تغيّرت دمشق، بحسب تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز”، التي جال مراسلوها “في أزقّة دمشق القديمة الحجريّة التي تعود للعصور الوسطى، حيث تنتشر بعض الحانات بين الكنائس والمساجد ومحلّات التحف، وكانت ليالي الخميس معروفة بالحفلات، وكان بإمكان غير المتديّنين من مسلمين وغير مسلمين في العاصمة ارتداء ما يشاؤون، والرقص كما يحلو لهم”.
على الرغم من أنّ حكومة أحمد الشرع لم تصدر أيّ قوانين تُقيّد شرب الكحول أو سماع الموسيقى أو الاختلاط بين الجنسين، ولم تُلزم النساء بارتداء الحجاب أو تُقيّد حقوقهنّ، يسود جوّ من التحفّظ الديني في دمشق، وفقاً لحديث عدد من السكّان للصحيفة. إذ نادراً ما اختلط الدمشقيون من مختلف الأعراق لسنوات بالسوريّين المتزمّتين من بقيّة أنحاء البلاد. أمّا الآن فقد سيطر فجأة بعض من أكثر أفراد المجتمع السوري تديّناً على بعضٍ من أكثر فئاته تحرّراً اجتماعيّاً. أثار هذا التغيير حماسة المسلمين السنّة المتديّنين في العاصمة، لكنّه هزّ السوريّين العلمانيّين والأقليّات الدينية في البلاد. وعلى الرغم من امتناع الحكومة الجديدة عن فرض قيود صارمة على الحرّيات الاجتماعية، دفع التمكين المفاجئ للمتشدّدين والأجواء المحافظة المتزايدة الليبراليّين إلى الحدّ من سلوكهم خوفاً ممّا قد يأتي لاحقاً. وهم يخشون أن تفرض الحكومة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع حكماً إسلاميّاً على البلاد.
سوريا “أفغانستان” أخرى؟
“ماذا أصبحنا الآن؟ أفغانستان؟”، تسأل نيفين توروسيان (40 عاماً)، وهي شريكة مسيحية في ملهى “تيكي بار”، أحد أركان الحياة الليلية في دمشق القديمة. وتروي للصحيفة أنّه في إحدى ليالي ربيع هذا العام، كانت إحدى الحفلات في أوجها عندما وصلت مجموعة من الرجال المسلّحين التابعين للحكومة، وأمروا بوجوهٍ غاضبةٍ بإنهاء الحفل، وقد عادوا مراراً لمضايقتها بشأن الحفلات.
بحسب توروسيان وأصحاب حانات أخرى، أصبحت معظم الحانات في دمشق القديمة شبه فارغة.
وعدت الحكومة الجديدة باحترام التعدّديّة في جميع أنحاء سوريا. إلّا أنّ الرئيس الجديد، بحسب تقرير الصحيفة، ركّز السلطة في دائرة ضيّقة من الحلفاء، وعيّن في الحكومة وأجهزة الأمن سوريّين من إدلب، وفشل في وقف الهجمات الدامية على الأقليّات. وأصدرت الحكومة لائحة لباس تُلزم النساء بارتداء ملابس سباحة محتشمة وملابس فضفاضة على الشواطئ العامّة. وفي الأماكن العامّة، نصّت اللائحة على تغطية الكتفين والركبتين وتجنّب “الملابس الشفّافة أو الضيّقة جداً.” وبعد الضجّة التي أثارها القرار على وسائل التواصل الاجتماعي، أوضح مساعد وزير السياحة، غيّاث الفرح، على التلفزيون أنّ القرار لا يتضمّن سوى إرشادات تُراعي “الفئات الاجتماعية” المختلفة، في إشارة إلى السوريين المحافظين.
دمشق مختلفة
بحسب الصحيفة، كانت جماعة البعث الحاكمة التي هيمنت عليها عائلة الأسد لفترة طويلة، تروّج للعلمانيّة للحفاظ على السلطة. ساعد قمع المظاهر الإسلامية عائلة الأسد في الحفاظ على دعم الأقليّات التي كانت تخشى أن تهيمن عليها الأغلبيّة السنّية. لكن منذ كانون الأوّل، امتلأت دمشق بزوّار وقادمين من أماكن أخرى في سوريا، كثير منهم يحملون قيماً أكثر تحفّظاً بكثير. وبات قدامى المحاربين في الإدارة المتشدّدة في إدلب يديرون الآن مكاتب الحكومة ومراكز الشرطة في العاصمة، وحلّت قوات الأمن ذات الزيّ الأسود والمكوّنة من متمرّدين سابقين محلّ جيش الأسد. وانتشرت موضة اللحى الكثيفة على طراز المتمرّدين في المدينة بعد الإطاحة بالنظام.
قالت ماريا قداح (27 عاماً)، وهي مسلمة من أبوين سنّي وشيعي، وعملت حتّى وقت قريب رئيسة قسم التسويق في شركة استيراد كحول وتفضّل ارتداء السراويل القصيرة على الحجاب: “لدينا هنا كلّ الأديان. لم نتجاوز أبداً هذا الخطّ من التعايش.. الآن نرى وجوهاً جديدة تقول لك بصراحة: نحن لا نقبل وجودك على الإطلاق”.
وفقاً للتقرير، تشعر بعض النساء العلمانيّات وغير المسلمات بالضغط لارتداء ملابس أكثر احتشاماً. عند نقاط التفتيش الأمنيّة، يذكرن أنّهن تعرّضن لأسئلة متطفّلة وما إذا كنّ مع رجال لا تربطهنّ بهم صلة قرابة. قالت مي صالح (37 عاماً)، وهي علويّة لا ترتدي الحجاب: “لم يعتادوا رؤيتنا نرتدي ما نريد، لذا الأجواء متوتّرة بيننا”.
لكنّ رضا جدو (27 عاماً)، وهو متمرّد سابق من إدلب يعمل في نقطة تفتيش في دمشق، يصرّ على القول إنّ “السلطات الجديدة لا تخطّط لفرض معتقداتها على السوريّين الآخرين. نحن نحترم حقّ كلّ شخص في أن يفعل ما يشاء”. غير أنّه يضيف: “أنا، شخصيّاً، أفضّل أن تكون النساء أكثر احتشاماً”.
يفضّل العديد من السوريّين المتديّنين بعض التغييرات الأكثر تحفّظاً. بحسب التقرير، في المسجد الأمويّ القديم، بدأت إدارة الجامع فصل الرجال عن النساء في الفناء بحواجز معدنية. كان يُفصل بينهما سابقاً في قاعة الصلاة فقط. أمينة الحوراني (25 عاماً)، دمشقيّة كانت تزور المسجد، وصفت الفصل بأنّه “جيّد جدّاً” لحمايتها من تحرّش الرجال. وقالت: “نشعر براحة أكبر الآن”.
منذ سقوط الأسد، أصبح من الشائع رؤية النساء في دمشق يرتدين النقاب. قالت شام عطايا (24 عاماً)، وهي طبيبة في مستشفى عامّ، إنّها تؤيّد حقّ المرأة في ارتداء النقاب، لكنّها تشعر بالقلق من التهديدات التي تواجه الحرّيات الاجتماعية الأخرى. ترتدي الدكتورة عطايا الحجاب، لكنّها كانت تذهب سابقاً إلى الحانات مع صديقاتها. لم تعد تفعل ذلك. قالت: “لأنّني مسلمة، يمكن الحكم عليّ. لا يوجد قانون، لكنّك تشعر وكأنّ هناك قانوناً”.
- أساس ميديا