
منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بدا واضحاً أن إسرائيل قرّرت الدخول مباشرة في قلب الحدث السوري في محاولة لإعادة تشكيله، بما يخدم رؤيتها إلى المنطقة ونهجها الذي اتّخذ منحى أكثر عدوانية منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وعليه، أطلقت إسرائيل واحدة من أكبر حملاتها الجوية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، عبر شن ما لا يقل عن 500 غارة دمرت نحو 80% من القدرات العسكرية السورية خلال الساعات الـ 72 الأولى التي أعقبت سقوط الأسد، وهروب جيشه. كان الهجوم إشعاراً بعدم ثقة إسرائيل بالنظام الجديد في دمشق وتوجّهاته المستقبلية. وبالرغم من اختراقاتها العميقة مجمل منظومة الأسد وحلفائه، العسكرية والأمنية، إلا أن سرعة انهيار نظام الأسد مثّلت مفاجأة كبرى لإسرائيل. لاحقاً، بدا سقوط الأسد وكأنه خطأ غير مقصود، ارتكبته إسرائيل التي سعت، على الأرجح، إلى كسر حزب الله، وإضعاف الوجود الإيراني في سورية، وإقناع الأسد بفك ارتباطه بهما، لكنها لم تدرك أبداً، ربما، أن جيش الأسد كان فاقداً تماماً إرادة القتال، ما سمح بانهياره السريع أمام قوات المعارضة. وقد عبر نتنياهو عن ذلك في تصريحه إن سقوط الأسد “لم يأت في مصلحة إسرائيل”.
عدم ارتياح إسرائيل للتغيير في دمشق دفعها إلى طوْر جديد من سياستها السورية التي مرّت بعدة مراحل منذ اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار 2011: الأولى (2011 – 2013)، التزمت فيها إسرائيل، إلى حدٍّ ما، موقف المتفرّج، عبر عنه انقسام المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية بين من يميل إلى إسقاط الأسد ومن يميل إلى بقائه، على أساس أن نظامه احترم تعهداته مع إسرائيل منذ اتفاق فض الاشتباك عام 1974، وأن الجولان لم يشهد حادثاً أمنياً ذا أهمية منذئذ. الثانية (2013-2023)، بدأت مع تعاظم الوجود العسكري لإيران وحزب الله في مناطق واسعة من سورية نتيجة ضعف النظام وترنّحه، حيث تبنّت إسرائيل استراتيجية “المعركة بين الحروب”، وشرعت في تنفيذها اعتباراً من عام 2013 بحجّة منع وصول أسلحة “كاسرة للتوازن” إلى حزب الله عبر سورية. ولم يؤثر التدخل العسكري الروسي عام 2015 في هذه الاستراتيجية، إذ توصل نتنياهو إلى تفاهماته المعروفة مع بوتين، والتي سمحت لإسرائيل باستمرار استهداف حزب الله وإيران في سورية، بشرط تحييد قوات النظام. استمرّت هذه السياسة حتى عملية طوفان الأقصى عام 2023، عندما اتّخذت إسرائيل قرارها إخراج إيران من سورية والقضاء على القوة العسكرية لحزب الله، والتي كان سقوط الأسد، كما ذُكر أعلاه، أحد أضرارها الجانبية، بالنسبة لإسرائيل.
تدخل السياسة الإسرائيلية، الآن، في سورية طورها الأخير والأكثر خطورة، فبعد تدمير القدرات العسكرية السورية كلياً تقريباً، شرعت إسرائيل بالتوغل في الأراضي السورية، فاحتلت نحو 600 كيلومتر مربع إضافية منذ سقوط الأسد، بما فيها كامل المنطقة العازلة، بحجّة سقوط اتفاق فض الاشتباك، بفعل انسحاب جيش النظام من المنطقة. وتعمد إسرائيل حالياً إلى إنشاء حزام أمني في الجولان، وتعميق رقعة المنطقة منزوعة السلاح، لتشمل محافظات الجنوب السوري كافة (القنيطرة، درعا والسويداء)، إضافة إلى أجزاء من محافظة ريف دمشق. الأخطر أن إسرائيل باتت تتبنّى رسمياً سياسة تفتيت سورية إلى كانتونات طائفية وإثنية، من خلال زعمها حماية الأقليات من “الأغلبية السنّية” التي باتت تحكم البلد.
سوف تفشل إسرائيل، على الأرجح، في تمرير مشروعها لتفتيت سورية، لكن الاعتقاد بذلك لا يكفي وحده لمنعه، بل يجب العمل عليه من خلال: أولاً، التوقّف عن تجاهل العدوان الإسرائيلي، بزعم عدم القدرة على مواجهته حاليّاً، والاعتقاد أن الصمت أو عدم إدانته يؤدّي إلى تجنّب مزيدٍ منه، بل ينبغي حشد الرأي العام السوري في سورية والخارج، وتعبئة المواقف العربية، والدولية، وإثارة أكبر ضجّة ممكنة بشأنه. ثانياً، تبنّي نهجٍ في الحكم بعيدٍ عن الإقصاء والتهميش والاستئثار. فكلما شعر السوريون (على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والإثنية) بأنهم منخرطون في العملية السياسية، وفي بناء دولتهم الجديدة، تنامى الإحساس بانتمائهم الوطني، وحرصهم على وحدة بلادهم، وفاتت الفرصة على التدخّلات الخارجية لاستغلال مخاوف/مظلوميات حقيقية أو متخيّلة. إن إعادة بناء سورية، وبقاءها موحدة، يعتمد كليّاً على إنهاء مقولة إنها مكوّنة من أكثرية وأقليات. في سورية يوجد فقط مواطنون سوريون أحرار.
- العربي الجديد