بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى نيويورك وواشنطن، قبل أيام، نقلت وكالة الأنباء الألمانية خبراً عن اعتقال السلطات السورية لمسؤولين مهمين في حركة الجهاد الإسلامي، خالد خالد وأبو علي ياسر. وقد سبق لإسرائيل أن استهدفت مقرات للمنظمة الفلسطينية المعروفة بعلاقتها الوثيقة مع القيادة الإيرانية، على الأراضي السورية عدة مرات. وإذا كانت هذه العلاقة تسهّل على السلطة في دمشق تبرير قرار الاعتقال، فلا جدال في أن هويتها الفلسطينية المقاومة للاحتلال الإسرائيلي مصدر إحراج كبير لها، وهذا ما جعلها، هي وإعلامها الموالي، تتكتم على الخبر.
واضح من التزامن بين زيارة الشيباني لواشنطن وتنفيذ الاعتقال أنه يهدف إلى استرضاء الإدارة الأمريكية التي سبق وقدمت له لائحة شروط، في بروكسل، من بينها شرط إنهاء الأنشطة السياسية للمنظمات الفلسطينية المعادية لإسرائيل.
أما سبب الحرج فيعود إلى ثقافة سياسية مترسخة في المجتمع السوري حول مناصرة الحقوق الفلسطينية ومعاداة إسرائيل. صحيح أن محاربة إيران وأذرعها ضد الثورة السورية ودفاعاً عن نظام الأسد الإجرامي طوال 14 عاماً قد جعلت غالبية كبيرة من السوريين تتخندق نفسياً ضد «محور المقاومة» وصولاً إلى الشماتة بمصير حزب الله، بعد عقود من التأييد، وإحلال إيران محل إسرائيل في موقع العدو الأخطر، لكن مناصرة الحقوق الفلسطينية ما زالت تتمتع بموقع متقدم في انحيازاتهم سواء بفعل الرابطة القومية العربية أو بسبب الأخوّة في المظلومية، فضلاً عن أن الوجود الإيراني في سوريا قد انتهى، في حين تحضر إسرائيل بفظاظة وقوة في اليوميات السورية.
يضاف إلى هذا الجديد موقف إدارة الشرع من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وضمناً احتلال أراض سورية جديدة في الشريط الحدودي جنوب دمشق وتدميرها لمعظم ما تبقى من مقدرات الجيش السوري المنحل ومواقعه ومطاراته العسكرية، وكذلك تصريحات المسؤولين الإسرائيليين المتعجرفة والاستفزازية تجاه دمشق… فقد تراوحت ردود فعل هذه الإدارة بين الصمت على الاعتداءات والاستفزازات، وإرسال رسائل طمأنة بشأن «عدم وجود أي نوايا معادية تجاه أي دولة مجاورة»، أو في أحسن الأحوال تقديم احتجاجات رسمية للأمم المتحدة بوصفه أضعف الإيمان كما يقال. بالطبع لا أحد في سوريا يتوقع أو يريد مواقف عنترية تجاه إسرائيل من الإدارة الجديدة على غرار ما أدمنه نظام الأسد المخلوع منذ بداية حكمه وصولاً إلى لحظة «طوفان الأقصى». ولكن يبقى أنهم لا يستسيغون أي قول أو عمل من السلطة يهدفان إلى استرضاء إسرائيل كاعتقال القياديين المحليين لحركة الجهاد الإسلامي.
باتت الهيئة مشتتة جغرافياً وضعيفة الإقناع في مجتمعات متنوعة كان مقاتلوها على جهل تام بها. كما أن الانتقال المطلوب منها من منطق الفصيل العسكري الثوري إلى منطق الدولة هو عملية صعبة
على أي حال ليس هذا التطور وحده ما قد تغص به السلطة الجديدة في دمشق مرغمة على استرضاء جميع القوى الخارجية الفاعلة. فكل إجراء يتعارض مع الأيديولوجية السلفية المتشددة أو الهيمنة السنية ينطوي على مضض وإكراه، كحال استمرار تقديم المشروبات الكحولية في بعض مطاعم العاصمة دمشق، أو استمرار ظهور النساء السافرات في الميدان العمومي، برغم التضييق عليهن، أو وجوب الاعتراف بالأقليات الدينية والمذهبية والتعاطي معها، بما في ذلك إدخال أفراد ينتمون إلى تلك الفئات في الحكومة (امرأة مسيحية ودرزي وعلوي).
هذه الإكراهات التي لا شك أنها تلاقي مقاومة من قواعد «هيئة تحرير الشام» وفصائل إسلامية أخرى وشرعييهم، صامتة إلى الآن، أو تخترق ببساطة بلا ضجيج قدر الإمكان، لكنها مرشحة للتصاعد كلما ارتفعت وتيرة الإكراهات التي يشكل الخضوع لها استجابة الإدارة للضغوط الخارجية أكثر منها للضغوط الاجتماعية الداخلية، بهدف كسب اعتراف المجتمع الدولي بشرعية الحكم الجديد.
لقد توسم السوريون خيراً من قرار حل الفصائل في «مؤتمر النصر» الذي انتخب أحمد الشرع رئيساً للجمهورية، لكن التطورات اللاحقة أظهرت أن الفصائل ما زالت محافظة على حالتها التنظيمية إلى حد كبير، وكذا أساسها الأيديولوجي المتشدد، الأمر الذي رأينا نتيجته الكارثية في المجازر التي ارتكبتها في مدن الساحل وقراه بحق المدنيين العلويين، الأمر الذي قوّض كل الجهود السابقة للإدارة للظهور بمظهر مختلف عن ماضيها العنيف والطائفي.
تتقاطع شهادات عدة في تأكيد أن هيئة تحرير الشام قد فوجئت هي نفسها باستيلائها على السلطة خلال 11 يوماً. صحيح أن ناطقين باسمها يؤكدون أنهم كانوا يعدون العدة منذ سنوات لهجوم عسكري كبير يهدف إلى تحرير سوريا، لكن الشهادات المشار إليها لا تمضي في المنحى ذاته على الأقل فيما خص انهيار نظام الأسد بهذه السهولة. وعلى أي حال لا أحد يجادل اليوم في أن التطورات الإقليمية العاصفة المتمثلة في الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان إنما كانت هي العامل الحاسم في انهيار النظام، في إطار نوع من التفاهمات الدولية والإقليمية حول وجوب التخلص منه ولكن ليس حول البديل. فغياب التفاهمات على هوية البديل هي ما يعقل إلى اليوم استقرار الأوضاع في سوريا ونيل السلطة الجديدة الاعتراف بشرعيتها.
لن نبتعد كثيراً عن الحقيقة إذا افترضنا أن الشرع ورفاقه ربما يلعنون الساعة التي تورطوا فيها بالاستيلاء على السلطة في دمشق، بعد سنوات من الحكم السهل نسبياً في منطقة إدلب حيث حكموا مجتمعاً «متجانساً» إلى حد كبير، مع وجود أعداد قليلة من المسيحيين والدروز كـ»أهل ذمة»، وحياة اقتصادية معقولة بالمقاييس المحلية، وجامعات خاصة تطبق نظام الفصل بين الجنسين وتمنح شهادات تخرج بعيداً عن رقابة مركزية تتجاوز سلطة «الهيئة». صحيح أن السنتين الأخيرتين قد شهدتا حركة احتجاجات نشطة نسبيا ضد الهيئة والجولاني بالذات (هذا كان اسمه هناك) لكنها كانت قابلة للاحتواء بيسر. بسيطرتها على مساحات واسعة من «سوريا الأسد» باتت الهيئة مشتتة جغرافياً وضعيفة الإقناع في مجتمعات متنوعة كان مقاتلوها على جهل تام بها. كما أن الانتقال المطلوب منها من منطق الفصيل العسكري الثوري إلى منطق الدولة هو عملية صعبة تتطلب جهداً ووقتاً لا تملك الهيئة مقوماتها. ربما هذا ما يفسر استعانة إدارة الشرع بجوناثان بأول مستشار الأمن القومي في الحكومة البريطانية الذي يقال إنه موجود في سوريا ويعطي استشارات للإدارة بشأن التعاطي الدبلوماسي والتفاوضي مع الدول الأخرى.
كاتب سوري
- القدس العربي