قبل أيام، حلّت ذكرى ربع قرن على رحيل حافظ الأسد، الذي يوم أُعلن موته، قام مجلس الشعب السوري بالإجماع بتعديل الدستور واختيار بشار رئيساً، ومُنعِ نائب من التفوه بكلمة ورُمي خارج المجلس. يومها، كانت سوريا، بعيداً من موقفنا إزاء نظامها الاستبدادي، دولة محورية مركزية في الشرق الوسط، لها الكلمة الفصل في لبنان حيث يتنافس السياسيون على مدح أسدها ومسارها ومصيرها وأتفه ضابط فيها. وكانت المحرّك لعدد كبير من القيادات والفصائل الفلسطينية، وعلاقتها قوية بالأردن ودول الخليج وإيران والعراق ومصر، وصراعها مع إسرائيل قائم على التوازنات والخطوط المرسومة.
لكن الوريث البيولوجي المتهور، طبيب العيون الآتي من بريطانيا والملتحق بدورات عسكرية “مكثفة”، والذي لم تكن أمه تحبذ وصوله للحكم على زعم مقربين من النظام، سريعاً ما دمّر ما “بناه” والده في السياسة والاستراتيجيات والاجتماع، وجعل من سوريا ساحة أو بؤرة لا دولة، بل خردة وركاماً وأيتامًا وأمهات ثكالى، ومدناً مدمرة ومشردين ومقابر واسعة ومجازر وفتن متنقلة ومصانع كبتاغون. قال رفيق الحريري ذات مرة بعد اجتماعه ببشار: “صرتُ خائفاً على سوريا وليس على لبنان”، وكان مصيباً في كلامه. ذلك أن ملامح بدايات خراب سوريا، بدأت من سياسة الخَلَف الأسدي في لبنان. فقبل موت الأبدي الأول، أي حافظ الأسد، كان بشار استلم الملف اللبناني واختار الجنرال إميل لحود ليحكم لبنان، ومعه بدأ يصعد التيار الأمني على حساب الدور الاقتصادي، والدويلة على حساب الدولة، وسياسة “النص كم” على حساب المنطق.
وما وعد به بشار من ربيع دمشقي كان مجرد ترغيب عابر، ومَن أخذ ذاك الربيع على محمل الجد وبدأ سعيه فيه، دخل السجن، والمنتديات التي نشطت لأسابيع قليلة أقفلتْ. اجتماعياً، الفقراء ازدادوا فقراً، والمزارعون راحوا ضحية “الإصلاحات” الزراعية التعسفية، وأدار الأسد الإبن وأخواله وأعوانه وزوجته الاقتصاد بمنطق الشريك المضارب، وأطيح الطقم السياسي القديم، فقُتل مَن قُتل، ونُفي من نُفي وسُجن من سُجن، وكانت الذروة في التمديد القسري لإميل لحود العام 2004 ثم اغتيال رفيق الحريري العام 2005. وما طمح إليه الأسد الأب طوال حروبه وفتنه واغتيالاته في لبنان، وتجلى في انتشار جيشه، والسيطرة على القرار اللبناني و”سوريا المجوفة” كما تسمى، سقط في سنوات قليلة. خرج الجيش السوري من لبنان بعد القرار 1559 وتظاهرة 14 آذار 2005، وإن حاول الأسد العودة سياسياً من خلال حرب 2006 ودعم حزب الله، لكنه خسر علاقاته بمحيطه العربي، بسبب تصريحاته الرعناء وسلوكياته غير المسؤولة، في مقابل تقدّم حسن نصرالله الذي شكل بديلاً عن الأب الضائع.
وبدأ دور حزب الله يتصاعد، وسوريا التي كانت حليفة إيران، انجرّت إلى التبعية للولي الفقيه. ولما اندلعت الثورة السورية في 2011، لم يطل الوقت قبل أن يدخل “حزب الله” في حرب القصير وانتشر عناصره في المدن السورية وعلى الحدود. والدولة الأسدية التي كانت لاعبا شرق أوسطياً سرعان ما أصبحت ملعباً دولياً، يؤجِّل سقوط نظامها وجود آلاف المقاتلين من حزب الله وإيران وافغانستان وباكستان وروسيا، عدا عن تحوّل سوريا إلى مركز قواعد عسكرية، روسية، أميركية، تركية، إيرانية،… وسيطر الأكراد على شرق الفرات، ولم يبق نفوذ الأسد إلا في دمشق والساحل، كهيكل عظمي، وصار مفعولاً به لا فاعلاً. ومرّت سنوات، واطمأن الرئيس الكرتوني إلى انتصاره واحتفى به، ورفض أن يقابل الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لأنه لا يريد أن يتناول المشروبات الغازية أو الليموناضة، وحصلت حرب 7 أكتوبر و”حرب الإسناد”، فكان الأسد غير معني بما يجري. تلقى حزب الله ضربات قاسية، كثر يربطون بين تمدّد حزب الله في سوريا وانكشافه أمنياً، ووصلت الأمور إلى مقتل عمود محور الممانعة، حسن نصرالله، فرثاه الأسد كأنه لا يعرفه.
ومع انتهاء حرب الإسناد، بدأ هجوم “ردع العدوان” من قبل هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، وسقط النظام الأسدي خلال أيام. هنا يقف الممانعون في عجز عن تفسير ما حصل، وبقدر عدم تصديقهم لسقوط بشار الأسد ونظام نصف قرن، خلال أيام قليلة، كان عدم تصديقهم لصعود أحمد الشرع، الرجل الجهادي، إلى القمة وجلوسه في قصر الشعب. فالرجل المولود في السعودية والناشئ في حي المزة بدمشق، وطالب الطب الذي لم يستكمل دراسته، انتقل إلى العراق لمقاومة الغزو الأميركي العام 2003، أي في المرحلة عندما بدأ بشار يأخذ سوريا إلى انحدار علاقاتها بالدول، وأدى به ذلك في نهاية المطاف إلى السجن العراقي سيء السمعة الذي تديره الولايات المتحدة باسم معسكر بوكا. وبعد إطلاق سراحه، عاد الشرع إلى سوريا وبدأ القتال ضد نظام الأسد البعثي، وأسس جماعة مسلحة عُرفت باسم جبهة النصرة وتعهدت بالولاء لتنظيم القاعدة. لكنه، في العام 2016، انفصل عن الجماعة الإرهابية.
والرجل الذي عاش التيه ونام في الكهوف، كان صعوده أشبه بمسلسل، أو أن هناك سردية تؤرخ صعوده، لكن حتى الآن تصعب معرفة كواليس هذا الصعود أو رسمه بدقة. كان لقبه “أبو محمد الجولاني”، وعاش مثل الأشباح، فسرعان ما صار صوتاً بلا وجه، يحكي للكاميرا من دون أن نراه، ولاحقاً كشف عن كامل هويته وزيه الجهادي، ثم ذاع صيت انشقاقه عن تنظيم القاعدة وتعاونه مع الأميركيين ضد تنظيم داعش، وهذه تفاصيل تبقى تخمينات صحافية. ومع بدء معركة “ردع العدوان”، ظهر بثياب عسكرية تشبه تلك التي ارتداها الرئيس الأوكراني زيلينسكي، وصار قميصه ترند في محل الألبسة، ووصل إلى دمشق بأسرع من المتوقع. تخلّى عن لقبه الجهادي، عاد إلى اسمه الطبيعي وارتدي الثياب الرسمية الغربية، البدلة وربطة العنق، ولم يبق من مظهره القديم سوى لحيته. هنا، وبسبب الأحداث الميدانية المتسارعة في سوريا، اعتبر بعض المحللين أن سوريا تعيش بين أحمد الشرع و”أبو محمد الجولاني”.
المهم أن الشرع كان سريع التحول في مقابلاته مع القيادات العربية والغربية وكثير الديناميكية والابهام، الأمر الذي أحدث بلبلة إعلامية وصار المحللون عاجزين عن الإمساك بما يفكر فيه الرئيس السوري المؤقت الذي قاد معركة اسقاط بشار الأسد. وأربك المشهد عندما لم يصافح وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، وقبلها طلب من فتاة أرادت أن تتصور معه أن تغطي شعرها، فاعتبر كثر أنها إشارات إلى توجه سياسي وإيديولوجي من الشرع الذي سرعان ما زار قصر الإليزيه في فرنسا وعدداً من الدول العربية. والرجل الذي كان مطلوباً لأميركا، عاد فالتقى، في السعودية، الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي وصفه بأنه “شاب جذّاب” و”رجل قوي” يتمتع بـ”ماضٍ قوي جداً”، أثمر اللقاء عن فك العقوبات الأميركية عن سوريا، بغض النظر عن التفاصيل الداخلية في سوريا، وأنماط السياسات الأمنية، ومنَ أُوقف أو أطلق سراحه ضمن الحفاظ على السلم الأهلي، ومَن يُحاكم ضمن مبدأ العدالة الانتقالية، ومَن يُسمح لهن بارتداء البكيني ومَن عليهن الالتزام بالبوركيني.
بدأت التحليلات والفيديوهات من كل حدب وصوب: مَن “صنع” أحمد الشرع، مَن دربه، ومَن علّمه الإنكليزية، ومَن أعاد تأهيله سياسياً…؟ وزاد الطين بلة، السفير الأميركي السابق روبرت فورد. ومثل كل الشخصيات الجدلية في الشرق الأوسط، صرنا نسمع الأقاويل البوليسية والخنفشارية والروايات حول جمعية بريطانية، ومرات عن امرأة يهودية في القصر، ومرات ومرات عن مؤسسات دولية وتركية وخليجية… حتى ليخمّن المرء أن بعض ناقلي القصص يعيشون مع أحمد الشرع وفي مكتبه وبيته، ويعرفون مَن جلس معه والتقاه، وأي كتاب قرأ.
يعترف بعض المحللين بالضياع في توصيف الشرع ومعرفة وجهته ومساره والقالب أو الإطار الذي يجلس فيه. جل ما يستنتجونه أنه براغماتي، والضياع ناتج عن ماضي الشرع من جهة، والتحركات الدراماتيكية التي يقوم بها من جهة ثانية. وهو الواقع بين الطموح الليبرالي والواقع الديني، بين النقاب وستاربكس.