في الحالة السورية، تتقاطع إشارات متضادة. فمن جهة، تُبذل محاولات لتصوير مرحلة ما بعد الحرب كفرصة لإعادة التأسيس، ومن جهة أخرى، تبرز ممارسات تؤكد أن القطيعة مع الماضي لم تتحقق بعد، وأن آليات الحكم القديمة لا تزال قادرة على إعادة إنتاج نفسها في أشكال أكثر نعومة، من دون تحوّل حقيقي في البنية العميقة للدولة.
يتجلّى هذا التناقض في الطريقة التي يُعاد بها توزيع المواقع السيادية، حيث لا تكمن الإشكالية في الأسماء بحد ذاتها، بل في المنطق الذي يحكم هذا التوزيع، والذي يعيد إنتاج الدولة كمنظومة امتيازات، لا كمؤسسة تمثّل المصلحة العامة. فالكفاءة تُقصى لصالح الولاء، ويتلاشى الفارق بين الدولة كإطار مشترك لجميع المواطنين، والسلطة كأداة حصرية في يد النخبة الحاكمة.
في هذا السياق، يبرز دور “لجنة السلم الأهلي” بوصفها إحدى أدوات إدارة التوترات الاجتماعية في لحظة انتقالية غير معلنة. يفترض بهذه اللجنة أن تمثل مساحة للعدالة الترميمية، وأن تكون صلة وصل بين الدولة والمجتمع، إلا أن ممارساتها الراهنة تشير إلى عكس ذلك. فهي لا تتحرك انطلاقاً من معايير حقوقية واضحة، بل ضمن توازنات دقيقة، تُمزج فيها الاعتبارات السياسية بالعلاقات الشخصية، بحيث يُطمس الحد الفاصل بين الفاعل والضحية.
في عدد من المناطق، وُثّقت اعتداءات لفظية وجسدية بحق أفراد لا لسبب سوى تعبيرهم عن موقف سابق، أو بسبب صلة قرابة تربطهم بأشخاص منخرطين في منظومة الأسد. وفي حالات كهذه، لم تتدخل اللجنة لفرض أي مسار عدلي واضح، بل تُركت الملفات لتُحلّ عرفياً عبر وجهاء محليين، خارج أي إطار قانوني مؤسسي. الأسوأ من ذلك، أن الحماية الرمزية والقانونية غابت تماماً عن الفئات الأكثر هشاشة، في الوقت الذي كانت فيه اللجنة نفسها ترعى لقاءات مع شخصيات مدانة دولياً، ما يطرح أسئلة جوهرية حول بوصلتها الأخلاقية والسياسية.
وفي مشهد لا يخلو من الدلالات، تولّت اللجنة تنظيم لقاء جمع وزير الثقافة السوري وشقيق الرئيس أحمد الشرع، ضمن مأدبة أقيمت على شرف فرحان المرسومي، وهو اسم مثير للجدل، تحيط به علاقات موثقة مع شبكات المخدرات وبعض الدوائر الأمنية السابقة. لم يكن هذا اللقاء مجرد تفصيل بروتوكولي، بل إشارة واضحة إلى نمط من التمثيل يُكافئ رموز الماضي، ويتجاهل ضحاياه، ما يعمق الفجوة بين الدولة والمجتمع، ويحول “السلم الأهلي” إلى غطاء شكلي لتوازنات غير عادلة.
في المقابل، قدمت تجارب مثل رواندا بعد الإبادة الجماعية نموذجاً مغايراً في إدارة ما بعد الصراع. لجان “الگاشاشا” لم تكن وسيلة للتغاضي أو التسوية، بل بنيت على الاعتراف، وتحديد المسؤوليات، ومواجهة الذاكرة الجمعية بشجاعة. المصالحة هناك لم تكن مخرجاً من الأزمة، بل طريقاً نحو العدالة، ولم تكن الدولة أداة للتجميل، بل حارساً لقيم الإنصاف والتسامح.
أما في سوريا، فحين تُترك المظلوميات الفردية في الهامش، وتُمنح رموز المال الفاسد والسلطة القديمة موقعاً مركزياً في المشهد الجديد، فإن الذاكرة الجمعية لا تجد ما يشير إلى تحول حقيقي. بل تُدار كأرشيف غير مرغوب فيه، يُمسح تدريجياً ليُفسَح المجال لماضٍ يُعاد تجميله بوجوه جديدة.
هذا الاستخدام الانتقائي لفكرة “السلم”، يفرغها من معناها التحويلي، ويُعيد تأطيرها كأداة لإعادة إنتاج النفوذ، لا كمسار لإحقاق الحق. وبدل أن تكون العدالة بوابة للشفاء، تتحول إلى سلعة تفاوضية يُعاد توجيهها وفق موازين القوة، لا وفق موازين الإنصاف.
وفي موازاة هذا المشهد، تتكرّس ممارسات مماثلة في دوائر الدولة الأخرى، حيث تُستقبل شخصيات مصنفة على لوائح العقوبات الدولية بتهم تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، ويُحتفى بها، وتُمنح رمزية الحضور في المشهد الرسمي. في المقابل، تغيب الوجوه الكفوءة، ويُقصى من دفع ثمن مواقفه أو مأساته، ليظل تمثيل الدولة محصوراً في دوائر مغلقة لا تتجاوز حدود العائلة والولاء.
الثورة السورية، بكل ما حملته من آمال وأثمان، لم تكن اعتراضاً على سلطة بعينها، بل على بنية متجذرة من المحسوبية والاحتكار والتمييز. ومع أن الخطاب الرسمي يتحدث اليوم بلغة جديدة، إلا أن البنية التي تُعاد صياغتها توحي بأن التحوّل ما زال سطحياً، وأن الانفصال الحقيقي عن الماضي لم يبدأ بعد.
لا يمكن تبرير التحالف مع رموز الفساد تحت ذريعة الأزمة الاقتصادية، كما لا يمكن التسامح مع تغييب العدالة بدعوى الحاجة إلى الاستقرار. فالعدالة، في سياق ما بعد الصراع، ليست خياراً سياسياً، بل ضرورة وجودية. وغيابها لا يُهدد فقط شرعية الدولة، بل يُقوّض قدرتها على البقاء.
إن مستقبل الدولة السورية، إذا أُريد له أن يكون فعلاً مستقبلاً، لا يُبنى بالتنازلات الرمزية ولا بالموازنات المؤقتة، بل على قاعدة واضحة: لا مصالحة بدون اعتراف، ولا شرعية من دون محاسبة، ولا دولة بدون عدالة. العدالة ليست شعاراً، بل حجر الأساس في عقد اجتماعي جديد، يتجاوز فكرة السلطة بوصفها غلبة، ليؤسس لها كمسؤولية جماعية، تستوعب الذاكرة ولا تتهرب منها، وتمنح المستقبل ما يحتاجه من صدق، لا من تمويه.
- المدن