في هذه اللحظات الفارقة من تاريخنا، حيث تتعالى الأصوات وتختلط الكلمات بين شعارات متناقضة وأمنيات كبيرة، لا بد من أن نسترجع الفكرة الأساس التي يمكن أن تحمي سوريا من خطر التفكك والانهيار: فكرة دولة القانون والمواطنة المتساوية، فالحديث عن بناء دولة قوية وعادلة يبدأ من نقطة أساسية، وهي أن الجميع، على اختلاف انتماءاتهم وأعراقهم وطوائفهم، هم أبناء هذا الوطن، وأن الحقوق والحريات ليست امتيازات تُمنح لشريحة دون أخرى، بل هي أمانة من واجب الدولة أن تضمنها للجميع.
إنها الحقيقة البديهية التي يجب أن نُعيد التأكيد عليها في كل وقت، لا يمكن لنا أن نبني وطناً قوياً إن نحن جعلنا من قضية الأقليات قضية يتيمة، معزولة، تبتعد عن روح المواطنة والعدالة.
إن الأقليات في سوريا ليست مجرد مفردات سياسية تستخدم في خطب أو تصريحات، بل هي جزء من نسيج اجتماعي غني ومعقد، يتشابك في تاريخه الحافل بالتنوع والاختلاف، والكل فيه معنيون بالتعايش، بالإخاء، بالوحدة في أوجها، والاحتفاء بالتعدد، هي فسيفساء رائعة تجمع بين كل الألوان، والاختلافات التي ينبغي أن تكون مصدر قوة، لا نقطة ضعف.
في سوريا بحاجة لأن ننظر إلى أنفسنا كمجتمع واحد، لا كمجتمعات متوازية أو متقاطعة، فكلنا معنيون بوجود الآخر، وكلنا نخوض معركة واحدة، وهي معركة بناء الوطن في ظل دولة قانون تحترم الإنسان وتعزز حقوقه، من دون أن تفرق بين أحد وأحد.
لكن هناك من يرى أن قضية الأقليات قد تم استغلالها على مر السنوات، سواء من قبل أطراف خارجية أو حتى من بعض القوى الداخلية التي لم تجد في الوحدة الوطنية ما يغريها، فابتعدت عن هذه الفكرة لصالح تعزيز حضورها على حساب الآخرين، للأسف أصبحت هذه الأقليات مادة تُستخدم للترويج لمواقف سياسية، تُحرف فيها قضيتها لتصبح سبباً في تعزيز الانقسام، لا في بناء الجسور بين أبناء الوطن الواحد وفي هذا الإطار، نجد أن الحديث عن الأقلية والأكثرية يصبح مغلوطاً، فتلك المسائل ليست مقاسات يمكن حشرها في قالب ثابت، بل هي جزء من حقيقة اجتماعية تحتاج إلى وعي مختلف وطرح جديد.
إننا في سوريا بحاجة لأن ننظر إلى أنفسنا كمجتمع واحد، لا كمجتمعات متوازية أو متقاطعة، فكلنا معنيون بوجود الآخر، وكلنا نخوض معركة واحدة، وهي معركة بناء الوطن في ظل دولة قانون تحترم الإنسان وتعزز حقوقه، من دون أن تفرق بين أحد وأحد. لقد آن الأوان لأن نرفع شعار المواطنة المتساوية فوق كل الشعارات التي قد تُستغل لحسابات سياسية ضيقة، وأن نضع قانونا واحدا ينظم علاقة الفرد بالدولة، ولا يسمح لأحد بالهيمنة على الآخر أو استخدام تلك الهوة الظاهرة بين فئات المجتمع كأداة ضغط.
دولة القانون ليست فقط تلك التي تطبق القوانين بشكل صارم، بل هي أيضاً تلك التي تجعل من المواطن العنصر الأساسي في العملية السياسية والاجتماعية، حيث لا يتوقف دور المواطن عند حدود واجب السمع والطاعة، بل يتعداه ليصبح الفاعل في تشكيل القرار، والمشارك في صناعة المستقبل، وهنا لا يمكن لأي فئة أو جهة أن تتهم الأخرى بتهميش حقوقها، لأن القانون هو الحاكم، والمواطنة هي البوصلة، هذا هو الضمان الوحيد لبناء دولة سيدة، حرة، ومتحضرة.
ما نحتاج إليه في سوريا اليوم ليس مجرد شعارات فارغة عن الأخوة الوطنية، بل نظام سياسي واجتماعي يقف على قاعدة قانونية راسخة لا تميز بين أحد وآخر
لكن علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا؛ لن يكون هذا التقدم ميسراً إن لم نؤمن بأن الوحدة الوطنية هي الفكرة الأكثر قوة، لا يمكن لبناء الوطن أن يتحقق إلا حين نُقبل بأن التنوع ليس تهديداً، بل هو قيمة يجب أن تظل شاهدة على غنى هذا الوطن، فلا يُمكن أن ننحي هذا التنوع جانبا، بل يجب أن نحتفي به، من دون هذا الوعي العميق، من دون هذا الاستعداد لإعادة النظر في طريقة فهمنا للآخر وتقبلنا له، لن يكون لنا أن نخطو خطوة واحدة نحو الأمام.
إن استغلال قضية الأقليات لأهداف سياسية قد دمر العديد من الآمال التي كانت تُبنى على فكرة سوريا الواحدة الموحدة، لكن على الرغم من كل التحديات، يبقى لدينا الأمل بأن الإرادة الوطنية الحقيقية، التي تقوم على التضامن والمساواة، يمكن أن تقلب المعادلات، وأن نبدأ في بناء وطن يضمن الحق والعدل لكل أبنائه، يرفع شعار المواطنة على جميع الشعارات الأخرى، ويدرك أن حماية الأكثرية تكمن في صون حقوق الأقليات كما الأكثرية، لا في المتاجره والتلاعب بها كما فعل النظام الساقط.
إن ما نحتاج إليه في سوريا اليوم ليس مجرد شعارات فارغة عن الأخوة الوطنية، بل نظام سياسي واجتماعي يقف على قاعدة قانونية راسخة لا تميز بين أحد وآخر، ولا تسمح باستغلال أي فئة من الفئات لتحقيق مكاسب على حساب الآخر، دولة تُقيم العدل، وتُسقط الممارسات التي تتاجر بالجماعات في سبيل الوصول إلى السلطة، بل تحتضن الجميع، وتضمن الحقوق الإنسانية لكل فرد، وتسمح له بالتعبير عن نفسه بحرية ومن دون خوف هذا هو السبيل الوحيد لحماية الوطن وحمايته من الانقسام والضعف.
إذا نحن الآن أمام لحظة مصيرية في تاريخنا، لحظة يجب أن نرفع فيها رؤوسنا عالياً، ونقول بثقة: إننا بحاجة لدولة القانون والمواطنة المتساوية، التي تسهم في بناء أرضية مشتركة بين جميع السوريين، في وطن يسع الجميع ويحتوي اختلافاتهم، ويحولها إلى مصدر قوتهم، وفي هذا الطريق فقط يمكننا أن نعيد بناء سوريا كما يجب أن تكون، من دون وصاية من أحد، وبروح من الإخاء والتعاون بين كل مكوناتها.
- تلفزيون سوريا