يخطئ من يعتقد أن الجيوش فقط من تمشي على بطونها، بل والشعوب جميعها تفعل وإن بنسب وطرائق متباينة، وربما بنقص الدخول والخدمات وتكريس الفقر وانعدام الغذاء، تضطر الشعوب، أو جلها على الأقل، للزحف وإن من نوع ثان، وتبيع للمستبدين والمتحكمين بعيشها، حتى ما يباع لمرة واحدة، ولعل بشعوب المنطقة عموماً، قبل ثورات الربيع العربي، زمن توريث الأبناء وقمع الحريات والتجويع واستلاب الحقوق، وبالشعب السوري تحديداً، والذي عانى ما لم يكابده سواه، أمثلة حية ودلائل دامغة.
وهنا، ولِئلّا ينتفض محق جراء قراءة الاستهلال على نحو خاطئ نبيّن، ليس حشو المعدة هو القصد، كما ثمة بهذه الحياة ما هو أهم وأسمى وأولى، للنضال والثورات من الطعام وحتى متطلبات الحياة اليومية، فالكرامة والحقوق والحريات تأتي بمقدمة مساعي الإنسان للعيش الكريم والآدمي. بيد أن تلك المطالب لا تستوي أو يمكن المطالبة بها وتحصيلها، بواقع التفقير وخلل توزيع الثروة المنظم والمدعوم إقليمياً أو التجويع المغطى والمبرر دولياً، كما كان على مدى نيف وعقد بسورية. إذ وبمنتهى الاختزال: البطن الخاوية لا تنتج كما اليد المرتجفة لا تبدع.
قصارى القول: أحسنت اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني السوري بصنيعة الحوار الأولي على مستوى المحافظات، إذ من الاستحالة بمكان جمع السوريين المتعطشين للبوح والشكاية والمطالب في مكان واحد، كما قد لا يمكن لممثلي الشعب بالمؤتمر العام حمل جميع هواجس ومطالب السوريين المنكوبين على سنوات.
ووفقت اللجنة مبدئياً، رغم كل الذي قيل عن مثالب تلك الحوارات الأولية، إن لجهة الدعوات أو المحاور التي طرحت. بل وزادت بتوفيقها جراء دعوة الجميع للحوار، وليس مجتمع الثورة فحسب، فذاك حق وضرورة، وليس من الحكمة والوطنية، كما طالب البعض، إقصاء من بقيّ بمناطق سيطرة الأسد أو بعمله الوظيفي، عن المشاركة وإبداء الرأي بشكل وهوية سوريته المقبلة.
ولكن، وبعيداً عن الإيجابي والسلبي بالحوارات التي شهدتها المدن السورية خلال الأيام الأخيرة، سنلتقط منها أمراً، وهو نتائج الاستطلاع الذي طرحته اللجنة على وسائل التواصل لمعرفة أي الموضوعات تشغل السوريين. وزج الجميع، من ضمنهم سوريو الخارج، بترتيب أولويات الانطلاقة.
فحلّ الإصلاح الاقتصادي بالمرتبة الثالثة بنسبة 20% بعد العدالة الانتقالية التي تصدرت بنسبة 41% والبناء الدستوري الذي حصد نسبة 29%، ولم يتخلف عن الملف الاقتصادي إلا الإصلاح المؤسسي الذي صوت له من نسبتهم 8.4% من المستطلعة آراؤهم.
وبتلك النتائج المفاجئة ربما، تقليل من ضرورة الاقتصاد وتراجع نسبة المطالبين بإصلاحه وتسريع دورة عجلة الإنتاج وبالتالي تحسين الوضع المعيشي. رغم أنه وبالمقارنة بين طروحات المتحاورين مع اللجنة التحضيرية بالمحافظات ونتائج الاستطلاع، نجد أن الاقتصاد والخدمات، كانا أولوية وبمقدمة هواجس ومطالب السوريين.
وربما بالبحث عن سبب تراجع نسبة أولوية الاقتصاد ضمن الاستطلاع الإلكتروني عن بعد، نستنتج أن فقراء سورية خارج لعبة الاستطلاعات وربما لا يملكون جهاز موبايل أو يجيدون التعاطي مع التكنولوجيا، أو أن مجتمع البحث ممن ينظرون بشمولية ويروّن أن الإصلاح الدستوري أساساً للاقتصاد وغيره، كما أن العدالة الانتقالية منطلق أول وضرورة قصوى، لتهدأ النفوس ويبدأ الجميع بالإصلاح الدستوري والاقتصادي والمؤسسي.
نهاية القول: الأرجح أن الاقتصاد هو العقدة اليوم أمام منشار طي الماضي والانطلاقة بواقع ومستقبل مبشريّن، ومن الاقتصاد، على الأرجح، بدء سحب الاحتقان المجتمعي وتهدئة النفوس وإشغال وتشغيل السوريين الدائرين، منذ ثلاثة أشهر، بدوامة التنظير والمطالب وربما أكثر، ما ينذر بتفجير مجتمعي وجغرافي..وربما أكثر.
الذي يعرف سورية وغناها، بمواردها وثرواتها وطاقاتها البشرية، يعرف سر بقائها منتجة صامدة، رغم سرقات وتقويض عصابة الأسدين على مدى نصف قرن وحتى مطلع الثورة، والتي للأمانة والتاريخ، لم تك ثورة السوريين لأسباب اقتصادية ومعيشية كما يراد من تقزيمها وتسطيح مطالب السوريين.
لذا، الاقتصاد منطلق سورية اليوم، ولا بد، لمن بيدهم القرار ووضع جدول أعمال المؤتمر الوطني العام، أن يولوه ما يستأهل حتى لو حولوه لمؤتمر شبه اقتصادي. إذ لكل قطاع بسورية “زراعة، صناعة، خدمات، مال، عقوبات، استثمار، طاقة، يد عاملة وبطالة..” أهمية يمكن أن يعوّل عليها وكارثة يمكن أن تنفجر إن أُهملت.
وبطرح كهذا، ليس تفضيلاً للاقتصاد على السياسة أو الدستور أو المشاكل الاجتماعية والطائفية أو حتى الجغرافية المهددة بالتفتت، بل على العكس، يمكن للاقتصاد وتحسين المستوى المعيشي وتوفر الخدمات، أن تسحب الفتائل من كل تلك الأزمات مبدئياً، ليصار إلى البحث بحلولها الدائمة، على مهل وكفاية وتروٍ.
- العربي الجديد