تسارعت، في الأسبوع الأخير، التطورات السياسية في سوريا ومن حولها إلى درجة بات من الصعب مواكبتها والإحاطة بها وفهمها. ففي التاسع والعشرين من الشهر الجاري اجتمع قادة غالبية الفصائل العسكرية في الشمال في إطار أطلق عليه «مؤتمر النصر» صدرت عنه مجموعة من القرارات، لعل أبرزها تنصيب أحمد الشرع «رئيساً للجمهورية العربية السورية» وحل الفصائل الثورية لتندمج في جيش وطني واحد تحت مظلة وزارة الدفاع في الحكومة القائمة. القرارات الأخرى كانت من نوع تحصيل الحاصل كحل مجلس الشعب وحل جيش النظام المخلوع وجبهته الوطنية التقدمية.
لاقى توجه الشرع للمؤتمر المذكور بأول خطاب له منذ التحرير استياءً واسعاً في الرأي العام الذي سبق وكان يطالبه بإلحاح بخطاب يوجهه إلى الشعب يبين فيه توجهات السلطة التي يقودها ورؤيتها لمستقبل سوريا وتفاصيل العملية السياسية التي يمكن أن تقترحها للوصول إلى ذلك المستقبل. فلم يتأخر الرجل في الاستجابة لهذا المطلب، فألقى خطابه الثاني الذي وجهه إلى «كل السوريين والسوريات» وأكد فيه أن النصر تحقق بتراكم كل نضالات السوريين والسوريات منذ أول هتاف في المظاهرات السلمية ضد النظام المخلوع، وكل تضحياتهم وتضحياتهن، وبفضل كل الشهداء منذ حمزة الخطيب… في هذا الخطاب المقتضب بدوره حدد أولويات المرحلة الانتقالية التي بات يقودها بحكم منصبه الرئاسي، في السلم الأهلي ومحاسبة المجرمين بحق الشعب السوري، وتوحيد كل الأراضي السورية تحت سلطة الدولة، وتشكيل حكومة يتمثل فيها الجميع، وإنشاء هيئة تشريعية «مصغرة» ولجنة تحضيرية لمؤتمر «الحوار الوطني» الذي من المفترض أن ينتج عنه «إعلان دستوري»…
واستقبل الشرع في اليوم التالي لتنصيبه رئيساً للجمهورية أمير دولة قطر في دمشق، كأول رئيس دولة يزور سوريا الجديدة، ليقوم بعد ذلك بيومين بزيارتين إلى الرياض وأنقرة على التوالي.
بصورة متزامنة مع زيارته لتركيا تم تفجير سيارة مفخخة في مدينة منبج (في الشمال الغربي) في مجزرة بشعة تجاوز عدد ضحاياها عشر نساء إضافة إلى جرحى يفوقونهن عدداً. اتجهت أصابع الاتهام «بصورة بديهية» إلى «قسد» التي فقدت السيطرة على هذه المدينة منذ السادس من كانون الأول 2024، وذلك على رغم نفي «قسد» لهذا الاتهام. فقد تتابعت تفجيرات مماثلة في مدينة منبج منذ أواخر العام الماضي بعد سيطرة فصائل من «الجيش الوطني» التابع لتركيا على المدينة. بالتدقيق في تلك العمليات نرى أن المعلومات تشير إلى مجموعة غامضة تطلق على نفسها اسم «قوات تحرير عفرين» أو «غرفة عمليات غضب الزيتون» هي التي تتبنى تلك العمليات الإرهابية، في حين تنفي قيادة قسد أي علاقة لها بالمجموعتين. الشخص الوحيد الذي ثبتت علاقته بهما كردي تركي يحتمل أنه يتبع مباشرةً لقيادة حزب العمال الكردستاني التي تتخذ من جبل قنديل مقراً لها.
ثمة نوع من التقاطع بين بعض الضغوط الخارجية على السلطة في دمشق وضغوط قسم وازن من الرأي العام السوري بشأن وجوب احتضان السلطة الجديدة للتنوع الاجتماعي
وقال أحمد الشرع في إحدى مقابلاته الإعلامية التي تم بثها بعد تنصيبه رئيساً لسوريا، إن المفاوضات مع قسد مستمرة، وتم التوافق على الأمور الأساسية وبقيت تفاصيل في طريقها إلى الحل، وامتنع عن إعطاء تفاصيل لإعطاء الفرصة للمتفاوضين للتوصل إلى حل مرضٍ للطرفين. ما دام الأمر كذلك من الغريب أن تلجأ قسد إلى عمليات إرهابية تزيد ضغط الرأي العام لحسم وضع قسد حرباً. المعقول أكثر أن تلجأ جهات لا تريد لهذه المفاوضات أن تصل إلى نتيجة إلى أعمال إرهابية للتخريب عليها. وأول ما يخطر في البال هو قيادة قنديل أو أحد جناحيه المشتبه بعلاقته مع إيران، من غير أن يلغي هذا احتمالات أخرى لجهات لا تريد لسلطة دمشق أن تستقر ولسوريا أن تتعافى، أو تسعى للضغط على الشرع أثناء وجوده في أنقرة لكي يتفق مع القيادة التركية في شن حرب مشتركة على قسد.
من جهة أخرى ثمة نوع من التقاطع بين بعض الضغوط الخارجية على السلطة في دمشق وضغوط قسم وازن من الرأي العام السوري بشأن وجوب احتضان السلطة الجديدة للتنوع الاجتماعي في سوريا، أو ما يسمى أحياناً بإقامة سلطة «شاملة لكل المكونات» هذا ما يسمعه الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني من كل الوفود الأجنبية التي تزور دمشق ومن قادة كل الدول التي يزورانها، في الوقت نفسه الذي يضغط فيه الرأي العام المحلي في الاتجاه نفسه وإن كان الأخير أكثر تطلباً من مجرد «تمثيل المكونات».
سواء في تصريحاته الإعلامية أو خطابيه، نلاحظ حرص الشرع على التجاوب مع هذه المطالب والضغوط، كما لاستثمار البيئة السياسية الإيجابية عموماً مع التغيير الذي حصل في سوريا في اتجاه تأمين شيء من الاستقرار للوضع الهش لسلطته كما لسوريا عموماً، من خلال تفادي الصدام مع أي جهة والحصول على أكثر ما يمكن من الدعم الشعبي والدولي معاً للمضي في العملية السياسية. ونلاحظ تجاوباً سريعاً مع كثير من الانتقادات والمطالب الشعبية. فلم تغب عن الملاحظة مخاطبته «السوريين والسوريات» ولا ذكره لعبارة «الجمهورية السورية» ثلاث مرات في كلمته المقتضبة جداً أثناء المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس التركي، ولا إقراره بـ«مفهوم معين» للديمقراطية في جوابه على سؤال من صحافيي «إيكونوميست» البريطانية، ولا حديثه الصريح عن كل من النظام الجمهوري و«المواطنة» في مقابلة أخرى. مع العلم أن هذه الإشارات من شأنها إثارة استياء بيئات معينة أبرزها تحالف الفصائل الثورية المسلحة التي لا تقبل بمفاهيم من هذا النوع.
يدرك الشرع، ولا بد، أنه يمشي على حبل مشدود يصعب مواصلة السير فوقه، معرّضاً لكل المخاطر. بتنصيبه رئيساً للجمهورية تزيد لديه إمكانية الاستقواء بالشعب على الفصائل، في حين أن تفويضه من الفصائل يمنح الأخيرة نوعاً من الوصاية عليه التي لا نعرف مدى ثقلها ومدى قدرته على التحرر منها ومن ثقل إيديولوجيتها. وخارجياً يمكن القول إنه حصل على «فترة سماح» من قوى إقليمية وازنة ومن المجتمع الدولي محكومة بما سيفعله في الأسابيع والأشهر القادمة. وسيبقى تعليق العقوبات الغربية على سوريا مؤقتاً إلى أن يتمكن من إقناع تلك القوى بأنه ماض في الطريق الصحيح.
كاتب سوري
- القدس العربي