فرانز كافكا (1883 – 1924) الكاتب التشيكي اليهودي، يُعتبر رائد الكتابة الكابوسية بالألمانية، وأحد أبرز الأدباء في فن الرواية والقصة القصيرة، وتُصنّف أعماله بأنها واقعية عجائبية، تتضمن أبطالاً يجدون أنفسهم في مواقف ومشاهد سريالية، ما يعكس اهتمامه العميق بالمواضيع النفسية مثل الاغتراب الاجتماعي والقلق والذعر والشعور بالذنب والعبثيّة. من أشهر أعماله روايات «المسخ»، «المحاكمة»، و«القلعة»، وقد أُدخل مصطلح الكافكاوية في الأدب ليُشير إلى الكتابة الحداثية المشبعة بالسوداوية والعبثية.
لفرانز كافكا مجموعة من الرسائل إلى نساء في حياته، أشهرها رسائل إلى ميلينا، بينما تقل شهرة الرسائل إلى فيليس باور لحداثة ترجمتها إلى العربية، آخرها ترجمة في جزئين لنجاح الجُبيلي، عن دار الرافدين. تكشف «رسائل إلى فيليس» أعمق خفاياه النفسية وأشد لحظاته حميمية. هذه الرسائل هي توثيق لصراعاته الداخلية التي تجسدت في العلاقة المضطربة بين رغباته وأوهامه. تمتد بين عامي 1912 و1917، وتكشف عن حالة التردد والانجذاب المتبادل، مع التناقضات التي تغذيها طبيعة كافكا المترددة والمضطربة.
في عام 1955، حصلت دار شوكان على هذه الرسائل من فيليس، بالإضافة إلى نصف رسائل كافكا إلى غريتا بلوخ، صديقة فيليس، وقد أضيفت رسائل لاحقة إلى بلوخ في وقت لاحق. خلال هذه الفترة، كان كافكا وفيليس مخطوبين مرتين، بينما كتب كافكا بعضًا من أشهر أعماله مثل «المسخ»، و«في مستعمرة العقوبات»، وأولى محاولاته في كتابة «المحاكمة» في نفس الفترة.
التقى كافكا فيليس في آب (أغسطس) 1912 في منزل صديقه ماكس برود. كانت فيليس، السكرتيرة ذات الخمسة والعشرين عامًا، مليئة بالنشاط، واقعية، ومحبّة للحياة، وهي خصال افتقدها كافكا، مما جعله يشعر بالإعجاب الفوري تجاهها. بسبب بعد المسافة بين براغ وبرلين، كانت خطوبتهما مقتصرة على المراسلات، التي كان يرسلها كافكا يوميًا، أحيانًا بضع رسائل في اليوم. إلا أن قلقه من أن الزواج قد يتعارض مع كتابته واحتياجه للعزلة بدأ يظهر بعد إعلان خطوبتهما عام 1914.
تجاوز عدد رسائل كافكا إلى فيليس الخمسمئة رسالة، وتُظهر تلك الرسائل الصراع العميق الذي عاشه، من انفصالهما الأول، إلى الخطوبة الثانية عام 1917، ووداعهما في خريف نفس العام عندما بدأت أعراض مرض السل الذي سيقضي عليه تظهر. تعكس هذه الرسائل الجهود اليائسة التي بذلها كافكا لتحقيق التوازن بين رغبته في التواصل البشري واحتياجاته الفنية. في رسالته الأولى، حذر كافكا فيليس من تقلب مزاجه، وربما لاحظت هي غموضه من أول لقاء، ليس من قوله، بل من سلوكه وسرعته في إرسال الرسائل.
كانت رسائله تتناول أحيانًا ليال بلا نوم، ومعاناة مع ساعات العمل الطويلة، وتردد في الكتابة، بينما كانت فيليس تعكس شخصيتها العملية وحيويتها التي تعزز الاستقرار، وهو ما كان يفتقده كافكا. في رسالة مؤرخة في 12 أيلول (سبتمبر) 1916، يقول: «عملك في بيت الشعب اليهودي يجعلني أشعر وكأننا نسعى معًا لتحقيق شيء حقيقي، ولو لفترة وجيزة».
من الجوانب المميزة في الرسائل الرمزية التي تتجاوز المواقف اليومية، مثل طلبه من فيليس إرسال صور، مما يعكس رغبته في خلق تواصل حقيقي لكنها تُبرز أيضًا اعتماده على الخيال. ففي رسالة يقول: «الصور ليست فقط انعكاسًا لوجهك، بل هي نافذة أطل منها على عالمك الذي لا أستطيع الوصول إليه». الزواج في نظره يمثل تحديًا وخلاصًا، مما يعكس صراعه بين الفن والواقع، ويجعل القارئ يتأمل صراعات إنسانية عالمية.
عند مقارنة «رسائل إلى فيليس» بأعمال مثل «آلام فرتر» لغوته و«رسائل إلى شاعر شاب» لريلكه، نجد أن كافكا يقدم تجربة فريدة. رسائله انعكاس صادق لحالة إنسانية معقدة. في رسالة مشهورة، يصف نفسه قائلاً: «أنا مجرد أدب، كل ذرة في جسدي تنتمي إلى الكتابة، ولا أستطيع أن أكون أي شيء آخر». هذه الرسائل لا تعبر فقط عن حب مأساوي، بل هي استكشاف للهوية الفنية والصراع الداخلي.
تُظهر الرسائل التناقض بين الطموح الفني والحياة الشخصية، حيث يكشف كافكا عن استحالة العيش بدون الكتابة، ما يجعله غير قادر على الاندماج في العلاقات التقليدية. رغم ما تتضمنه الرسائل من مواضيع حساسة مثل الصحة النفسية، والقلق الجنسي، فإنها تظل مادة غنية للنقاش في السياق الأدبي والأخلاقي، وتفتح نافذة على صراع كافكا بين الطموح والحياة.
كانت العلاقة بين كافكا وفيليس مزيجاً معقداً من الحب والخوف، تتداخل فيها رغباته في الانتماء والأمان مع التوترات العميقة التي كان يشعر بها بسبب عدم قدرته على استيعاب قوة الأنوثة المتجلية في فيليس. هذا التوتر يظل العنصر الأساسي في رسائله، حيث ينقل كافكا بمهارة الصراع بين شغفه العميق بفيليس وخوفه من أن تكون هذه العلاقة مصدرًا للدمار، ما يعكس معاناته الشخصية وتحدياته في محاولته للبحث عن السلام الداخلي في عالم مضطرب.
لم يكن كافكا يرى في فيليس مجرد امرأة عادية، بل كان يراها تجسيداً لتحدٍ يفوق قدرته على التحكم. هذه المشاعر المتضاربة تعكس صراعاته مع هويته وكينونته، كما في رسائل أخرى حيث يعبر عن خوفه من أن تؤثر العلاقة سلباً على إبداعه، قائلاً: «أنا لا أستطيع أن أكتب حين أكون معكِ، أو على الأقل أشعر أنني أضيع شيئًا في داخلي»، ما يوضح الإرباك الذي يشعر به عندما يعاني من صراع بين مشاعره الفنية ورغباته الشخصية.
وتُعتبر رسائل كافكا إلى فيليس باور من بين النصوص الأدبية التي تكشف بعمق عن صراعاته النفسية والفكرية حيث. يقول في 13نيسان (أبريل) 1913: «أنا لست بخير؛ كان بإمكاني بناء الأهرامات بالجهد الذي أحتاجه للتمسك بالحياة والعقل» ما يعبر عن صراع عميق مع الإرهاق النفسي والعاطفي. المقارنة ببناء الأهرامات تسلط الضوء على الجهد الهائل والضخم المطلوب فقط للحفاظ على الاستقرار والعقلانية. وتوحي بأن معركة كافكا النفسية من أجل البقاء والعقل تشبه في صعوبتها أحد أعظم الإنجازات البشرية، مما يبرز ثقل الاضطراب الداخلي والقدرة على التحمل اللازمتين للاستمرار
وقد كانت فيليس تمثل لكافكا رمزاً للأنوثة القوية التي تتناقض مع طبيعته المنعزلة والقلقة. من خلال رسائله، يمكن رؤية كيف كان يراها تجسيداً لما يفتقر إليه، لكنه في الوقت ذاته كان يشعر بالقلق من هذه الصفات التي قد تهدد استقراره الداخلي. في رسالة كتبها عام 1912، يعبر كافكا عن قلقه من العلاقة بينهما قائلاً: «أخشى أن تكوني سببًا في تدميري، أو أن تكوني شيئًا لم أستطع التعامل معه»، مما يبرز صراعه بين رغبته في التقرب من فيليس وخوفه من فقدان نفسه أو إبداعه على الرغم من قلقه من تأثير فيليس، فإن كافكا يعترف بتقديره العميق لجمالها الداخلي وقوتها. في رسالة أخرى، يكتب: «لقد جعلتني أدرك أنني لا أزال حيًّا، لأنني أشعر بنبض الحياة من خلالك»، ما يدل على أن فيليس كانت بالنسبة له مصدرًا للحياة، حتى وإن كانت تُشعره بالخوف من فقدان السيطرة على مشاعره وأفكاره. هذا الشعور بنبض الحياة من خلال فيليس يوضح كيف كانت الأنوثة بالنسبة له مصدر إلهام، لكنها في الوقت ذاته كانت مصدر قلق من الخروج عن حدود السيطرة.
ورغم هذه المخاوف، كان كافكا أحياناً يتشبث في فيليس في محاولته للعثور على معنى أو مخرج من معاناته. في رسالة كتبها عام 1913، يعبر عن شعوره بالحب والاعتماد عليها قائلاً: «عندما أكون معكِ، أجد نفسي أتنفس بحرية أكبر، وكأنني في مكان بعيد عن هذا العالم المظلم»، ما يعكس الأمل الذي تجلبه له والراحة التي يشعر بها في وجودها. كما وقال في رسالة أخرى «لكل منا طريقته الخاصة في الخروج من العالم السفلي، أما طريقتي فهي الكتابة. ولهذا السبب فإن الطريقة الوحيدة التي أستطيع بها الاستمرار، إن وجدت، هي الكتابة، وليس الراحة والنوم. إنني أكثر قدرة على تحقيق راحة البال من خلال الكتابة من قدرتي على الكتابة من خلال السلام».
لا تقتصر رسائل كافكا إلى فيليس على التعبير عن القلق فقط، بل تعكس أيضًا احترامه العميق للأنوثة كقوة روحية وفكرية. في رسالة مكتوبة عام 1911، يقول: «أنتِ تقودينني نحو أشياء لم أكن لأفكر فيها لولا وجودك»، ما يدل على أن كافكا كان يعترف بدور فيليس كمن يثير فيه التفكير والبحث عن المعاني العميقة. هذا الاحترام ينبع من رؤيته للأنوثة كقوة مبدعة، لكنها تُعدّ مهددة عندما تتجاوز حدود تأثيرها عليه وتؤثر في استقراره الداخلي.
وأحياناً يظهر كافكا في رسائله إلى فيليس كمن ينجذب بقوة إلى قوتها وحيويتها، وأحياناً أخرى كمن يشعر بالتهديد من هذه القوة. في إحدى رسائله، يعبر عن إعجابه بقدرتها على مواجهة الحياة بصلابة، فيقول: «أنتِ امرأة لا تتوقفين عن الحركة، وتملكين القوة التي أشعر بأنها تعجزني»، مما يعكس إعجابه بقدرتها على التحدي والتمسك بالواقع، بينما يعبر في الوقت ذاته عن شعوره بالعجز تجاه هذه القوة. هذه المشاعر المتناقضة توضح التوتر الذي كان يشعر به بين إعجابه بالمرأة وخوفه من تأثيرها السلبي عليه.
في رسائله إلى فيليس يظهر أن كافكا يعيد إنتاج هذا النموذج الأمومي بوعي وقلق متزايد. فإذا نظرنا إلى علاقة كافكا بوالدته جوليا كافكا، نجد أن هذه العلاقة كان لها تأثير كبير على رؤيته للأنوثة. كانت جوليا شخصية مسيطرة ومهيمنة، وقد ساهمت في تشكيل صورة الأنوثة التي عاشها كافكا. في رسالة كتبها صيف عام 1913، يعبر عن شعوره بالرهبة من فيليس قائلاً: «أنتِ كالأم التي تمنحني كل شيء، ولكنني أخشى أن أكون عاجزًا أمام هذه العطاءات»، مما يوضح أن فيليس كانت تجسد جوانب من الأمومة مثل القوة والعطاء، التي تتداخل مع صورة والدته في ذهنه.
أحد الجوانب التي تستحق الانتباه في رسائل كافكا هو غياب صوت فيليس المباشر. فهي موجودة فقط من خلال وصف كافكا وتفسيره، مما يعزز من الهيمنة التي يمارسها كافكا على السرد ويثير تساؤلات حول مدى تعقيد أو توسيع صورتها إذا كانت تُسمع مباشرة. هذا الغياب يعكس التوتر الذي عاشه كافكا في محاولته فهم وتحليل الأنوثة من زاويته الخاصة، من دون أن يكون لها صوت مستقل يعبر عن نفسها.
يمكن دراسة طريقة تفاعل كافكا مع القوة الأنثوية عبر المقارنة بين رسائله إلى ميلينا بالرسائل المرسلة إلى فيليس، في رسائل كافكا إلى ميلينا ييسينسكا، تتضح بعض الفروقات البارزة في طريقة تفاعله مع الأنوثة. بينما كانت فيليس مصدرًا للقلق والخوف، كانت ميلينا في نظره تجسيداً للأنوثة المثالية التي تجمع بين القوة والصفاء والقدرة على التواصل الفكري. في رسائله إليها، يعبر كافكا عن الحب والتقدير بدون الخوف المفرط من تأثيرها عليه. هذا الاختلاف يوضح كيف أن رؤية كافكا للأنوثة تتفاوت حسب سياق العلاقة، مما يعكس الصراعات والتحديات التي واجهها مع مفهوم الأنوثة في حياته.
على الرغم من رغبة كافكا باتلاف مجموعة كبيرة من إرثه، واحتفاظ فيليس بهذه الرسائل التي نشرت منها ما يخص كافكا، تُعتبر رسائل كافكا إلى فيليس مادة غنية لفهم العلاقة بين الجنسين في أوائل القرن العشرين، وللكشف عن تعقيدات التصورات الجندرية التي كان يعيشها الرجل في ذلك الوقت، كما تساهم في إبراز الصراعات الداخلية التي عاشها كافكا، وتتيح لنا فهماً أعمق للكيفية التي شكلت بها النساء في حياته رؤيتَه للوجود والعلاقة مع الذات والآخر.
- القدس العربي