لا يمكن كسب الحروب التي لا هدف سياسيّاً واضحاً لها، ولا يمكن إنهاؤها، يقول القائد السابق للبحريّة الإسرائيلية، فبعد أكثر من 22 شهراً من شنّ جيش الدفاع الإسرائيلي حملةً للقضاء على “حماس”، لا تزال إسرائيل تفتقر إلى نهاية سياسية محدّدة. وأدّى غياب أيّ رؤية إسرائيلية طويلة المدى إلى حالة فوضى مستمرّة في إسرائيل وغزّة والمنطقة بأسرها. وكلّما طال أمد الفراغ في التخطيط الإسرائيلي، زادت الحاجة إلى تضافر الجهود الدولية لمنع وقوع كارثة أسوأ من تلك التي تشهدها المنطقة حالياً. كانت الحرب التي أعقبت 7 أكتوبر/تشرين الأوّل عادلة. اليوم، أصبحت غير عادلة وغير أخلاقية وذات نتائج عكسيّة، حيث تحوّلت مسؤولية الكارثة الإنسانية في غزّة من “حماس” إلى إسرائيل.
تغيّر المشهد
يعتقد أيالون، وهو مؤلّف كتاب “النيران الصديقة: كيف أصبحت إسرائيل أسوأ عدوّ لنفسها؟”، أنّ المشهد الاستراتيجيّ للشرق الأوسط تغيّر بفعل حدثين:
1- الربيع العربي الذي غيّر الديناميكيات الداخلية للعديد من أنظمة الشرق الأوسط بشكل جذري، فأجبر قادتها على أن يصبحوا أكثر استجابة لمشاعر جماهيرهم. وكان ينبغي على القادة الإسرائيليين والأميركيين أن يدركوا أنّه على المدى البعيد سيؤثّر الربيع العربي على كيفيّة استجابة مجموعة متنوّعة من الجهات الفاعلة الإقليمية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. إذ لطالما شكّلت القضيّة الفلسطينية راية موحّدة للجهات الفاعلة المتباينة، وكانت بمنزلة نقطة التقاء ومصدر شرعيّة في العالم الإسلامي الأوسع.
الربيع العربي الذي غيّر الديناميكيات الداخلية للعديد من أنظمة الشرق الأوسط بشكل جذري، فأجبر قادتها على أن يصبحوا أكثر استجابة لمشاعر جماهيرهم
2- هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأوّل الذي بعث برسالة سياسية متعمّدة تتحدّى بشكل مباشر مبدأ “إدارة الصراع” الذي حدّد سياسة إسرائيل في عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لأكثر من عقد. وكان بمنزلة توبيخ للافتراضات الأميركية بأنّ الدول العربية ستواصل تطبيع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل دون بذل جهود جادّة لحلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. شجّع هذا الخطأ الاستراتيجي إسرائيل على تعميق سيطرتها على الضفّة الغربية، من خلال التوسّع الاستيطاني وتهجير المجتمعات الفلسطينية، وإضعاف السلطة الفلسطينية. وسمح لحركة حماس بملء الفراغ السياسي في غزّة وتهميش السلطة الفلسطينية المُعاقة، وتصوير نفسها على أنّها المدافع الوحيد عن حقوق الفلسطينيّين. أعاد الهجوم والحملة العسكرية الإسرائيلية اللاحقة تعريف الحسابات السياسية لحكّام المنطقة الآخرين، وسلّط الضوء على حقيقة أنّ الرأي العامّ، حتّى في الأنظمة الاستبدادية، أصبح قوّة لا يستطيع القادة أن يتجاهلوها.
بحسب أيالون، تقف إسرائيل الآن عند مفترق طرق تاريخي. أحد المسارين هو المسار الذي تسلكه الآن وسيقودها نحو تآكل معاهدات السلام الحالية مع مصر والأردن، وتعميق الاستقطاب الداخلي والعزلة الدولية، وسيشجّع على مزيد من التطرّف في المنطقة، ومزيد من العنف الديني-القومي، ويزيد من تراجع الدعم لها بين صانعي السياسات والمواطنين الأميركيين، ويفاقم معاداة السامية في جميع أنحاء العالم. لكن لاختيار المسار الآخر الذي يعزّز أمن الإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء، ويعزّز الاستقرار والازدهار في جميع أنحاء الشرق الأوسط، يجب على إسرائيل التوجّه نحو اتّفاق إقليمي يتضمّن حلّ الدولتين قابل للتطبيق.
بدأت آثار المبادرة التي أطلقها الأمير محمّد بن سلمان وليّ عهد السعوديّة لإحلال السلام في الشرق الأوسط استناداً إلى حلّ الدولتين تظهر في الداخل الإسرائيلي
العودة إلى مبادرة السّلام العربيّة
يرى أيالون أنّ الحلّ بمبادرة السلام العربية، “فلا تزال مبادرة السلام العربية لعام 2002، التي طرحتها السعوديّة وأقرّتها جامعة الدول العربية، الإطار الأكثر شمولاً ونفاذاً إلى الحلّ. واشتملت على عنصرين أساسيَّين: هدف نهائي واضح هو إقامة دولتين على أساس حدود عام 1967 مع تبادل متّفق عليه للأراضي، ومشاركة إقليمية كاملة في عملية التفاوض. مثّلت هذه المبادرة انقلاباً على إعلان الخرطوم لعام 1967 الصادر عن جامعة الدول العربية، إذ تحوّلت “اللاءات الثلاث” الشهيرة، لا سلام، لا اعتراف، لا مفاوضات، إلى نعم إقليمية جماعية.
يعتبر أنّه يمكن اليوم للإسرائيليين فهم المبادرة على أنّها انتصار استراتيجيّ: تتويج لعقود من الجهود الدبلوماسية والعسكرية التي أسفرت عن اعتراف عربي واسع بحقّ الدولة اليهودية في الوجود. وبالنسبة للفلسطينيّين، وبعد أكثر من 140 عاماً من النضال، ونكبة عام 1948، والانتفاضات الشعبيّة ضدّ الاحتلال، والثمن الباهظ للحروب المتتالية، سيُقدّم الإطار الذي اقترحته مبادرة السلام العربية اعترافاً طال إنكاره بالهويّة الوطنية وإقامة الدولة. والأهمّ من ذلك، أنّه لا يتناول الحدود والسيادة فحسب، بل يتناول أيضاً هيكل الأمن الإقليمي الضروري لتحقيق سلام دائم.
يقارب أيالون خارطة الطريق التي صدرت عن مؤتمر “حلّ الدولتين” في نيويورك فيقول: “حان الوقت للجهات الفاعلة الدولية للمضيّ قدماً في عمليّة واقعيّة ومتدرّجة، مستوحاة من مبادرة السلام العربية، بالإضافة إلى المقترحات المصريّة، والمقترحات الفرنسية السعودية الأحدث، وتتضمّن:
1- إصدار أوسع مجموعة ممكنة من الدول، بما في ذلك الولايات المتّحدة والسعوديّة والدول العربية المعتدلة، إعلاناً مشتركاً واضحاً: الهدف هو دولتان ذواتا سيادة، إسرائيل وفلسطين، تعيشان جنباً إلى جنب في سلام واعتراف متبادل.
2- أن تكون الخطوة العمليّة الأولى هي تحقيق وقف إطلاق النار في غزّة وإطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين الباقين.
أظهرت إسرائيل قدرتها على الدفاع عن نفسها وردع أعدائها. لكنّ القوّة وحدها لا تستطيع تفكيك شبكة وكلاء إيران
3- يمكن لحكومة فلسطينية مؤقّتة تكنوقراطيّة، تحت إشراف أميركي سعوديّ، أن تتولّى الشؤون المدنية في غزّة، بينما يمكن لقوّة أمنيّة عربيّة إقليميّة، ربّما تحت إشراف جامعة الدول العربية أو تفويض متعدّد الأطراف، أن تحافظ على النظام.
4- يمكن للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة، إلى جانب المنظّمات الدولية الرئيسية، قيادة إعادة إعمار غزّة على نطاق واسع.
5- يمكن لقوّات السلطة الفلسطينية نزع سلاح “حماس” تدريجاً بدعم إقليمي.
6- يجب في غضون 18 إلى 24 شهراً من وقف إطلاق النار، إجراء انتخابات بإشراف دولي في الضفّة الغربية وغزّة، بهدف تشكيل حكومة فلسطينية شرعيّة موحّدة قادرة على تمثيل شعبها في مفاوضات الوضع النهائي.
7- مستندة إلى مبادرة السلام العربية، ومسترشدة بالقرارات الأممية القائمة، ومنفّذة بوساطة دولية قويّة، ستحدّد الاتّفاقية النهائية الحدود الدائمة، متضمّنة تبادل أراضٍ بناءً على الأمن والديمغرافيا والاستمرارية الإقليمية. وستضع ترتيبات أمنيّة، وتتفاوض على حلول للإسرائيليين الراغبين في الإقامة في فلسطين والفلسطينيين الراغبين في العيش في إسرائيل، وتقرّر وضع اللاجئين الفلسطينيين ووضع القدس، وتؤكّد الاعتراف المتبادل.
8- استناداً إلى مبادرة السلام العربية، وإلى قرارات الأمم المتّحدة الحالية، وبوساطة دولية قويّة، سيحدّد الاتّفاق النهائي الحدود الدائمة، بما في ذلك تبادل الأراضي على أساس الأمن والديمغرافيا واستمرارية الأراضي. وسيحدّد الترتيبات الأمنيّة، ويتفاوض على حلول للإسرائيليين الراغبين في الإقامة في فلسطين والفلسطينيين الراغبين في العيش في إسرائيل، ويقرر وضع اللاجئين الفلسطينيين والقدس، ويؤكد الاعتراف المتبادل.
بحسب أيالون، تقف إسرائيل الآن عند مفترق طرق تاريخي. أحد المسارين هو المسار الذي تسلكه الآن وسيقودها نحو تآكل معاهدات السلام الحالية
9- في عمليّة موازية، يجب الاستفادة من الإنجازات العسكرية لإسرائيل والولايات المتّحدة لإطلاق مفاوضات شاملة مع إيران لمنعها من حيازة أسلحة نووية. ويجب على الاتّحاد الأوروبي والأمم المتّحدة والصين وإسرائيل والمملكة العربية السعودية (بصفتها ممثّلة للجامعة العربية) والأمم المتّحدة تنسيق هذه العملية وإقامة عمليات تفتيش دولية صارمة.
يخلص أيالون إلى القول: قوّة “حماس” تعتمد على اليأس. إنّها تزدهر في غياب البدائل. ولكن إذا تمّ تقديم مسار موثوق به ومدعوم دوليّاً لإقامة دولة فلسطينية، فإنّ جاذبيّة “حماس” ستنهار. أظهرت إسرائيل قدرتها على الدفاع عن نفسها وردع أعدائها. لكنّ القوّة وحدها لا تستطيع تفكيك شبكة وكلاء إيران ولا توفّر لإسرائيل وأجيالها القادمة السلام والأمن الدائمين. إنّ اتّفاقاً إقليميّاً يحظى بدعم دوليّ قويّ، ويُفضي في النهاية إلى حلّ دولتين قابل للتطبيق، هو وحده القادر على الحفاظ على أمن إسرائيل وهويّتها اليهودية الديمقراطية، وإنهاء دوّامة العنف، وتحويل الشرق الأوسط من ساحة معركة إلى منطقة تعاون. وهذه ليست نظرية مثالية طوباوية، بل هي في مصلحة الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة. وقد أصبحت بالنسبة لإسرائيل ضرورة استراتيجيّة.
- أساس ميديا