
جزائرية تنسج صوف الجمل لصنع قماش القشابية (أ ف ب)
ملخص
في هذا الزمن الذي كانت فيه نخبنا الدينية منسجمة مع واقعها وعاداتها وثقافتها ولباسها وأكلها، كنا نعيش ديننا ونمارسه بكثير من العفوية والصدق من دون الحديث فيه أو عنه، كنا نعيش ديننا بإيمان من دون الخوف من قنابل الفتاوى التي نراها تسقط اليوم على رؤوس المؤمنين من كل الجهات متناقضة ومتصارعة ومتسابقة في الغلو، كنا منسجمين مع ديننا وفيه ضمن تقاليدنا وأخلاقنا وثقافتنا وعاداتنا.
كلما تأملت هذا الحديث النبوي الشريف “بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء”، وأنا أعاين في الوقت نفسه ما يجري حولنا من شؤون المسلمين المتأزمة وحال نخبهم السياسية والفكرية الغارقة في التشرذم والصراعات والنزاعات، وقد جعلوا من دينهم تجارة سياسية رابحة، أقول فعلاً لقد أصبح الإسلام غريباً في بلاده أو يكاد، ولقد أصبحنا شبه غرباء عن دين كثيراً ما عاشه أجدادنا وعشناه منذ الصغر سلسلة من قيم الاحترام والمحبة والعمل والأخلاق بين الجميع صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، الجد والأب والأم والخال والأخت والعمة والجارة والجار والغريب الوافد، بين المسلم وغير المسلم.
في الجزائر، مع زحف ثقافة الإسلام السياسي المستورد نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات واستيلائه على منابر المساجد وعلى المدارس والجامعات، أصبح المواطن المسلم البسيط غريباً، شيئاً فشيئاً، عن مصفوفات القيم التي تضمنتها مرجعياته والتي حبكت حياته الاجتماعية والأسرية والأخلاقية والثقافية والشعورية لقرون ولأجيال عدة متعاقبة، وفي ظل هذا الاستلاب الأيديولوجي طفا إلى السطح خطاب معاداة المرجعية المحلية المتسامحة والمتفتحة، وأصبح التنكر لها عملة سياسية رائجة والعمل على تعويضها بأخرى مكرسة في ثقافة التعصب والعنف ورفض المختلف غير مخفي على نبيه.
كانت للجزائر نخبها الدينية المتسامحة، من شيوخ وفقهاء بسطاء، وقد ظلوا مرتبطين بأرضهم وبتاريخهم وبذاكرتهم الجماعية وبواقعهم وبلغاتهم وبلباسهم وبعاداتهم وبتقاليدهم وبأخلاقهم الحميدة وحتى بالمزاج الجزائري الذي له خصوصيته.
هذه السلسلة من النخب الدينية المتعاقبة هي من أسهمت في تشكيل طبيعة سلوك الفرد والجماعة في الجزائر، ونذكر من بينهم الشيخ المغراوي الوهراني (صاحب فتوى المورسكيين) والشيخ عبدالرحمن الثعالبي (حارس مدينة الجزائر العاصمة) والأمير عبدالقادر (الذي حمى مسيحيي الشام عام 1860) والشيخ عبدالحميد بن باديس (المربي المتفتح وصاحب الفضل الكبير في تعليم الفتاة الجزائرية) والشيخ عبدالرحمن الجيلالي (المؤرخ والفقيه المتنور) والشيخ أحمد حماني (شيخ الحوار والرأي السديد) والشيخ علي شنتير (الذي كانت له حصص إذاعية وتليفزيونية بالعربية وبالأمازيغية) والشيخ الطيب المهاجي (الذي ندد بقتل ستة من اليهود في وهران بعد الاستقلال، مما جعل الرئيس أحمد بن بلة يتدخل ويتم توقيف القتلة ومحاكمتهم) والشيخ المهدي البوعبدلي (الكاتب والمحقق وصاحب واحدة من أهم المكتبات في الجزائر من ناحية المخطوطات) والشيخ عبدالقادر الزبير(إمام وخطيب مثقف ومتواضع) والشيخ خالد بن تونس (الذي كان خلف اقتراح وترسيم اليوم العالمي للعيش المشترك في سلام من قبل الأمم المتحدة) والشيخ الباحث علي مراد والشيخ أحمد الأطرش والشيخ عبدالرحمن شيبان والشيخ الدكتور سعيد شيبان والشيخ محمد الصالح الصديق والشيخ محمد الطاهر آيت علجت والشيخ أبو عبدالسلام والشيخ مكركب والقائمة طويلة…
ومثلت هذه النخب الدينية الصوت الذي حمى المجتمع الجزائري وإلى فترة معينة من الأيديولوجيا المتطرفة، فكانوا في يومياتهم وسلوكهم عبارة عن رجال مطافئ ضد نيران الفتن، كل الفتن التي تهدد الوطن والمواطن والثقافة والأخلاق.
وعلى العكس من نخب الدين السياسي التي تمثل صوت الانتحار والأحزمة الناسفة، كانت النخب الدينية المتنورة تحب الحياة، مقبلة عليها، وتعمل من أجل تحبيبها للذين من حولها، في المساجد والشوارع والأسواق والجلسات العامة والخاصة، تفضل الحياة على الموت مع إيمانها بأن الموت ساعته آتية لا مفر منها.
كانت نخبنا الدينية الأصيلة تؤمن بأن الإنسان المسلم خلق للحياة التي يجب أن يجعل منها جنته الأولى على الأرض، قبل الجنة التي وعده بها الخالق في اليوم الآخر، وانطلاقاً من ذلك كانت تدعو المواطن إلى أن يجتهد ويعمل ويكد بصدق من دون رياء كي يحظى بالجنتين، ومن لا يعرف كيف يصنع جنته في الحياة ربما قد يصعب عليه دخولها في اليوم الآخر، فالجنة على الأرض هي باب الجنة في السماء.
كان هؤلاء الشيوخ قيمين على زراعة ثقافة الفرح بين الناس، يعملون من أجل أن تكون فلاحة الفرح تربية وسلوكاً يوميين في المجتمع.
كانت لهم وجوه بملامح سمحة منيرة تدعو إلى الطمأنينة والاطمئنان، لا تغادرها الابتسامة، وجوه لا يسكنها عبس ولا نكد ولا غضب، أصواتهم هادئة من دون صراخ ولا نفير في خطبهم وتدخلاتهم ومحاضراتهم، هي هكذا وهكذا كنا نرى نخبنا الدينية صباح مساء، في الأيام العادية كما في الأعياد الدينية والوطنية على حد سواء.
ظل هؤلاء الشيوخ زراع التفاؤل نابذي التشاؤم، ينظرون إلى المستقبل بعين الأمل، مؤمنين بأن التفاؤل طاقة نادرة ورأسمال قيمي وعلى الإنسان أن يتسلح به لمواجهة بعض الاضطرابات التي قد تعترض حياته.
كانوا حراساً يقظين لقيم المرجعية المحلية المغاربية في مجالسهم وفي طريقة لبسهم، يلبسون برقة وجمال وحضارة وفن غير مستلبين لا من شرق ولا من غرب، ولم يحولوا عقيدتهم السمحة إلى ورشة لخياطة لباس المرأة ولا إلى محل زينة لإصدار فتاوى عن طريقة حلاقة الشباب وارتداء الشورت والصلاة على الرصيف أو في ماء البحر أو جهاد النكاح.
كان حلول شهر رمضان وهم يعلنون عنه من خلال جلسة لجنة الأهلة ليلة الشك بداية احتفال يدوم 30 يوماً و30 ليلة، ولم يكُن هذا الشهر الفضيل للتهديد والوعيد ولا للهفة والسمسرة والاستدانة والتسابق في الاستهلاك والمضاربة.
وفي هذا الزمن الذي كانت فيه نخبنا الدينية منسجمة مع واقعها وعاداتها وثقافتها ولباسها وأكلها، كنا نعيش ديننا ونمارسه بكثير من العفوية والصدق من دون الحديث فيه أو عنه، كنا نعيش ديننا بإيمان من دون الخوف من قنابل الفتاوى التي نراها تسقط اليوم على رؤوس المؤمنين من كل الجهات متناقضة ومتصارعة ومتسابقة في الغلو، كنا منسجمين مع ديننا وفيه ضمن تقاليدنا وأخلاقنا وثقافتنا وعاداتنا.
ولم تكُن لنا قناة تليفزيونية خاصة بالقرآن الكريم ولا إذاعة متخصصة في ذلك، ولا قنوات على “يوتيوب” لبعض الدعاة تصب الزيت على النار باسم الدين، لتحاصر المسلم البسيط من كل الجهات، ومع ذلك كان الدين فطرة فينا وصفاء في أرواحنا.
وعلى أمواج الإذاعة الوطنية، من جهاز راديو بسيط، عائلياً، كنا نستمع إلى القرآن الكريم بقراءة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد المدهشة، فنسعد ونغتسل، ومن الجهاز نفسه ومن المحطة نفسها نسمع، بعد تلاوة ما تيسر من الذكر الحكيم، أغنيات لنورة أو رابح درياسة أو الشيخ الحسناوي أو شريف خدام أو عبدالحليم حافظ أو فيروز، وعلى مائدة الغذاء كنا نسمع برنامج “ألوان”، المليء بالطرف والنكات يقدمه الشاعر الشيخ محمد الأخضر السائحي الذي لم يكُن يتخلف عن حضور مؤتمرات الفكر الإسلامي، بل كان علماً فيها. وبهذا المنظور كان الدين بحسب هذه المرجعية بسيطاً لا كلفة فيه ولا تشدد ولم تكُن هذه النخب لتحفر في المتناقضات ولا البحث عن الشاذ الغريب كما يحدث اليوم مع بعض تجار الدين وزارعي الفتنة.
كان الدين عند الجزائري يسراً ولم يكُن عسراً أبداً.
ولم يكُن شيوخ الدين الأصلاء يجدون حرجاً في مجالسة الفنانين والشعراء والسينمائيين وكانوا يشعرون بأنهم جزء من هذا الكل الفكري والإبداعي والتربوي والروحي وأن ما يقدمونه يسند ما يقدمه الآخرون في ميادين أخرى، لم يكن شيخ الدين ليفتي في الغناء ولا في الشعر ولا في السينما، فلكل مجال خصوصياته وأهله.
كانت نخبنا الدينية المحلية محصنة لأنها كانت مرتبطة عضوياً بثقافة وتاريخ بلدها من جهة، ومن جهة ثانية لأنها كانت تشكل جبهة واحدة صلبة مع مرجعيات هذا البلد في الأدب والفنون الممتدة من أبوليوس صاحب الحمار الذهبي إلى ابن خلدون صاحب المقدمة إلى محمد ديب ومولود معمري ورضا حوحو وكاتب ياسين وآسيا جبار والأخضر حمينا وعمار العسكري وجون عمروش والسي محند أومحند ومالك حداد ومفدي وعبدالحميد بن هدوقة والطاهر وطار وعبدالملك مرتاض ومحمد خدة وعبدالقادر علولة وإسياخم وأحمد وهبي وبلاوي الهواري وعبدالحميد عبابسة وخليفي أحمد وآيت منغلات وإيدير.
- إندبندنت