مقدمة
لطالما كانت الطائفية إحدى الأدوات التي تُستخدم لتمزيق المجتمعات وإشعال الفتن بين أبنائها، وليس مجرد انعكاس طبيعي للتنوع الديني أو المذهبي. في السياقات السياسية والاجتماعية، غالبًا ما يُوظَّف الخطاب الطائفي لتبرير هيمنة فئة على أخرى أو لصرف الانتباه عن قضايا أساسية تتعلق بالعدالة والحقوق والمواطنة. في هذا المقال، سنناقش أربع أفكار رئيسة، تكشف كيف أن الطائفي هو المحرّك الأساسي لاستخدام الطائفية كأداة سياسية، وذلك من خلال محاولاته تصنيف المجموعات على أسس دينية ومذهبية، وإثارة المخاوف الطائفية، وتوظيف الصراعات الإقليمية لتبرير الطائفية.
أولًا: الطائفي وحده من يريد أن يجعل من السُنَّة طائفة
السُنَّة، كجزء من مكونات المجتمع الإسلامي، لم يكونوا تاريخيًا طائفة بالمعنى السياسي أو المذهبي الضيق الذي يُراد فرضه اليوم. فالإسلام، سواء في مذاهبه السنية أو الشيعية، لا يُؤسّس لانقسامات مصطنعة بين أتباعه، وإنما يقوم على أصول دينية جامعة. إلا أن الطائفيين يسعون إلى تحويل السُنَّة إلى طائفة قائمة بذاتها لمجرد تحقيق توازنات طائفية تخدم مشاريع سياسية، لا سيما في الدول التي تشهد صراعات مذهبية. هذه النزعة تحاول أن تفرض هوية طائفية على مجموعة واسعة ومتنوعّة من الناس، متجاهلة الفروقات الفكرية والثقافية والاجتماعية بينهم، مما يعزز الانقسام بدلًا من تعزيز الوحدة الوطنية.
ثانيًا: الطائفي وحده من يريد أن يجعل من مصطلحي الأكثرية والأقلية مصطلحين طائفيين
المفهومان السياسيان لـ”الأكثرية” و”الأقلية” هما بالأساس تعبير عن تفاوت عددي في أي مجتمع ديمقراطي، ولا يُفترض أن يكونا مصطلحين طائفيين أو مذهبيين. إلا أن الطائفيين يحاولون تصوير الأكثرية وكأنها تهيمن على الأقلية، أو أن الأقلية في خطر دائم، مما يُسهم في خلق بيئة مشحونة بالتوتر والخوف المتبادل. في الدول التي تقوم على مفهوم المواطنة، لا يُنظر إلى الأفراد على أساس انتمائهم الطائفي بل بناءً على حقوقهم وواجباتهم كأفراد داخل الدولة. لكن الطائفي، الذي يسعى إلى تأجيج النزاعات، يستخدم هذين المصطلحين لخلق استقطاب اجتماعي يقود إلى الاصطفاف الطائفي بدلًا من بناء الهوية الوطنية الجامعة.
ثالثًا: الطائفي وحده من يطرح الخوف على مصير الطوائف
الخوف هو أحد الأدوات الأكثر فاعلية في صناعة الطائفية، إذ يستخدمه الطائفيون لإقناع فئات مجتمعية بأنهم مستهدفون، وأن مستقبلهم مهدد، وأن عليهم الاصطفاف وراء زعماء طائفيين “لحمايتهم”. هذا الخطاب يؤدي إلى تعزيز العزلة بين الطوائف المختلفة، مما يُضعف التماسك الوطني ويخلق أجواءً من العداء المتبادل. في كثير من الحالات، تكون هذه المخاوف مفتعلة أو مبالغًا فيها، والغرض منها ليس الدفاع عن الطوائف، وإنما استخدامها كأوراق ضغط سياسية في صراعات النفوذ. وبدلًا من التركيز على بناء دولة المواطنة التي تحمي الجميع بشكل عادل، يُراد لهذه الطوائف أن تبقى في حالة دائمة من القلق والخوف، ما يسهل توجيهها سياسيًا.
رابعًا: الطائفي وحده من يجعل من مواجهة داعش التبرير الأيديولوجي لممارسة الطائفية
تنظيم داعش كان ولا يزال يمثل خطرًا كبيرًا على المجتمعات كافة، وليس على طائفة بعينها. إلا أن بعض الطائفيين يستغلون هذا التنظيم كذريعة لتبرير ممارسات طائفية ضد مجموعات أخرى، وكأن مواجهة داعش لا تتم إلا من خلال نهج طائفي موازٍ. وقد كان أكثر ضحاياه من الطائفة التي نصّب نفسه مقاتلاً باسمها، هذا التفكير يُسهم في استمرار دورة العنف الطائفي، حيث يصبح التطرف مبررًا لتطرف مضاد، وهو ما يؤدي إلى مزيد من التشظّي داخل المجتمعات. مواجهة داعش لا ينبغي أن تكون غطاءً لممارسة التمييز الطائفي، بل يجب أن تكون جهدًا وطنيًا مشتركًا يشارك فيه الجميع، دون استثناء، بهدف القضاء على الإرهاب دون الانجرار إلى استغلاله لمصالح طائفية ضيقة.
خاتمة
الطائفية ليست ظاهرة طبيعية، بل مشروع سياسي يُستخدم لخدمة أجندات معينة. الطائفيون هم من يحاولون تكريس الانقسامات، سواء من خلال خلق هويات طائفية مصطنعة، أو تضخيم فكرة الأكثرية والأقلية على أسس مذهبية، أو ترويج الخوف بين الطوائف، أو استخدام الإرهاب كذريعة لممارسة الطائفية. إن الحل الحقيقي لمواجهة هذه الظاهرة يكمن في تعزيز مفهوم المواطنة، وترسيخ العدالة، ورفض أي خطاب يُكرّس الفرقة بين أبناء المجتمع الواحد.
المراجع
1. برهان غليون، الطائفية والحكم في المشرق العربي، دار الساقي، 2018.
2. عزمي بشارة، الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017.
3. عبد الوهاب المسيري، الفكر السياسي والاجتماعي في العالم العربي، دار الشروق، 2005.
4. تقرير الأمم المتحدة حول الطائفية في الشرق الأوسط، 2020.
- كاتب سوري