تشير السجلّات الأثرية إلى أنّ مملكة عمري كانت قوّة إقليمية مهيمنة، وكان داوود تابعاً لها. كتب فنكلشتاين: “يتطلّب التأريخ الجديد إعادة تقويم للعمليّات التاريخية والثقافية والسياسية التي جرت في فلسطين بين القرنين الحادي عشر والتاسع قبل الميلاد”، أي “إعادة تقويم” لنشأة إسرائيل القديمة. واتّهم يادين، الذي توفّي عام 1984، وتلاميذه بالتضليل بسبب “مشاعر غير ذات صلة” بشأن “عظمة” إسرائيل القديمة.
لكنّه لم يكن يعرف ما هي المعركة التي يخوضها. أثار بحثه سيلاً من الردود الأكاديمية. كتب زميله عميحاي مزار، أستاذ الآثار في الجامعة العبرية بالقدس، أنّ استنتاجات فنكلشتاين “غير مقبولة”. واتّهمه أمنون بن تور، وهو أيضاً من الجامعة العبرية، باتّباع “معايير مزدوجة”: إذ يستشهد بالنصّ التوراتيّ حيث يناسبه، ويندّد باستخدامه حيث لا يناسبه.
عام 1999، نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية مقالاً على صفحتها الأولى عن هذا التوجّه الجديد المثير للجدل في علم الآثار، بعنوان “الكتاب المقدّس: لا دليل على أرض الواقع”، كتبه زئيف هرتسوغ، زميل فنكلشتاين، وقال فيه: “بعد سبعين عاماً من الحفريّات المكثّفة في أرض إسرائيل، اكتشف علماء الآثار أنّ أفعال الآباء المؤسّسين أسطوريّة، وأنّ بني إسرائيل لم يستقرّوا في مصر أو يخرجوا منها، ولم يغزوا الأرض. ولا يوجد أيّ ذكر لإمبراطورية داوود وسليمان، ولا لمصدر الإيمان بإله إسرائيل. هذه الحقائق معروفة منذ سنوات، لكنّ الإسرائيليين شعب عنيد، ولا أحد يريد سماعها”.
تشير السجلّات الأثرية إلى أنّ مملكة عمري كانت قوّة إقليمية مهيمنة، وكان داوود تابعاً لها
مدرستان متصارعتان
أثار مقال “هآرتس” خلافاً بين مدارس تل أبيب ومدارس القدس، لا يزال قائماً حتّى اليوم. يتفهّم فنكلشتاين الضجّة التي أُثيرت حول نظام المملكة المتّحدة. قال: “الوصف يتحدّث عن مملكة مجيدة، وإمبراطورية شاسعة، ومؤلّفين في بلاط الملك، وجيش ضخم، وفتوحات عسكرية، ثمّ يأتي شخص مثلي ويقول: إنّهم لم يكونوا سوى سكّان ريفيّين سكنوا القدس في منطقة صغيرة، والباقي إمّا لاهوت أو أيديولوجية.. طبعاً، من يعتبر الكتاب المقدّس كلمة الله فسيُصدم تماماً بما أقوله”.
لعقود من الزمن، عكس علم الآثار الإسرائيلي سياسات البلاد: أعاد بناء قصّة غزو غير متوقّع وتوسّع عسكري مذهل. فتح فنكلشتاين المجال لأسئلة أكبر عن كيفيّة تحرّك الشعوب وتشكُّل الدول. قال ويليام شنايدويند، أستاذ الدراسات الكتابيّة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس: “إنّه مفكّر أصيل للغاية، وباحث لامع. ولكنّه أيضاً شخصٌ يسعى إلى الفوز في لعبة البحث العلمي. لذا يُثبت الحقائق على أرض الواقع”.
ألّف فنكلشتاين العديد من الكتب، منها كتابان مع نيل سيلبرمان، الصحافي والمؤرّخ. تُعزّز هذه الكتب اعتقاده بأنّه ينبغي فهم الكتاب المقدّس من منظور الفترة التي كُتب فيها، لا من منظور الأحداث التي يرويها. تبدأ تلك الفترة حوالي عام 722 قبل الميلاد، عندما سقطت مملكة إسرائيل الشمالية العظيمة في يد آشور، ولم يبقَ سوى جارتها الجنوبية الأصغر، يهوذا.
أثار مقال “هآرتس” خلافاً بين مدارس تل أبيب ومدارس القدس، لا يزال قائماً حتّى اليوم
اعتبر فنكلشتاين أنّه عندما استولى الآشوريون على إسرائيل، بدأت موجات من اللاجئين تتدفّق على يهوذا. جلبت هذه الهجرة الجماعية معها الحاجة إلى تكوين هويّة جماعية، مدعومة بـ”حلم عصر ذهبي ماضٍ، حقيقي أو مُتخيّل، حين كان أسلافهم يستقرّون بأمان في أراضٍ محدّدة المعالم، وينعمون بالوعد الإلهي بالسلام والرخاء الأبديَّين”، كما كتب فنكلشتاين وسيلبرمان في كتابهما “اكتشاف التوراة: رؤية علم الآثار الجديدة لإسرائيل القديمة وأصل نصوصها المقدّسة” (The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of Its Sacred Texts)، الصادر عام 2001.
في العقود الأخيرة، دفع نقاش فكرة ما بعد الصهيونية، التي روّج لها بعض المؤرّخين الإسرائيليين ذوي الميول اليسارية، ومفادها أنّ الدولة اليهودية قد حقّقت غرضها، إلى العودة إلى الكتاب المقدّس، وتحديداً إلى نزاع بين معسكرين متعارضين من علماء الكتاب المقدّس يُعرفان بالمبالغين والمقلّلين.
كان المبالغون يعاملون الكتاب المقدّس كحقيقة يمكن التحقّق منها، بينما المقلّلون يعاملونه كخيال: سرد شبه أسطوريّ تمّ تأليفه بين 500 و200 قبل الميلاد، ويجب فهمه في إطار أدبيّ بحت. بالنسبة للمقلّلين، كان داوود اختراعاً، والنقش الذي يحمل اسمه كان على الأرجح مزوّراً. قال المؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند في مقابلة، عام 2012، أشاد فيها بعمل فنكلشتاين: “تماماً كما أنّ مسرحية شكسبير “يوليوس قيصر” لا تعلمنا عن روما القديمة، لا يمكن للكتاب المقدّس أن يعلمنا حقائق تاريخية”.
فنكلشتاين، الذي تدعو نظريّاته إلى إعادة تقويم قصّة داوود، لا التخلّي عنها، يرفض ما بعد الصهيونية والنزعة التقليليّة. يؤرّخ معظم تاريخ سفر التثنية (أسفار التثنية، ويشوع، والقضاة، وصموئيل، والملوك) إلى القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، وهو ما يجعله أقرب بكثير إلى الأحداث الموصوفة. يُبدي ازدراءً خاصّاً للعلماء الذين يدّعون أنّهم وجدوا أدلّة أثرية على صحّة الكتاب المقدّس.
فنكلشتاين، الذي تدعو نظريّاته إلى إعادة تقويم قصّة داوود، لا التخلّي عنها، يرفض ما بعد الصهيونية والنزعة التقليليّة
القصر على منحدر جبل الهيكل
كشفت عالمة الآثار إيلات مزار عن جدران أساس مبنى عامّ كبير، على منحدر من جبل الهيكل (الحرم القدسيّ الشريف) في القدس الشرقية. كان المنحدر معروفاً منذ أوائل القرن التاسع عشر باسم مدينة داوود. يتوافق موقعه بدقّة مع آية في سفر صموئيل تصف قصراً بناه ملك صور لداوود بالقرب من قلعة، وكان اكتشاف “مزار” محاطاً بجدار حجريّ ضخم متدرّج، يعتقد العديد من علماء الآثار أنّه جزء من تلك القلعة.
كان من المستحيل تقريباً تحديد التاريخ بشكل قاطع: فقد كانت القدس مأهولة بالسكّان بشكل مستمرّ تقريباً لمدّة ثلاثة آلاف عام، وكان كلّ جيل يبني فوق الجيل الذي سبقه. لكنّ الباحثة مزار عبر تأريخ شظايا الفخّار الموجودة مباشرة فوقه إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وتلك الموجودة تحته إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد، استنتجت أنّ الهيكل بُني في القرن العاشر قبل الميلاد، وصرّحت في الصحافة العبرية، “لقد وجدت قصر الملك داوود”.
أثار إعلانها غضب فنكلشتاين وثلاثة من زملائه، فزعموا في نقد مُقتضب في مجلّة تل أبيب لعلم الآثار أنّ “الجدران التي حفرتها مزار تمثّل عدّة مراحل من البناء، ولم يكن أيّ منها موجوداً في الفترة التي ادّعت أنّها تعود إليها”.
من جهته، عثر رئيس معهد الآثار في الجامعة العبرية في القدس يوسي جارفينكل في خربة كيافة، على بعد عشرين ميلاً غرب القدس، على طبقة تحتوي على سيراميك أشارت نتائج فحصه في مختبر في أوكسفورد إلى نطاق تاريخي له يراوح بين 1050 و970 قبل الميلاد. فهل كانت كيافة جزءاً من مملكة داوود، كما ادّعى جارفينكل؟
بعد فحص التحصينات، قرّر فنكلشتاين أنّها لا يمكن أن يكون داوود من بناها، وربّما ينبغي نسبها إلى ملك في شمال إسرائيل. اقترح علماء آخرون أنّ الموقع كان فلسطينيّاً، لقربه النسبيّ من الساحل. وقال آخرون إنّه لم يُبنَ على يد اليهود بل على يد الكنعانيين، وهو ما بدا الأكثر منطقيّةً من الناحية الجغرافيّة. رفض جارفينكل هذه الأفكار. بالنسبة له كانت السمات الهيكليّة، جدار ذو أربع غرف، وبوّابتان للمدينة، وفصل واضح بين الوظائف الخاصّة والعامّة، “النموذج” لما أصبح يُعرف بالعمارة اليهودية.
منحت الحكومة الإسرائيلية جمعيّة “إلعاد” المُلكيّة القانونية لحوالي ربع أراضي سلوان، وفي عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أصبحت الراعي الرئيسي للحفريّات الأثرية في القدس الشرقية
مملكة صغيرة
مع ذلك، اتّفق جارفينكل مع فنكلشتاين على أنّ “مملكة داوود” كانت على الأرجح صغيرة، ربّما فقط الخليل والقدس وكيافة التي حدّدها بأنّها مدينة شعاريم التوراتيّة. لكن في تلك المساحة الضيّقة، كما يقول جارفينكل، قاد داوود تحوّلاً سياسيّاً غير مسبوق. ففي منطقة محاطة بدويلات مدن مستقلّة، شكّل ببطء مملكة. بنى مدينة، وأنشأ نظاماً ضريبياً، وأسّس محكمة للكتبة. ولإضفاء الشرعية، أحضر إلى القدس قطعة أثرية قديمة، تُعرف باسم تابوت العهد، ساهمت في ترسيخ عبادة مركزية. شيّد ابنه قصراً كبيراً بما يكفي لتخزين زيت وخمر يكفيان عاماً كاملاً، ومعبداً مبنيّاً من خشب أرز لبنان المغطّى بالذهب.
بحسب جارفينكل: “كان داوود أعظم عبقري عاش بين البحر الأبيض المتوسط والأردن”. ووصف اكتشافه لكيافة بأنّه “ضربة قاضية للحداثيّين”. في عروضه التقديميّة للموقع، درج على تضمين صور لمقبرة، مُصرّحاً بأنّه “دفن” نظريّة فنكلشتاين. فاتّهمه هذا الأخير بالتنقيب على عجل بالجرّافة القديمة وبقراءة مُبسّطة للنصوص التوراتيّة.
منظّمة “إلعاد”: مموِّلة الحفريّات والاستيطان
تعتمد حفريّات علماء الآثار الإسرائيليين على المانحين الذين غالباً ما تكون اهتماماتهم خارج نطاق البحث الأكاديمي. قال شنايدويند، من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، إنّ حفريّات جارفينكل “كانت مؤثّرة، لكنّ تفسيراته أحياناً تكون بسبب الحاجة إلى المال”. فقد موّلت منظّمة تُدعى “فاونديشن ستون”، التي عاش مديرها في مستوطنة بالضفّة الغربية، حفريّات جارفينكل الأولى في كيافة، وتفاخرت بالعودة إلى التاريخ لرسم “الهويّة اليهودية”.
في أوائل التسعينيّات، بدأت منظّمة غير معروفة تُدعى “إلعاد” بشراء منازل عائلات فلسطينية في سلوان والاستيلاء عليها، وإسكان عائلات يهودية مكانها. استخدمت المنظّمة، التي يرأسها قائد عسكري سابق يُدعى ديفيد بئيري، التهديدات والوثائق المزوّرة والتصريحات الاحتيالية في هذه العملية. حين بدأ بئيري بالتنقيب تحت منازل القرية، قال لمجموعة من زوّار الموقع عام 2008: “سألني القاضي: كيف يمكنك الحفر تحت منازلهم؟ فأجبته: أنا أحفر تحت منازلهم؟ لقد حفر الملك داوود تحت منازلهم! أنا فقط أُنظّف”.
منحت الحكومة الإسرائيلية جمعيّة “إلعاد” المُلكيّة القانونية لحوالي ربع أراضي سلوان، وفي عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أصبحت الراعي الرئيسي للحفريّات الأثرية في القدس الشرقية. يعترض فنكلشتاين على تسييس المواقع، لكنّه “لا يرى أيّ سبب، بما في ذلك القانون الدولي، لوقف البحث الإسرائيلي في القدس”. بينما يرى الفلسطينيون الأمر بشكل مختلف. فهم يعتبرون القدس الشرقية عاصمة دولتهم المستقبلية.
في أوائل التسعينيّات، بدأت منظّمة غير معروفة تُدعى “إلعاد” بشراء منازل عائلات فلسطينية في سلوان والاستيلاء عليها، وإسكان عائلات يهودية مكانها
قال جواد صيام، مؤسّس مركز معلومات في سلوان: “الجماعات الاستيطانية في القدس هي المسيطرة”. في العام الماضي، وبعد معركة قانونية استمرّت ثلاثة عقود، أمرت محكمة في القدس عائلة صيام بإخلاء منزلها، فانتقل إليه مستوطنون من جمعيّة إلعاد.
دافع عن عمله يوفال غادوت الذي يرأس أكبر عمليّة تنقيب نشطة في القدس. قال: “تخيّل أنّك تذهب إلى أثينا وما تراه هو منازل الناس، وليس الأكروبوليس”. لكنّ يوناتان مزراحي، مدير مجموعة من علماء الآثار الذين يعارضون التنقيب في الأراضي المحتلّة، قال إنّ منظّمة إلعاد تتجاهل أربعة آلاف عام من تاريخ الشعوب الأخرى لتركّز حصريّاً على التوراة.
قال: “أدركت إلعاد منذ زمن طويل أنّ علم الآثار هو أقوى سلاح لديهم لتبرير الاستيطان اليهودي”. ولم ينتقد فقط المنظّمة وداعميها في الحكومة، بل والباحثين من جامعة تل أبيب، الذين يعتبرهم متواطئين في تدمير المنطقة. قال: “للبحث حدوده، وقد تجاوزنا تلك الحدود بكثير”.
* من مقال مطوّل للكاتبة ذروث مارغاليت، المقيمة في تل أبيب، نُشر تحت عنوان “مبنيّ على الرمال” في عدد 29 حزيران 2020 من مجلّة “نيويوركر” الأميركية.
* جمعيّة إلعاد (بالعبرية هي اختصار لجملة “إيل عير دافيد”، وتعني بالعربية: “نحو مدينة داوود”)، هي جمعية استيطانية يهودية بدأت بالاستيلاء على الممتلكات الفلسطينية في القدس بدعم من الوزارات والجهات الرسمية الإسرائيلية، وطرد سكّانها الفلسطينيين، ونقل الممتلكات إلى المستوطنين الإسرائيليين اليهود.
- أاساس ميديا