لم يكن قد مضى أسبوعان على دخول أحمد الشرع إلى قصر الشعب في دمشق، حتى بادرت الإدارة الأميركية السابقة إلى إيفاد مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف لمقابلة مسؤولي سورية الجدد، والتقت بالشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني. كان الوفد رسمياً ويمثل الإدارة الأميركية، رغم أن مهمته اقتصرت على أعمال الاستطلاع الدبلوماسي الاعتيادية وتقديم بعض “النصائح”، وربما مرّرت طلبات أميركية قيل إنها سُلمت فيما بعد للشيباني على هامش مؤتمر دافوس الاقتصادي، من قبيل البحث عن صحافي أميركي مفقود أو المساعدة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. وكان من غير الممكن حينها الخوض في وجود القوات الأميركية في الشمال السوري، أو في شكل علاقتها مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد). مضى على ذلك أكثر من ثلاثة أشهر، وجرت في النهر مياهٌ كثيرة. وجاءت إلى البيت الأبيض إدارة جديدة، وتوصل كل من الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي إلى اتفاق إطاري وقّعاه في دمشق، ليأتي قبل يومين عضوان من الكونغرس في ثاني زيارة لمسؤولين أميركيين إلى سورية، وأول زيارة في عهد ترامب. ورغم أن الزائرَيْن لا يمثلان إدارة ترامب، إلا أنهما سيقدّمان تقريراً إلى مجلسهما، يتضمّن ما بحثاه وما شاهداه وسينطوي بالتأكيد على توصياتٍ محدّدة.
تأتي الزيارة خلال أصداء تتردّد عن بداية إعادة تموضع كبرى للقوات الأميركية في الشمال، تشمل سحب بعضها ودمج بعض القواعد فيما بينها، من دون أن يصدُر أي موقف رسمي حاسم من المسؤولين الأميركيين تجاه القيادة السورية الجديدة. وربما ينتظر العالم، وكذلك الإدارة السورية نفسها، هذا الموقف، نظراً إلى ما يمثله من أهمية لمصير العقوبات العديدة التي طاولت سورية في عهد النظام البائد، وما زال كثير منها قائماً، فالإدارة السورية الجديدة لا تخفي لهفتها لإزالة العقوبات، وهي عقبة حقيقية في بداية مشروع تنموي جاد، باعتبارها تؤثر على جميع الأطراف، بما فيها الاتحاد الأوروبي الذي جمّد بعضها بالفعل، ولكن هذا لم يكن كافياً لزحزحة الوضع الاقتصادي.
ولا تتوقف أهمية الموقف الأميركي على العقوبات، وإنما ينسحب أيضاً على مصير القوات الأميركية المرابطة في الشمال تحت عنوان محاربة الإرهاب، أو تقديم الدعم لقوات سوريا الديمقراطية التي تقوم بالمهمّة، والأخيرة تسيطر على ما يزيد عن ربع الأراضي من الجغرافيا السورية، وهي عقبة إضافية أمام البدء بدورة اقتصادية وطنية جديدة. ولا تعني إعادة التموضع الأميركي التي رصدتها الكاميرات في الشمال السوري قبل يومين انسحاباً كاملاً، بل يمكن اعتبارها في إطار تحرّك اعتيادي، وإن غادرت بعض القوات بالفعل من هناك.
ترى إدارة ترامب أن سورية الجديدة قدّمت خدمة لها بطرد كل وجودٍ إيراني مباشر أو غير مباشر من المنطقة، وتعتبر وجود أحمد الشرع ضماناً كافياً لعدم تسرّب أسلحة أو مساعدات إيرانية عبر الحدود إلى حزب الله في لبنان، ولكنها، في الوقت نفسه، تعتبر أن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال يشكل خطراً، ونظام الحكم في سورية الذي لدى أطرافه نزوع إسلامي قد يرتبك في الوقوف بوجه عناصر التنظيم لو حاولوا الظهور من جديد. وتعتقد الولايات المتحدة أن وجود مقاتلين أجانب ضمن صفوف القوات الرسمية يضاعف من هذا التهديد، ولذلك كان أحد شروطها المعلنة التخلي عن أي قيادي أجنبي في صفوف الجيش السوري الجديد. وقد جعل وجود الشرع الولايات المتحدة تكسب نقطة، لكنها ليست متأكدة إن كانت قد خسرت أخرى في الوقت نفسه، وإسرائيل تنظر بعين المتشكّك، وقد بادرت إلى القيام بتحرّكات عسكرية ضخمة ضمن الإطار نفسه. وفي هذا الظرف، لن تغادر أميركا الشمال في القريب العاجل، ولكنها قادرة على تخفيض عدد قواتها من دون إحداث تغيير كبير في التوافقات السياسية والعسكرية داخل سورية.
- العربي الجديد