لا تُحلُّ المشكلات دائمًا انطلاقًا من التفكير في كيفية بناء التحالفات والولاءات والتوافقات فحسب، لأن هذا النوع من البناء قد لا يكون مُمكنًا في أحيانٍ كثيرة بحكم طبيعة البشر، وحينها لا تكون الحلول في الاتفاقات، بل تكون انطلاقًا من التفكير في بناء فن الخصومات، وتحكيم العقل والسياسة في الخصومة بدلًا من البندقية، والكلمة الطيبة بدلًا من الشتائم والإهانات، والسلم والحوار بدلًا من الحرب؛ فالبشر بطبيعتهم مختلفون، ولا ينبغي أن تكون طبيعتهم هذه سببًا لموتهم، ووسيلةً لإعدام اجتماعهم السياسي، بل ينبغي أن تكون سببًا لحياتهم الكريمة في وطنٍ يجمع اختلافهم، لأن الاختلاف مادة الوطن، وضرورة السياسة. والخصومة الشريفة هي جوهر التعاقد الاجتماعي، الذي يصنع المفهوم السياسي للوطن.
في سوريا ثمة عددٌ مِمَّن لا يزالون يمتلكون الجرأةَ على استعمال عقولهم، وممَّن لم تتمكَّن النعرة من الانتصار على ذواتهم الحرَّة. أولئك هم الذين نجوا، أو حرَّروا أنفسهم وعقولهم من سجون الهوية الطائفية، أو الإثنية، أو القبلية، ومن أسر النعرة والعصبية، وانطلقوا إلى رحاب الاختلاف، وأفق العقل الواعي القادر على تربية الضمير واحتماله واحتضانه. ويدرك هؤلاء أن مشكلاتنا ليست في غياب القدرة على التجانس، والتطابق في الآراء، والعقائد، والتوجهات، والعادات، وإلى ما هنالك؛ بل المشكلة، على العكس من ذلك، تكمن في غياب القدرة على الخصومة الشريفة، ذات الجذر السياسي والأخلاقي.
حين يصغي أحد هؤلاء الناجين، إلى خصوم “قسد”، على سبيل المثال، يوشك أن يلين نقدُه لها، كي لا يرفع من شأن ركاكة البعض من خصومها، وهذا شعورٌ يراود الكثير منَّا حين نسمع على سبيل المثال سخريةَ بعض خصوم قسد من فكرة حقوق المرأة وحريتها، وكأن هذه السخرية بوابةٌ لعداء قسد.
وحين يستمع المرء من هؤلاء الناجين إلى خصوم الهجري، يساوره الشعور نفسه، فيوشك أن يتلطَّف في نقدهِ للهجرية كي لا يجمِّل ضَعف خصومها، ومنهم على سبيل المثال من يرون في شيطنة طائفةٍ كاملة، وقتل أبنائها، “فعلًا وطنيًا” ضد الهجرية.
وحين ينصت المرء إلى خصوم الشرع، يتكرر المشهد ذاته، فيميل إلى التلطُّف في نقد السلطة كي لا يُسخَّر هذا النقد في دعم ركاكة بعض أعدائه، أولئك الذين قرَّروا أن عداء هذه السلطة يعني العودة إلى التمترس الطائفي، وصولًا إلى الانفصال والتبعية لإسرائيل – مثلًا.
نحن السوريين نحصد الآن حصيلةَ إخفاقنا في ميدان السياسة طوال أربعة عشر عامًا، وأهم أوجه هذا الإخفاق هو الفهم الخاطئ للوحدة، وكأنها التجانس الذي أراده الأسد البائد.
غير أن الكارثة تكمن في أنَّ المرء، إذا همَّ بالتلطُّف في نقد أحدهم، انكفأ سريعًا؛ لأنَّه ما إن يتخذ قرار التلطُّف هذا حتى يجد نفسه أميلَ إلى جمعٍ كبيرٍ من “المُطبِّلين”، حيث لا يمكن البقاء بينهم من دون التنازل عن الحرية، والضمير في أحيانٍ كثيرة، ويُشتم عند أدنى خروجٍ عن “الإجماع”.
في سوريا اليوم حفلُ تعذيبٍ جماعيّ، ضحاياه أولئك الذين تجرؤوا على استعمال عقولهم، والفنانون في بناء الخصومة باحترامٍ، وشرفٍ، وسياسيةٍ، وضمير. هذه الخامة من الفنانين هي جوهر الوطن والمواطنة، ومادتهما الأولية، وهي التي تصنع الحلول في مثل هذه الأزمات. إذا ماتت هذه الخامة تحت هذا التعذيب، لن يبقى في المستقبل أفقٌ لابتكار وطن، ولا فرصةٌ للسلام الدائم.
نحن السوريين نحصد الآن حصيلةَ إخفاقنا في ميدان السياسة طوال أربعة عشر عامًا، وأهم أوجه هذا الإخفاق هو الفهم الخاطئ للوحدة، وكأنها التجانس الذي أراده الأسد البائد، فيما الوحدة لا تكون إلا باحترام الاختلاف، والاختلاف هو الضامن الوحيد للسلام. لبسط هذه الفكرة أكثر نعود إلى الواقع، ولنفكِّر في نوعين من البشر منتشرين بكثرة هذه الأيام، وقد ملؤوا الدنيا ضجيجًا:
النوع الأول يقول إنَّه ديمقراطي حداثي، وعلماني، ويريد دولة مدنية، ولكن إذا قرأ لأحدهم نقدًا للهجري، أو لمظلوم عبدي، حتى ولو كان في النقد نفسه تجريمًا للسلطة، انهال على صاحبة بأوسخ الشتائم والإهانات، وكأنّه لم يسمع في حياته أن الحداثة، وما أفرزته في حقلها الدلالي من ديمقراطية وعلمانية وحقوق إنسان وإلى ما هنالك، قد بُنيت على الأخلاق، وعلى الجماليات، أو ما يسميه الفيلسوف الفرنسي شارل بودلير الداندزم (Dandysme) بما يتضمنه هذا المفهوم من مقاومة الابتذال الاجتماعي، ومقاومة ذوبان الفرد في القطيع، حيث لا يكون الفرد حداثيًا من دون أن يحافظ على مسافة جمالية، وكرامة شخصية، في مواجهة العالم، وبما يتضمنه من جمالٍ، وإحساسٍ مرهف، وكلمة طيبة، وذوق، وأسلوب راقٍ يعكس جمال الروح. ولكن يبدو أن صاحبنا وجد في الحداثة لحافًا سميكًا يغطي فيه تعصبًا يحتقر العقل والحداثة.
النوع الثاني يقول إنَّه إسلامي، ومع حق المسلمين في حكم البلد بوصفهم أكثرية، ولكنَّه قادرٌ على التغاضي عن جرائم المتطرفين بحق أبناء السويداء الآمنين الأبرياء، لأنهم من طائفة الهجري، وكأن تكوينه الإسلامي لم يعطه الفرصة في حياته ليلتقي، ولو مرةً واحدة، مع وصيَّة أبي بكر لجيش أسامة، المأخوذة من توجيهات النبي (ص) في آداب القتال: “لا تخونوا، ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له”.
هذا المشهد لا يبني وطنًا، بل لا يبني مُجتمعًا، إنّه يبني جمعًا كبيرًا لا يُفكِّر، ولا يحترم الذين يفكرون، إنّه يقتل الجرأة على استعمال العقل، ومن ثم يقتل الإنسان.
باختصار، يمثل هذان النوعان طريقةً في الخصومة غيرَ شريفة، وغيرَ سياسية، وهدَّامة، وكارثية؛ فخصومة السلطة مع الهجري خصومةٌ غير شريفة، وخصومة الهجري مع السلطة خصومة غير شريفة. الأولى انتقمت من الهجرية يقتل الأبرياء لأنهم دروزٌ فحسب، وارتكبت في حقهم أبشع صور الإجرام والظلم، وحرقت منازلهم وأهانت شيوخهم، والثانية أدارت انتقامًا أخلاقيًا من مفهوم الآخر غير الدرزي لتُعبِّر عن خصومتها للسلطة، فطردت البدو وقتلت أبرياء منهم، وتمادت في التباهي في التحالف مع قتلة الأطفال في غزة. وعند تعميم هذا النوع من التفكير في اقتفاء أثار الخصومة غير الشريفة في سوريا، سنجد اليوم، يا للأسف، أمثلةً كثيرةً عليها تملأ الدنيا، وتصبح تدريجيًا عنوانًا لخصومة الرأي مع الرأي الذي لا يعجبه، وهذه دوَّامة.
هذا المشهد لا يبني وطنًا، بل لا يبني مُجتمعًا، إنّه يبني جمعًا كبيرًا لا يُفكِّر، ولا يحترم الذين يفكرون، إنّه يقتل الجرأة على استعمال العقل، ومن ثم يقتل الإنسان.
- تلفزيون سوريا