أنجب صعيد مصر العديد من المبدعين الكبار في مجال العلوم والفنون والآداب. ففي المجال الأخير تعرّفنا على قمم أدبية رفيعة، لاسيّما في ميادين الشعر والقصة والرواية. في مجال الشعر كان هناك الأبنودي في العامية المصرية، يقابله في الفصحى صديقه الحميم الشاعر أمل دنقل، وهو موضوع مقالنا هذا.
كان وصول شعر أمل دنقل إلى العراق قد بدأ في زمن الانفتاح البسيط والموارب بين السلطة والمعارضة، في أواسط السبعينيات من القرن المنصرم من الأزمنة العراقية. في تلك الآونة السياسية وصل شعر أمل دنقل، القريب من مفاهيم اليسار والفئات البسيطة من المجتمع، ومن هنا قدّمه لنا الشاعر العراقي سعدي يوسف في صحيفة «طريق الشعب» اليسارية، حين كان يشرف على صفحتها الثقافية، فنشر أكثر من قصيدة لأمل دنقل، الذي كانت تربطه بسعدي يوسف علاقة وثقى، شعرية وأدبية، فضلا عن الرؤى الثقافية والأدبية والسياسية المتقاربة إلى حد ما.
من جهتي كمهتم بعالم الشعر، وجدت قصائد أمل فيها ما يقرّبني إليه، خصوصاً وأني كنت أخطو وأتقدم في النهج نفسه، الذي كان أمل دنقل يسير عليه في الميدان الشعري الواسع والكبير، ومتعدد الاتجاهات والأنساق والزوايا والمداخل والطرق، نهج قريب من شعر اليومي والتفصيلي، الذي كتب فيه السياب أولاً في ديوان «شناشيل ابنة الجلبي»، وفي ما بعد صلاح عبد الصبور «الناس في بلادي»، وسعدي يوسف ونماذجه المتعددة والمبتكرة في هذا المجال، التي تحتاج إلى دراسات تفصيلية لغزارة تجربته في هذا الشكل بالتحديد، ثم حسب الشيخ جعفر، وما رشح عن تجربته في القصيدة الدائرية وتحوّلاتها الجديدة، في عمل سطع فيه، وقدّم عناصر ملهمة وباهرة من خلال استيفائها لشرطها اليومي.
فقصيدة «صلاة» أذكر أننا كنّا نحفظها عن ظهر قلب، لجمالها الفني المترع بغلالات دلالية رمزية وفنية، مشغولة بأدوات تعبيرية واضحة ومعلومة، ومعبّرة في الوقت ذاته.
كنا شبيبة ذلك اليوم نردد مقاطع من أبياتها، في جلسات المقاهي والحانات والنوادي الأدبية والفنية، كاتحاد الأدباء وجمعيّتَي الموسيقيين والتشكيليين العراقيين. كانت معانيها وجملها الإيقاعية نراها تنطبق على الوضع السياسي العراقي آنذاك كقوله: «أبانا الذي في المباحثِ نحن رعاياكَ باقٍ لك الجبروتْ، وباق لنا الملكوتْ وباق لمن تحرُسُ الرّهبوتْ»، ثم قصيدة «لا تُصالحْ ولو منحوكَ الذهب»، قبل أن نُرحّلها إلى معناها الرئيس والأساسي، عن العلاقة المتواترة والمتوتّرة دائماً وفي كل الأزمان، تلك التي تقوم بين العرب والعدو الإسرائيلي، بعد تقسيم فلسطين ونهب الأراضي العربية وإقامة الكيان الصهيوني.
بعد نشر تلك القصائد، رحت أبحث عن دواوين أمل الشعرية، فوجدت في المكتبات العراقية ديوان «البكاء بين يديّ زرقاء اليمامة» و»تعليق على ما حدث» و»العهد الآتي»، وهذا الأخير وجدته من أفضل ما كتب أمل دنقل من شعر صاف، ينضاف إليه ديوانه اللاحق الذي كتبه على سرير المرض «أوراق الغرفة 8 «. في هذا الديوان صبّ أمل دنقل خلاصة لوعته التعبيرية واللغوية واللفظية، وكذلك خلاصة طرقه الجمالية في توفير النبرة البارعة، ومستلزماتها الموسيقية والإيقاعية الدرامية، تنضاف إليها البراعة الكبيرة الناتجة عن تحوّلات حياته المأساوية، تلك التي اختتمت بمرض عضال، وهو في سن شابة إلى حد ما.
حبي لأمل دنقل الشعري ظل كامناً في نفسي، فحين كنت في بيروت، وعملت في الصحافة وفي الإذاعة الفلسطينية في ما بعد، كنت بين حين وآخر أقدّم قصيدة لأمل دنقل من خلال برنامَجَيَّ حينذاك، حيث كان الشعر في ذلك الزمن يعدّ سيّد الساحة الثقافية والأدبية، دون منازع، فتأخذ القصيدة مذيعة، أو مذيع ما، ممن يمتلك الصوت الجهوري والمصقول لينشدها وفق وتيرته الصادحة والمجوّدة، في جو بيروت الحماسي، المتصاعد ضد طبائع العدو واستبداده وعربدته واستهتاره اليومي، وفي كل مكان من الأرض اللبنانية، وكذلك في سمائها الجميلة الزرقاء التي كان يلوّثها، ويحيلها إلى سماء رمادية مفعمة بالدخان ورائحة البارود، وهو لا يزال يمارس العدوان ذاته إلى الآن، حتى خلال كتابة هذه السطور.
وأنا في بيروت تلك الأيام، أتيحت لي زيارة لمصر، ففرحت بها كوني سأسافر لأول مرة إلى أرض الكنانة، أرض الأهرامات والحضارة الفرعونية، أرض عبد الحليم وأم كلثوم وعبد الوهاب، وكذلك هي مسقط رأس أحد أبرز الشعراء الكبار المعروفين وهو أمير الشعراء أحمد شوقي. حين وصلنا القاهرة واستتب الحال، ذهبنا لنستمتع بأوقاتنا نحن شباب ذلك اليوم، حانات ومقاه ومسارح ودور سينما وندوات وأوقات أدبية، إلى آخر ما تطلبه النفس من ثقافة وأدب وفن، والشعر يقف في المقدمة طبعاً. في «مقهى ريش» هناك التقيت بالصديق الشاعر العراقي محسن أطيمش الذي كان يحضّر لرسالة الدكتوراه، في الأدب العربي في إحدى جامعات القاهرة.
هناك عرّفني الراحل محسن أطيمش إلى أمل دنقل، الشاعر الذي ظل شعره العذب منضوياً في شِعاب نفسي. فرحت أيّما فرح بلقاء أمل، وعلى نحو يومي تقريباً كنت ألتقيه في «مقهى ريش»، حيث رصيف المقهى الصيفي، الذي زال اليوم بسبب تطوّر العمران، وامتداد البنايات والمحلات المزاحمة لرصيفه الآن.
كان أمل هو نفسه كما يظهر في الصورة، بالملامح الريفية البارزة والناتئة، والمعبرة خير تعبير عن حاضره القاسي والدرامي حينذاك. كان هادئ المحيّا، هكذا يبدو من الخارج، ولكنه كان ينطوي على ثورة داخلية. كان محبّاً وغاضباً، ولكنه حاد الطبع، إذا ما واجهته معضلة ما، طيّباً يتمتع بأعماق قروية نفيسة، وبذكاء وثقافة وحس إنساني عال، وخصال شخصية قلقة مع لمعان واضح، إذ سرعان ما تميّزه عن غيره من الشعراء، وكذلك الأدباء والكتاب في تلك الفترة.
في أحد اللقاءات طلبت منه إجراء مقابلة معه، فوافق دون تردد وسألني عن مكان نشرها، فقلت له سيكون ذلك في مجلة «البديل»، وهي صوت حال الأدباء والكتاب والفنانين العراقيين، تصدر في بيروت ويرأس تحريرها الشاعر سعدي يوسف، فهتف في الحال سعدي يوسف مهللاً للأمر. في اليوم التالي التقينا وأجرينا الحوار الأدبي، وحين عدت إلى بيروت فاجأت سعدي بالحوار، فهبّ مسروراً، ودعاني إلى مقصف بسيط وجميل، قضّينا فيه ظهيرة لا تخلو من رنين الكؤوس وقراءة الشعر، ومراجعة الحوار كذلك، لكي ينشر في العدد التالي من المجلة المذكورة.
شاعر عراقي
- القدس العربي