الجزيرة السورية على الطاولتين السياسية والعسكرية – الأهالي لا يريدون القتال، فماذا تُريد السلطات؟

جلال الحمد

    • في مقابلة تلفزيونية بتاريخ 3 شباط (فبراير) 2025، صرّح الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع بأن المفاوضات مع قوات سوريا الديمقراطية جارية، وأن العديد من التفاصيل لا تزال قيد النقاش، مؤكّداً أن قسد «عبَّرت عن استعدادها لأن تكون جزءاً من الجيش السوري». جاء التصريح بعد يومٍ من نشر تصريحات لقائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، عبّر فيها عن أن قسد «لا تريد التقسيم وأنها مستعدة لأن تكون جزءاً من مستقبل سوريا».

      جاءت هذه التصريحات في ظل ظهور جهاتٍ متعدّدة تطالب الحكومة المؤقتة بفرض سيطرتها على مناطق سيطرة قسد بالقوّة العسكرية، تمثّلت بمظاهراتٍ في العاصمة دمشق ودعواتٍ واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي.

      تُسوِّق كل من الحكومة المؤقتة وقوات سوريا الديمقراطية نفسيهما عبر سردياتٍ حجزت مساحةً لها في أذهان الآلاف وكوّنت دافعاً لتأييدهما، فالحكومة المؤقتة والفصائل المُشكّلة لها دخلت دمشق وحلّت محل بشار الأسد في مشهدٍ كان أقرب للمعجزة، فيما طردت قوات سوريا الديمقراطية تنظيم داعش من مناطق واسعة، بعد سنواتٍ من الرعب عاشها سكان دير الزور والرقة ومناطق في الحسكة وكوباني (عين العرب) ومناطق أُخرى.

      الجزيرة السورية بعد سقوط النظام

      ما أن بدأت قوات النظام السوري السابق بالانهيار في شمال البلاد ووسطها، وذلك بعد عملية ردع العدوان التي قادتها فصائل مسلّحة معارضة للنظام، حتى سَحَب النظام قواته وعتاده من مناطق عّدة، ومنها دير الزور، باتجاه جبهات القتال، إذ يبدو أنه أدرك حينها أن الدفاع عن وجوده يتطلّبُ حماية العاصمة أكثر من أيّ مكانٍ آخر. قبل سحب قواته من دير الزور، شنّت قوات سوريا الديمقراطية عمليةً عسكريةً محدودةً، استهدفت قوات النظام في القرى السبع الواقعة بالقرب من مناطق سيطرتها على الضفة الشرقية من نهر الفرات، ولكنّ العملية أخفقت، ليسلّم النظام هذه القرى بعدٍ أيام قليلة عبر انسحابه دون قتال. تتبّعت قسد القوات السورية المنسحبة خطوةً بخطوة، فيما بدا أنه تسليم النظام لمواقعه لقوات قسد التي سيطرت على مطار دير الزور، ثم دخلت مدينة دير الزور وعدداً من المناطق التابعة لمحافظة الرقة. حصل هذا التحرك بموافقةٍ كاملةٍ من التحالف الدولي الداعم لقسد والمشرف على تحركاتها، والذي خَشِيَ من الفراغ الأمني الذي ستخلّفه قوات النظام السوري، مما سيترك مناطق واسعة لتحرُّك تنظيم الدولة بحرية. وبالفعل، شن طيران التحالف في تلك الفترة غاراتٍ على مواقع يُعتقد أنها تابعة لتنظيم الدولة في دير الزور.

      لم تنسحب قسد من مدينة دير الزور إلا بعد مفاوضاتٍ مع قوات هيئة تحرير الشام استمرت عدّة أيام، ولم تشهد تلك الفترة أيّ صدامٍ عسكري بين الطرفين، الأمر الذي أشار بوضوح إلى نجاح أول حوارٍ مباشرٍ بينهما بعد سقوط النظام، وهو ما تؤكّده الأوضاع الحالية في الجزيرة السورية وتصريحات القيادات السياسية والعسكرية.

      بعد الاتفاق مع هيئة تحرير الشام، عادت قسد إلى مواقع سيطرتها السابقة، ولم تشهد المنطقة أي تحركاتٍ عسكريّةٍ تُذكر، إلا بعض الهجمات التي شنّها مسلّحون يُرجّح أنهم يتبعون لقوات العشائر التي شكّلها الشيخ إبراهيم الهفل، الأخ غير الشقيق للشيخ مصعب الهفل، شيخ مشايخ عشيرة العكيدات، والتي لم تؤدِّ إلى أي تغييرٍ في مناطق السيطرة.

      مؤشّرات التحركات الشعبية

      بعد دخول قوات سوريا الديمقراطية إلى مدينة دير الزور، اشتعلت مظاهراتٌ طالبت بخروجها وتسليم المدينة لقوات ردع العدوان والتأكيد على وحدة سوريا ورفض تقسيمها، وهو ما حصل بموجب مفاوضاتٍ كما ذكرنا آنفاً، والمُلاحظ خلال الأيام القليلة التي تواجدت فيها قسد في المدينة هو عدم وقوع مواجهات عسكرية مع الأهالي، رغم حالة الفوضى الأمنية التي خلّفها انسحاب قوات النظام السابق، وفوضى السلاح وعناصر مليشيات النظام الذين تواروا عن الأنظار بين الأهالي بالزي المدني. في الرقة، خرجت مظاهراتٌ حملت المطالب نفسها، وشهدت المحافظة بعدها لقاءاتٍ مكوكية بين القيادات المجتمعية وقيادات المجتمع المدني من جهة، وممثلين عن قوات سوريا الديمقراطية من جهةٍ أُخرى، بغرض تخفيف التوتر والإفراج عن المعتقلين على إثر المظاهرات. قُتل في مظاهرتي دير الزور والرقة عددٌ من المدنيين، ورغم ذلك لم تُسفر هذه الأحداث عن انفلاتٍ أمني وتحرّكٍ مُسلّح تجاه قوات سوريا الديمقراطية.

      بعد عودة قسد إلى مناطق سيطرتها قبل 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، سلّم عشراتٌ من عناصرها في دير الزور سلاحهم وعادوا إلى منازلهم لسببين؛ الأول مادي، إذ قطعت قسد الرواتب الشهرية المخصصة لهم؛ والثاني لتجنّب خوض معركةٍ أظهرتها وسائل التواصل الاجتماعي قريبةً، خاصةً وأنها ستكون مع عناصر هيئة التحرير الشام الذين دخلوا دير الزور، والذين ينتمون في معظمهم لأهالي المحافظة.

      لم تشهد المناطق الواقعة في الجزيرة السورية تحركاتٍ شعبية مسلّحة واسعة لمواجهة قوات سوريا الديمقراطية، رغم استمرار الحشد الإعلامي والرغبة الواضحة لسكان دير الزور والرقة بتغيير واقعهم الحالي، إما بدخول قوات هيئة تحرير الشام أو بتغييرٍ جذري في إدارة مناطقهم إلى شكلٍ لا يشبه الإدارة الذاتية.

      على عكس ما يروَّج إعلاميّاً، وبخلاف رغبات دعاة الحرب، توضح الأحداث خلال الشهرين السابقين أن السكان المحليين لا يرغبون بفتح حربٍ جديدة، فقد سئِموا الحروب كغيرهم من السوريين، كما ستضرر دير الزور والرقة بموجب أيّ حربٍ على الصعيد الاجتماعي، وأي قتالٍ بين الطرفين سيؤدي إلى جراح غائرة بين مكونات المنطقة، وسيتحمّل أبناؤها بعربهم وكردهم وزرها وتبعاتها لعقودٍ قادمة، خاصةً أن قياديين في الجيش الوطني متهمين بانتهاكاتٍ واسعة خلال عمليَّتَي نبع السلام وغصن الزيتون تسلّموا مناصب عسكرية في وزارة الدفاع السورية، وهذا ما سيؤجج أي معركةٍ عسكرية قد تحصل. وعليه  فإن عدم حصول أي تحرك عسكري محلي كان واضحاً على أنه قرارٌ اتخذه أبناء محافظات الجزيرة السورية عن وعيٍ كاملٍ، رغم ظروفهم الاقتصادية والأمنية، ورغم كل الضغوط التي مورست وتُمارس عليهم.

      تأثير تنصيب الشرع رئيساً مؤقتاً على مسار الأحداث شمال شرق سوريا

      أثار تنصيب المجموعات العسكرية لأحمد الشرع رئيساً مؤقتاً لسوريا في 29 كانون الثاني (يناير) 2025، وقرار حلّ الفصائل وضمّها تحت مظلة وزارة الدفاع التابعة لحكومة تصريف الأعمال، سؤالاً رئيسيّاً حول مصير المعارك بين الجيش الوطني، المعارض والمدعوم من تركيا، وقسد، خاصةً في مناطق منبج وكوباني (عين العرب) وسد تشرين، فإنْ استمرت المعارك بعد حل الفصائل فلن تكون كسابقاتها، بل ستكون بين حكومة أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية، ما قد يستبدل الوصف من معارك بين فصيلين عسكريين إلى معارك بين وزارة الدفاع السورية وفصيلٍ متمرّدٍ عليها. جاء تصريح الشرع في 3 شباط (فبراير) مُطمئِناً بأن لا معارك قريبة، إلا أن التأثير التركي على سير المعارك منذ سقوط النظام قد يلعب الدور نفسه بالضغط على الشرع لاتخاذ خطواتٍ عسكرية في مواجهة قسد، وإن كانت محدودة، وذلك لتكريس الوصف الجديد لقوات سوريا الديمقراطية كجهة خارجة على القانون، حتّى قبل الحوار الوطني وتشكيل الحكومة المؤقتة والخطوات التي وعد بها الشرع في خطابه الثاني بعد التنصيب.

      يضاف إلى العامل التركي المؤثر عاملٌ آخر، وهو القرار الأميركي في التعامل مع الوضع الجديد في سوريا، خاصةً وأن قوات سوريا الديمقراطية هي الحليف العسكري للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وجاء التغيير السوري في ظل انقلابٍ جيوسياسيٍّ كبيرٍ على مستوى الشرق الأوسط قادته إسرائيل بعد عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وبالتالي فإنّ القرار الأميركي سيأخذ، بالضرورة، المصالح الإسرائيلية بعين الاعتبار في رسم ملامح سياسته تجاه سوريا الجديدة. وبهذا يمكن تفسير ما تداولته بعض الصحف عن نيّة الرئيس الأمريكي ترامب سحب قوّاته من سوريا، على أن أي تغيير في وضع القوّات الأميركية والتحالف الدولي بعد سقوط الأسد، لن يكون إلّا وفق صيغة تضمنُ أن تكون سوريا بلداً لا يصدّر العنف لبلدان الجوار، وتخرجُ بها من وضع الدولة الفاشلة التي تشكّل ثقباً أسوداً يجذب الأفكار والمجموعات المتطرفة، إلى بلد مستقر يعيش بحالة طبيعية مع كل جيرانه، وهذه الصيغة تتطلب بالضرورة وجود تيارات سياسية «مضمونة الجانب»، ليس فقط للولايات المتحدة وإسرائيل، بل لدول الإقليم وعلى رأسها دول الخليج العربي.

      إذاً، يشكّل تنصيب الشرع رئيساً مؤقتاً عاملَ تعقيدٍ جديد لوضع الجزيرة السورية، فهو من جهةٍ يجعل من أيّ تحرّكٍ عسكريٍّ من قبل حكومة دمشق حرباً بين حكومةٍ وفصيلٍ متمرد، كما أجبر هذا الموقع الجديد للشرع قوات سوريا الديمقراطية على تقييم خياراتها من جديد، فهيئة تحرير الشام لم تعد الآن كما كانت قبل «مؤتمر النصر»، وسيُسلّط عليها الضوء أكثر وستكون مُرغمةً على حساب تحرّكاتها بدقة.

      الشفافية والعقلية الجديدة ضرورتان

      صار من الجلي أن الطرفين العسكريّين السوريين الأساسيين المعنيّين بالجزيرة السورية، أي حكومة الرئيس المؤقت وقوات سوريا الديمقراطية، لا يُفضّلان اللجوء للنزاع المسلح للاتفاق على مصير المحافظات الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية، وهذا ما تعكسه تصريحات قيادَتيهما والوقائع في الميدان. ومن طرف المجتمع المحلي، فرغم حجم التحريض وانتشار السلاح والفراغ الأمني، لم يتم اللجوء إلى القوّة في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية حتى الآن.

      رغم دعوتنا للحوار كطريقٍ وحيدٍ وإجباري لحسم الخلاف حول الجزيرة السورية، وعدم اللجوء إلى السلاح، فإنّ هذا لا يعني أبداً انتظار ما سيحصل بين الطرفين اللذين يتفاوضان دون أي تكليف، ويواجهان الكثير من الاعتراضات على أدائهما، وهنا لا بد من ممارسة كل أنواع الضغط من قبل المجتمعات المحلية والمنظمات المدنية، لترسيخ مطالب أهالي الجزيرة السورية في المفاوضات الجارية بين الطرفين، كيلا تنحصر نتائج المفاوضات على تحقيق مصالح الطرفين السياسية والعسكرية على حساب مطالب الأهالي ومستقبل المنطقة.

      من جهتهما، فإن حكومة الشرع وقسد مطالَبتان بالشفافية الكاملة حول ما يحصل في أروقة المفاوضات، وتقديم تصريحاتٍ بشكلٍ دوري للسوريين، وعليهما أيضاً التواصل بعد كل جلسة تفاوض مع الخبراء والمجتمع المدني وممثلي المجتمع الأهلي، لتعريفهم بمصير المفاوضات والاستماع لتعقيب الأهالي.

      رغم التفاؤل في سير المفاوضات وفق تصريحات الطرفين الشحيحة، إلّا أن هذا التواصل يجب ألّا يقتصر على قيادات الصف الأول والثاني، فالقيادات الأُخرى لها دورٌ مهم في التخفيف من الاحتقان وترسيخ مسار الحوار بين الأطراف ومواجهة حملات التحريض، وهنا يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دور الوسيط بين هذا المستوى من القيادات.

      في نهاية المطاف، فإن هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية يجب أن تُجريا نقداً عميقاً لأدائهما خلال السنوات الفائتة، فإطلاق الوعود دون أُطرٍ زمنيّة، والتقرّب من المجتمع المدني والكفاءات، لم يعودا كافيين، وكذلك حل بعض الأجسام العسكرية. فالعقليات التي أدارت الجزيرة السورية وإدلب لم تعد ملائمة بعد التغيير التاريخي الذي حصل في سوريا، وهنا لا بد من مراجعة فكرية وسياسية جذرية، ووضع برامج قائمة على مبادئ وحدة الأراضي السورية والتعددية، والموازنة بين العلاقات الخارجية وحدود التأثير على القرار السوري، والإقرار وصون مبدأ حيادية الدولة.

Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

مارس 2025
س د ن ث أرب خ ج
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
293031  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist