إعادة إنتاج الأمل – أي تشكيلات مدنية تنشط في الساحل السوري اليوم؟

رهام عيسى

أُنتِجَ هذا المقال في إطار زمالة بداية المسار للصحفيات السوريات.

* * * * *

تترددُ مقولاتٌ مثل «خصوصية الساحل» عند الحديث عن الساحل السوري وتغطية شؤونه، في إحالة إلى الارتباط الطائفي مع النظام السابق، والذي يحضر كعنوان أبرز لهذه الخصوصية على الرغم من وجود عوامل موضوعية أخرى. ساهمَ هذا الارتباط، الذي يحضر على المستوى الشعبي وبين أفراد السلطة الجديدة، في خلق حالة عامة يشوبها التوتر ممتزجاً بمشاعر الذنب والترقُّب لما سوف يأتي في المرحلة الجديدة. من هنا تبرز أهمية العمل المدني، ودوره التنظيمي وتأثيره على الخطاب والحياة الاجتماعية لسكان المنطقة، ومساهمته الممكنة في إبعادها عن خيار التكتّل الطائفي سعياً للأمان.

يسعى هذا التقرير إلى تسليط الضوء على عمل بعض التجمّعات وكيانات العمل المدني التي ظهرت، أو عادت لتنشط، بعد سقوط النظام في الساحل السوري، وعلى أبرز التحديات التي تواجه عملها ورؤيتها للمرحلة القادمة.

تركة ثقيلة

تشهد البلاد اليوم تحوّلات جذرية، إضافة إلى ظروف معيشية صعبة وعدم استقرار أمني في بعض المناطق، ما يسبّبُ حالة عامة من القلق، ولكن مع تعقيد المشهد السوري قد لا يبدو مفاجئاً أن يترافق هذا القلق مع كثير من الأمل بمستقبل أفضل. ربما يكون ذلك هو ما شجَّعَ كثيراً من المثقفين والناشطين على محاولة توجيه هذا القلق وتأطيره ضمن تيارات وأحزاب وتجمعات مدنية سياسية وغير سياسية، تحاول فرض نفسها اليوم في الساحة السورية على أمل أن تُشكِّلَ عنصراً ضاغطاً على أي محاولات للتفرد بالسلطة أو البدء بالتأسيس لنظام استبدادي جديد.

استهدفَ النظام السابق أي شكل من أشكال العمل الجماعي المُنظَّم، كونه قد يشكل نواةً لتجمعات وحراكات مقاوِمة وساعية للتغير، ولذلك عملَ بشكل ممنهج على تقويض العمل المؤسساتي، وعلى تدمير كل جسم سياسي محتمل، مُفقِداً المجتمع القدرة على التواصل والعمل إلّا ضمنَ وصايته وتحت إشرافه وبما يخدم خططه ويحقق أهدافه. وقد ظهرت نتائج هذه السياسة مباشرة بعد السقوط، وما تبعه من فراغ سياسي ومؤسساتي اجتماعي، ما أوجبَ على الراغبين بالانخراط في أنشطة مدنية منظمة البدء تقريباً من تحت الصفر، أي من مرحلة إعادة إنتاج الأمل، بعد أن أدت سنوات الإقصاء والحرب والاعتقال والقمع الطويلة للإحباط والإحساس بعدم الجدوى.

مازن مصطفى، أمين المكتب السياسي في التيار المدني السوري، يعلّق على هذه النقطة: «يمكننا الحديث عن عشرات بل مئات الارتكابات التي قام بها النظام السابق، ولكن أعتقدُ أن الجُرم الأكبر كان اختيار رأس ذلك النظام لهذه الطريقة التي سلَّمَ بها السلطة، حيث تركَ البلاد في حالة من الفراغ السياسي المتعمد عبر تسليم السلطة بشكل فوضوي لكيانات غير مؤهلة لإدارة الدولة، وغير مستعدة لذلك، ما أدى إلى تفاقم الانقسامات والخوف من المجهول ونشر الذعر والفوضى وحالات الانتقام العشوائية».

لكن على الرغم من كل تلك التخوفات، هناك حماس ملحوظ في الشارع السوري اليوم لإعادة تنظيم نفسه. ولا ينفصل المشهد في الساحل عن المشهد السوري العام، فالعديد من التيارات الشعبية والسياسية والفكرية بدأت بتشكيل نفسها والإعلان عن برامجها.

في هذا السّياق نجدُ أنّه من المهم تمييز شكل عمل هذه التيارات والتجمّعات عن الأحزاب، كونها تمثل تجمّعاً جماهيرياً حول مطالب وأهداف محددة، ولا تهدف إلى تمثيلٍ في السلطة أو الوصول إليها أو المشاركة فيها بالضرورة، بل تسعى لممارسة دور الرقيب عليها والضغط على ممثليها.

تَجمُّع سوريا الديمقراطية هو أحد التجمّعات السياسية التي تشكلت بعد سقوط النظام في سوريا، وقد عّرفه الصحفي كمال شاهين أحد أعضائه المُؤسِّسين بأنه: «تجمع سياسي نشأ في مدينة اللاذقية بعد أسبوع على سقوط النظام السابق». يعتبر التجمع أنّ سوريا بسقوط نظام الأسد دخلت مرحلة جديدة تتطلب تضافر جهود جميع أبنائها لإعادة بناء مستقبل آمن للشعب السوري، بعد الآثار السلبية التي خلفها النظام. في هذا السياق، اجتمع ناشطون وشخصيات وطنية في اللاذقية لتأسيس هذا  التجمّع.

لخّصَ شاهين أهداف التجمّع في حماية السلم الأهلي والأمن العام، والسعي لعقد مؤتمر شامل للحوار الوطني وإطلاق عملية الانتقال الديمقراطي، وإنهاء الاحتلالات والتدخلات الخارجية لضمان وحدة البلاد، والدفع لتطبيق القرار الأممي 2254 وتوحيد الجهود لمكافحة الاستبداد وضمان الحريات وحقوق الإنسان، والدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية بالتنسيق مع نقاباتها، ومناهضة التمييز بين الجنسين وتعزيز الثقافة السورية. التجمُّع مفتوح لجميع السوريين بمختلف مهنهم ومذاهبهم، ويسعى لبناء كتلة وطنية ديمقراطية.

ليس بعيداً عن هذه الرؤية، يتحدث أمين المكتب السياسي في التيار المدني السوري، مازن مصطفى، في شهادته للجمهورية.نت عن هذا التيار الذي بدأ عمله منذ عام 2012 ويضمُّ ما يقارب 30 ألف عضو حتى الآن. يسعى التيار على حد تعبيره إلى بناء دولة علمانية ديمقراطية قائمة على الحرية والمواطنة المتساوية والعدالة والمساواة، مع التركيز على استقلال القضاء، فصل السلطات، وضمان حقوق الإنسان. ويرى أنّ أي حراك يُعنى بالتغيير له أبعاد سياسية، والابتعاد عن السياسة قد يضعف الحراك ويفقده زخمه ويقلل من تأثيره. لذلك، يتمسّك التيار المدني السوري بدوره كفاعل سياسي ومدني يسعى لتحقيق تغيير شامل مبني على أسس وطنية وديمقراطية.

في مدينة صافيتا أيضاً تم الإعلان عن تشكل التيار المدني في صافيتا، وهو حركة شعبية لا صفة سياسية لها. يدعو التيار إلى قيام الدولة المدنية في سوريا، والتي تضمن المساواة الكاملة للمواطنين أمام القانون، وحرية التعبير والتعددية السياسية، وفصل السلطات الثلاث، وتداول السلطة. يعتمد التيار في عمله على التواصل والحوار مع المواطنين، بهدف تعريفهم على حقوقهم، ودفعهم للمطالبة بها، ضمن إطار جماعي منظم، إضافة إلى أهمية التفكير بوجودهم والتعبير عن أفكارهم دون خوف. يرى التيار أن الانتقال من حياة الظلم والعبودية لن يتم إلّا بوجود الرؤيا الواضحة والعزيمة الصادقة المبنية على أساس علمي أخلاقي حقيقي.

سؤال التثقيف السياسي

الإهمال الذي يسيطر على مناطق الساحل وعلى جميع الأصعدة جليٌّ للعيان، أسست حالة التفقير هذه لحصر هموم أهل المنطقة في تحصيل لقمة العيش، وتغييبهم عن حقوقهم الأساسية بشكل كامل.

لم يكن في عهد النظام البائد توازٍ في العلاقة بين التعليم والثقافة، وعلى وجه الخصوص ثقافة المواطنة، مقابل خطابٍ حكومي يُذكّر مواطنيه على الدوام بأفضال الدولة في تأمين الحد الأدنى من مقوّمات الحياة، في أوضح نموذج للآليات التي يذكرها كتاب مصطفى حجازي الشهير: التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور.

هذا السياق يطرح تساؤلاً عن كيفية تعاطي هذه التيارات مع هذا الواقع في الساحل، وحول وجود خطةٍ واضحة من قبل التيارات المدنية لنشاط تثقيفي يخصّ المواطنة والحقوق والواجبات والحريات العامة وما إلى ذلك، منعاً لتكرار الرضوخ الناجم عن التجهيل، وخاصةً مع انتشار عبارة: «بس بدنا الأمان»، وتَحوُّلها لخطاب شبه جماعي في الساحل.

بالنسبة لكمال شاهين: «لم يكن الساحل السوري منعزلاً عن السياق السوري ككل في علاقته مع النظام البائد. تفريغ الفضاء العام السوري من الشأن السياسي عملية مستمرة عمل عليها النظام طيلة سنوات حكمه على كامل الجغرافيا السورية. ومثلما انتفضت الجغرافيا السورية على النظام السابق فإنّ الساحل قد فعل. لقد ظهرت أوّل أشكال المعارضة السياسية لنظام الأسد الأب من الساحل وقد قمعها بشدة كبيرة، وملأ سجونه بمئات المناضلين من هذه المناطق، وعمل بدأب على ملاحقة ومضايقة عوائلهم. ومثله فعل نظام الأسد الابن حتى ساعة سقوطه».

وتابع: «تتطلب المرحلة الحالية والقادمة عملاً على تقريب السياسة والعمل العام من الناس، عبر مساهمتهم هُم في خلق النقاش حول مختلف المسائل التي يعتقدون بضرورتها الراهنة والمستقبلية، ليكون دور التجمُّع هنا إعادة السياسة إلى الفضاء العام بكامل حريتها وحضورها المعرفي والثقافي. في الأساس فإن الثقافة أداة فعّالة في بناء الوعي الجمعي وتعزيز الهوية الوطنية. وهي أيضاً وسيلة لتبادل الأفكار والقيم والمفاهيم التي تُشكِّل المجتمع. لذا، فإن إعادة السياسة إلى الفضاء العام تتطلب أيضاً إعادة الثقافة إلى مركز النقاش العام، بحيث يتمكن الناس من التعبير عن آرائهم ومخاوفهم وطموحاتهم».

وعقَّبَ مازن مصطفى على هذا السؤال بقوله: «لا يمكن إنصاف الساحل السوري عبر اختزاله في صورة نمطية تُوصَف بالجهل أو التخلف، إذ أن هذه المنطقة كانت وما تزال حاضنة لنخب فكرية ومثقفة ساهمت بإنجازات ثقافية وفكرية رغم التهميش الممنهج. لقد استخدم النظام السابق سياسات اقتصادية واجتماعية لتكريس الفقر والتهميش، ما جعل العلم والثقافة ملاذاً رئيسياً لأبناء المنطقة للهروب من براثن الإفقار، ومع ذلك، فإن الاستبداد والديكتاتورية كبّلت قدراتهم وأبقتهم في دائرة الصمت».

أشار محمد علي النجار في بحث بعنوان منظمات المجتمع المدني السوري: الجذور والواقع والمستقبل إلى الدور الأعظم للإشكالية الفكرية الناجمة عن ممارسات النظام السابق، والتي تسبق في أثرها دور الإشكالية السياسية. بالتالي سيكون الحديث عن أي نهضة سياسية حقيقية ناقصاً ما لم يتم العمل بدايةً على إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية والفكرية، والتي تمنع حقيقة تشكل مؤسسات مدنية فاعلة تكون صلة وصل بين الشعب وممثليه من السياسيين بالشكل الذي يجدي نفعاً.

وأكَّدَ غدير غانم، عضو مجلس إدارة في مبادرة الحوار المدني في طرطوس، أن هناك محاولات حثيثة خلال الفترة القريبة للعمل على رفع الوعي والمعرفة وتطوير القدرات بشكل رئيسي للناشطين ثم المواطنين، وذلك «بهدف مساعدة المجتمع ككل لمشاركة في الحياة العامة، خاصةً وأننا أمام استحقاقات قادمة. هذا ما يجعلنا بحاجة ماسة للوعي ومساعدة من يمتلك المهارات المناسبة للوصول لأماكن صناعة القرار، وهذا العمل لا يخصّنا وحدنا بل نحن على تواصل دائم مع منظمات المجتمع المدني في سوريا بشكل عام، وحتى المنظمات خارج البلاد، بهدف توحيد الجهود لزيادة الوعي والإدراك لأهمية المشاركة في الاستحقاقات».

يشرحُ لنا مازن مصطفى عن آلية عمل التيار المدني السوري بما يتعلق بهذا الموضوع: «يسعى التيار إلى تبني برامج تعليمية شاملة، ويقوم بعقد ندوات فكرية بالتعاون مع أبناء الساحل السوري والنخب في مختلف المحافظات، بهدف تعزيز الوعي الحقوقي وترسيخ مفاهيم العلمانية والمواطنة المتساوية كوسيلة لحماية المجتمع من التهميش وضمان استقراره».

من الممكن أن يقودنا هذا النقاش إلى نقطة تفكير حول مستقبل أي أحزاب سياسية ناشئة، وإلى أي مدى سيكون تأثيرها حقيقياً وناجحاً على أرض الواقع في ظل غياب عمل المؤسسات الاجتماعية القادرة وحدها على تعبئة الشعب وتوجيهه بالشكل الذي يجعله رقيباً على أي سلطة سياسية لا ممتناً وشاكراً لمجرد وجودها. ويصبّ هذا التوجه مباشرة في أهمية العمل على إعادة تمتين الروابط بين أفراد المجتمع، ونشاط أفراده ضمن منظمات ومؤسسات فكرية واجتماعية قبل الحديث عن بناء على أساس سياسي وعسكري وحزبي. وهنا يبرز تساؤل عن مدى عمل التيارات على توحيد قواها والتنسيق في بينها.

أجاب مازن مصطفى عن هذا التساؤل قائلاً: «بحكم عملنا منذ عام 2012، تربطنا علاقات وثيقة مع مختلف الأحزاب والتيارات السياسية في دمشق وباقي المحافظات، والتنسيقُ ليس وليدَ سقوط النظام، لكنه أصبح أكثر إلحاحاً بسقوطه كضرورة استراتيجية لمواجهة تحديات المرحلة الانتقالية».

من الشعب وإلى الشعب

يلعب العمل الجماعي المُنظَّم دوراً ضامناً حتى في حالة الفراغ السياسي، لكنّ هذا لا ينفي أن تحقيق شروط هذا العمل على أرض الواقع من أبرز التحديات التي تواجه أي حركة بدأت اليوم تشكل نفسها، فالقاعدة الشعبية المتينة والمنضبطة ضمن المؤسسات هي أداة التغيير السياسي الأساسية.

عن ذلك يقول مازن مصطفى: «إن التغيير السياسي الحقيقي لا يتحقق إلا بوجود قاعدة شعبية واسعة وقوية، حيث تقوم الديمقراطية على مبدأ ’الشعب مصدر السلطات‘. ويرى التيارُ أن الانسجام الوطني القائم على رؤية سياسية شاملة ومُعلَنة هو المفتاح لبناء دولة ديمقراطية مستقرة، بعيداً عن الطروحات الطائفية أو المناطقية، فنحن اليوم أمام منعطفات مصيرية في مستقبل سوريا ولا يمكن ترك الأمور لمن يريدها طيفاً واحداً بدعوى (ضرورة الانسجام)!»

حتى الآن، أي بعد حوالي الشهرين على سقوط النظام، نجد أن الكثير من التيارات الراغبة بالإعلان عن نفسها تعيشُ حالة من الانتقال من اجتماع إلى اجتماع دون الوصول إلى نتائج أبعد من هذه الاجتماعات، عن ذلك يرى غدير غانم أنّ «القيود والمساحات الضيقة للعمل من أسباب الفشل، لكن يبقى ضعف التجربة هو السبب الرئيسي لهذا الفشل. إضافة للخطاب النخبوي الذي تقوده النخب، والذي أعتقدُ أنه خطاب منفصل عن الجمهور».

يتابع: «ربما، هو خطاب جيد لكن هناك ضعفاً كبيراً في الأدوات التي تُمكِّن هذه النخب من التواصل مع الجمهور الذي يميل للخطاب الشعبوي، وهذا حقيقة هي ما أدركته العديد من الجهات وعن طريقه تمكنت من استقطاب أكبر للجماهير. ولعلّ سمة الاستفراد والرغبة بفرض وجهات نظرها وعملها، يجعل هذه التيارات تنتهي عند الخطاب أو البيان الأول ثم تقف عاجزة عن فعل شيء».

هنا لا بدّ من التساؤل عن أهمية إجراء دراسات ومُراجعات لأسباب الفشل لتجنب الوقوع بها، وفي هذا السياق تحدَّثَ مازن عن تجربتهم في التيار المدني السوري: «أجرى التيار المدني السوري منذ تأسيسه عام 2012 مراجعات دورية لدراسة أسباب تعثُّر الحركات المدنية السابقة، من خلال المؤسسة السورية للدراسات والتنمية (التابعة للتيار) والتي تم حظر عملها بسبب نشاطها السياسي عام 2018 (بعد قيام المؤسسة بتبني حراك ضد قيام الرئيس السابق بـ 62 مخالفة دستورية في إصداره للمرسوم التشريعي رقم 16 الخاص بتنظيم عمل وزارة الأوقاف، وأدى ذلك الحراك لإلغاء المرسوم حينها). وأبرزُ العوامل التي أدت إلى فشل تحركات المجتمع المدني عموماً هي: غياب الموارد المالية، التضييق الأمني والملاحقات السياسية، نزعة الزعامة الفردية وضعف الهياكل التنظيمية، وبالتأكيد الحظر المفروض على النشاط السياسي المدني. اليوم، يتمتع التيار المدني السوري بهيكلية تنظيمية محوكمة، وكوادر نخبوية مؤهلة، ما مَكَّنه من بناء قاعدة جماهيرية مُتنامية قادرة على مواجهة تحديات العمل المدني والسياسي في بيئة مضطربة».

ويرى كمال شاهين أنّ «الحديث عن المشاركة في عملية التغيير السياسي يتطلب وجود قاعدة جماهيرية فاعلة قادرة على التأثير وإحداث التغيير. هذه القاعدة ليست مجرد تجمع عشوائي، بل يجب أن تكون مبنية على أسس قوية من الوعي والانتماء والمشاركة الفعالة. تقتضي هذه العملية طويلة المدى التفكير في عدد كبير من النقاط الضرورية للعمل. نختصر هنا ثلاثاً منها تتمثل في: بناء تحالفات مع الأحزاب والتيارات السياسية التي بدأت تتشكل في سوريا، بما يشمل تبادل الخبرات والموارد، وتنظيم فعاليات مشتركة لزيادة الوعي وتعزيز المشاركة، وهو ما قام به التجمُّع في أول نشاط جماهيري له في اللاذقية عبر ندوة حوارية مع ’حركة معاً لأجل سوريا جديدة‘ تناولت موضوع السلم الأهلي والانتقال الديمقراطي، وحضرها قرابة مئتي مشارك ومشاركة. تتمثل النقطة الثانية في دعم الشباب والنساء، ويبذل التجمُّعُ جهداً لاستقطاب الشباب والنساء للمشاركة في العملية السياسية، من خلال حضورهم في قلب التجمع ودعمهم في تشكيل قيادات جديدة. والنقطة الثالثة هي تطوير استراتيجيات فعّالة للتواصل مع القاعدة الجماهيرية، سواء عبر الفعاليات المباشرة أو من خلال الحملات الإعلامية التي تركز على قضايا تهم المجتمع وتعكس همومه وقضاياه الحالية وعلى رأسها القضايا المعيشية والأمنية».

الطائفية في مواجهة الفراغ

في ظل الغياب شبه التام للمؤسسات الاجتماعية، وفقدان صلة الوصل بين القيادة السياسية وبين عموم الناس، شهدت منطقة الساحل تعويماً للروابط الطائفية بمجرد سقوط النظام، وتكتل جزء من الناس خلف المشايخ وبياناتهم التي أثارت جدلاً واسعاً وكانت ملأى بالتناقضات.

وقد أشار كمال شاهين إلى ذلك مؤكداً أن حالة الفراغ السياسي، التي فرضها النظام السابق، ساهمت بشكل كبير في تعويم الروابط الطائفية كأداة لتجميع الناس. فعندما يغيب الفضاء السياسي الفعّال والمُستدام، تلجأ المجتمعات إلى الروابط الطائفية أو القَبَلية كوسيلة للتعبير عن الهوية والانتماء، ما يُعزّز الانقسامات ويعيق بناء مجتمع متماسك.

وعن سؤالنا عن الحلول المقترحة من قبل تجمع سورية الديمقراطية، أشار إلى أهمية اتخاذ عدة خطوات، لتقليص هذه الروابط الطائفية وتعزيز الانتماء إلى تيارات وأحزاب سياسية تطالب بحقوقها، والعمل على تعزيز التعليم والتوعية وتشجيع التفكير النقدي، وعلى خلق فضاءات حوارية ودعم الأحزاب السياسية كبديل للروابط الطائفية، وتحفيز المشاركة المدنية في الحياة العامة ومحاربة خطاب الكراهية بمساعدة الفاعلين والفاعلات في المجتمع المدني والإعلام.

في السياق ذاته، يُشدِّدُ مازن مصطفى على أهمية العمل المدني كبديل مُستدام للتكتلات الطائفية، مؤكداً أن الهوية الوطنية الجامعة وعلمانية الدولة هي السبيل الوحيد لضمان استقرار سوريا بعيداً عن الاصطفافات الطائفية الضيقة.

وبحسب تعبيره: «أظهر المجتمع السوري وعياً جمعياً بارزاً في التصدي لمحاولات تأجيج الطائفية، ويتجلى ذلك في استضافته المتبادلة بين مكوناته المختلفة خلال الأزمات، وهنا لا بد من الإشادة بهذا الوعي الجمعي لدى المجتمع السوري بغالبيته، والذي يدير نفسه بنفسه حتى الآن إذا صح التعبير. أما عن تعزيز الروابط الطائفية، فهذا يحدث عند البعض من الجهلة والمنتفعين منه فقط، فلماذا نريد اليوم تكريس فكر أولئك وننسف فكرة أن الغالبية من كل مكونات الشعب السوري تنأى بنفسها عن تلك التوصيفات والاصطفافات، وهذا يتوضح لكم من تزايد عدد التيارات المدنية الناشئة مؤخراً على أقل تقدير. هنا لا بد من الإشارة إلى أن تشكيل الأحزاب والتيارات المدنية ليست بديلاً عن مخاطر التكتلات الطائفية، بل هي حالة تنظيمية تمنع وقوع البلاد في فراغ سياسي، لأن العمل المدني حالة سياسية تعددية وتنظيمية دائمة بينما التكتل الطائفي ردُّ فعل نفسي مؤقت لا جدوى منه».

يعتقد غدير مصطفى أنّ النظام ليس وحده السبب وراء حلول الطائفة بديلاً عن الأحزاب والمؤسسات، فـ«المجتمع لا يملك هوية وطنية جامعة، ومشكلة الهوية هذه مشكلة عابرة لكل الأنظمة التي حكمت سوريا». وعلى عكس الشائع، يرى أن النظام في مكانٍ ما ليس متسبباً في تجذُّر هذه الطائفية بقدر ما سعى لإنهاء هذا الانفصال، «عن طريق تجميع الأقليات ضمن إطار إسلامي سنّي، وهذا التجميع هو شعار كل ديكتاتور، فالتشتت يُقلق الدكتاتور، لكنه بالطبع فشل في هدفهو إذ بسبب ترهل كل المؤسسات التي يملكها لم يستطع بناء هوية جامعة للسوريين».

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن المواطنين يبحثون الآن عن الشعور بالأمان، وهذا ما يجعلهم يصطفون خلف أي تجمُّع يحاول الدفاع عنهم أو المطالبة بحقوقهم، حتى لو كان خطابه طائفياً، وخاصة بعد توثيق الكثير من حالات القتل والتصفية والتسريحات التعسفية والخطابات المحرضة المليئة بالعبارات الطائفية، فهل هناك توجه من قبل التيارات المدنية لاستيعاب خوف الناس والسعي للمطالبة بحقوقها؟

علَّقَ مازن مصطفى على هذا التساؤل: «تشكل الانتهاكات والتسريحات التعسفية والاعتقالات العشوائية (بعد إصدار ما سمي بالعفو العام) أحد التحديات الكبرى التي يواجهها المجتمع السوري، وإن استمرار استخدام مصطلحات مثل ’حالات فردية‘ و’قانون الثورة‘ لتبرير هذه التجاوزات يُهدد بتفكيك المجتمع السوري ويؤدي إلى نتائج كارثية. يتبنى التيار المدني السوري آلية توثيق دقيقة وموضوعية للانتهاكات، بما فيها قضايا التسريح التعسفي (والتي نعتبرها انتهاكاً أيضاً)، كما ندعم الحراك الشعبي السلمي الهادف إلى إلغاء القرارات غير القانونية، وإطلاق سراح المعتقلين. ويرى التيار أن مواجهة هذه الممارسات لا يمكن أن تتم دون وجود قضاء مستقل وفعّال، قادر على إنصاف الضحايا وإرساء دولة القانون بدلاً من سلطة الأمر الواقع التي تُدار بعقلية الفصائل حتى الآن (وهذا أكبر انتهاك بحق سوريا والسوريين دون استثناء)».

وقال كمال شاهين: «شمل التسريح التعسفي غالبية المحافظات السورية وليس الساحل فقط. أما الانتهاكات التي تقول السلطة الجديدة (سلطة الأمر الواقع) إنها فردية، فإنها بحاجة لجهاز متكامل للقيام بتوثيقها يتضمن محامين وناشطين وعاملين في مجال التوثيق، وغير ذلك من أدوات بصرية وقانونية وهي مهمة ليست سهلة أبداً. لا يمكن إغفال وجود الانتهاكات كما لا يمكن إغفال عمل السلطة الجديدة على محاولة متابعتها بسرعة في غالب الأحيان. إنّ بنية حكومة الأمر الواقع التي تحتوي عشرات الفصائل، التي كانت إلى وقت قريب متنازعة فيما بينها، تجعل من الفصل بين الحالات الفردية والانتهاكات عملية حقوقية وسياسية، وفي الوقت الراهن فإن التجمُّع لا يمتلك هذه الأدوات، مع الإشارة إلى أن بيانات التجمع التي صدرت حتى الآن تتابع ما يجري في المحافظات السورية كافةً، وقد رفض التجمُّع التسريح التعسفي ودعا إلى وقفات تضامنية مع المفصولين عن غير وجه حق». وعن رؤية معينة للحلول، أجاب بأن الحل يجب أن يكون لكل سوريا ضمن جغرافياتها كلّها وليس لمنطقة واحدة، ويقع هنا موضوع السلم الأهلي والانتقال الديمقراطي على رأس القائمة.

التحديات الاقتصادية والمعيشية

الظرف المعيشي الشاق، في الساحل وفي غيره، يحتل مكانة بارزة في أي نقاشات سياسية تدور الآن. وإضافة إلى الفقر هناك تردٍ شديد في الواقع الخدمي، يفرض على أي مبادراتٍ وأنشطة أن تأخذه بعين الاعتبار.

عانت قرى الساحل السوري من استراتيجيات تفقير ممنهجة بحسب مازن مصطفى، «شملت التضييق على المزارعين، منع الاستثمارات، الإهمال التنموي، وضعف الخدمات، والترويج لهيمنة وإجرام آل الأسد كأداة للقمع والتخويف. أسهمت هذه السياسات في تعزيز الفجوة بين مكونات المجتمع السوري وخلق صورة مشوهة عن أبناء الساحل، وهذا ما ندفع ثمنه الآن بغير ذنب، ونعمل على تغيير هذه الصورة النمطية المغايرة كلياً للواقع».

وأضاف: «يسعى التيار المدني السوري إلى تفعيل مشروعات اقتصادية صغيرة ومتوسطة كمحرك للنمو الاقتصادي في المناطق المُهمَّشة، ولكن هذا مرهونٌ بالاستقرار الأمني، لذلك نؤكد على ضرورة استتباب الأمن وبسط سيادة القانون كأساس لخلق بيئة استثمار جيدة تُفضي إلى تحسين الوضع المعيشي».

يتفق غدير غانم مع هذا الرأي: «عمل النظام على إفقار الساحل من خلال قتل كل مصادر التنمية باستثناء الوظائف والحالة العسكرية. لا مشاريع ضخمة لا استثمارات، وهذا ما ساهم في انعدام موارد الدخل ما اضطر كثيرين للالتحاق بالخدمة العسكرية. ولا بدَّ من الإشارة إلى الحملة الممنهجة التي كان يتبعها النظام في بداية الأزمة، والتي كانت تهدف لتخوين الشباب ممّن يتقاعسون عن الالتحاق بالجيش ويبحثون عن فرصة للسفر، جاعلاً منهم وقوداً لحربه».

تبرز هنا تخوفات كثيرة من العودة للعزف على وتر الفقر من قبل السلطة الحالية، واستغلال حاجات المواطنين الأساسية لتحييد أي عمل خارج العمل الخدمي، حتى أننا لاحظنا حملات حقيقية تهدف لتسخيف المطالب بقيام الدولة المدنية والعدالة والمساواة والحريات، عبر تحويلها إلى مادة للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، والمفاضلة بينها وبين الخدمات بهدف التقليل من أهميتها، فصرنا نسمع عشرات المرات يومياً عبارات من نوع «عم نموت من الجوع وبدهم دولة علمانية».

قد تكون هذه المرحلة من تاريخ بلدنا، على مشاقها، هي الأكثر مناسبة لتأسيسٍ سياسي جديد على أرض صلبة، مع ضرورة تضافر الجهود الشعبية لصالح هذا التأسيس، ولصالح قيام نظام سياسي على مبادئ العدالة واحترام الحريات وتداول السلطة.

الجمهورية نت

Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

أبريل 2025
س د ن ث أرب خ ج
 1234
567891011
12131415161718
19202122232425
2627282930  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist