الأمنية المتبعة ونتائج العمليات الأمنية اعتمدت على عدة مقابلات ميدانية، أجراها الباحث مع مكونات مختلفة في المجتمع يقطنون في الأحياء والمناطق التي شهدت عمليات أمنية، تم اجراء المقابلات بشكل شخصي في الداخل السوري، في 10,12, و13 كانون الثاني 2025.
[7] المعلومات المتعلقة بالآليات الأمنية المتبعة تستند إلى عدة مقابلات ميدانية أجراها الباحث مع قيادات أمنية مسؤولة عن عمليات التمشيط في حمص وريفها، وعلى اطلاع مباشر لمجريات الأحداث في عمليات التمشيط التي جرت في الساحل السوري، تم اجراء المقابلات بشكل شخصي في الداخل السوري، في 8,9,12, و13 كانون الثاني 2025
[8] الاستخبارات البشرية (يتم اختصارها مرارًا بمصطلح HUMINT وتُلفظ أحيانًا هيو-مينت) هي الاستخبارات التي يتم جمعها عن طريق وسائل اتصال بين الأشخاص
[9] استخبارات الإشارات هي عملية تهدف إلى جمع المعلومات الاستخباراتية من خلال اعتراض الإشارات المختلفة.
[10] عناصر الحزب محاصرون في سوريا واشتباكات عنيفة، جنوبية، نشر في 26/12/2024، شوهد في 23/1/2025، https://shorturl.at/jmGdV
- مركز حرمون للدراسات المعاصرة