يدعو جورج صبرا، وهو السياسي الذي أمضى عمره معارضاً نظام الأسد، إلى مزيد من الحوار في سورية، ويراه وحده يضع جميع السوريين أمام مسؤولياتهم في منعطف يعد الأخطر في تاريخ سورية المعاصر. أخيراً، عاد صبرا، الذي أمضى ثماني سنوات في سجن صيدنايا، إلى بلدته قطنا، غربي دمشق، بعد غياب قسري، فحمله أهلها على الأكتاف. يُبدي تفاؤلاً حذراً، ولديه ملاحظات على أداء الإدارة السورية الجديدة، بيد أنه يرى أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح.
يمضي المسار بشكل عام في الاتجاه الصحيح خلال المرحلة الانتقالية، للتعاطي مع المهامّ المطلوبة، غير أن الملاحظات كثيرة وجدّية
– السؤال الذي لا بد منه: ما المشاعر التي اجتاحتك، وأنت المناضل الصلب الذي لطالما وقف ضد نظام الأسد البائد، وتعرّض للملاحقة والاعتقال أكثر من مرّة، كيف كانت مشاعرك عندما سقط هذا النظام إلى غير رجعة صباح 8 ديسمبر؟
وضعنا المشهد في حالة من الذهول، هل نصدّق ما يجري بالفعل؟ أم هو بعض الأحلام والأوهام التي غرقنا فيها نحو 14 عاما حتى وصلنا إلى حافّة اليأس؟.. تمادى بعضهم في الريبة، وربما حسب ما يجري في ذلك اليوم، الثامن من ديسمبر (2024)، مسرحية عسكرية وسياسية في سلسلة المسرحيات التي اعتاد عليها السوريون طوال سنوات الثورة نتيجة التدخلات الدولية والإقليمية في الملف السوري، إلى أن جاءني صوت الثوار من حلب، وبعض التفاصيل عن عملية “ردع العدوان”. اتصل بعض الثوار بي ليقولوا لي نحن يا أستاذ جورج في حلب، فماذا نفعل كي نطمئن أهلنا كي لا يغادروا المدينة، فقدّمت لهم ما استطعت من رأي، وأسندت رأسي بعدها إلى جدار الثقة بانتصار الثورة.
– هل كنت تتوقع هذا السيناريو لانتصار الثورة السورية؟
أبدا، لم أكن أتوقّعه، ولا أعتقد أن أحداً كان يمكنه التمادي في أحلامه وأمانيه إلى هذا الحد، وأن يحصل التحرير ويسقط النظام بهذه السرعة، وهذا القدر البسيط من الآلام والكلفة البشرية، خصوصاً بعد تعرّض الثورة للخذلان الدولي المتعدّد الأشكال خلال سنوات الثورة، رغم التضحيات غير المسبوقة التي قدّمها السوريون من أجل ثورتهم وأهدافها في الحرية والكرامة.
– عُدت إلى سورية بعد التحرير عقب غياب استمر أكثر من عقد. كيف وجدتَها؟
عدتُ كعودة الطائر الضائع إلى عشه، تحمله بشوق شهوة الوقوف الآمن على غصنٍ هو له، وتحت سماء لم يستطع الخروج من غوايتها. لقد بدت لي دمشق وأنا أعبرها عبر المتحلّق الجنوبي (طريق حيوي في دمشق)، حزينة بائسة وغير مبالية مستفردة أمام الصمت المسيطر. عيون عطشى لاحتمالات المطر والأمنيات، لا تبكي لكنها تدعو إلى البكاء. أرض المدنية والتمدّن ألقي عليها رداء من البؤس، ليس لها ولا يليق بها. كل شيء أمامي في دمشق كان ينتظر شيئاً ما.
– مرّت أكثر من سبعة أشهر على تولّي الإدارة الجديدة مقاليد الأمور في البلاد، كيف تقيّم الأداء على المستويات كافة، هل تسير سورية في الاتجاه الصحيح؟
يمضي المسار بشكل عام في الاتجاه الصحيح خلال المرحلة الانتقالية، للتعاطي مع المهامّ المطلوبة، غير أن الملاحظات كثيرة وجدّية على تنفيذ هذه المهام ومندرجاتها، فكل مهمّة تستند إلى سابقتها وتشكّل أرضاً لتنفيذ اللاحقة. مهامّ كثيرة لم تنفذ بعد، وبعضها لم يتم تنفيذه أصولا وكما يجب، وبعض آخر اختُزل إلى العناية بالشكل من دون تحقيق المضمون. ما زالت مواقع عديدة تشكو من انعدام الكفاءة وحسن التمثيل الحقيقي للموقع والمسؤولية، وتحقيق الأهداف عند السوريين، وخصوصاً من أبناء الثورة. خزنة من المعارف والمهارات والتجارب لم تضعها الإدارة الجديدة بعد موضع الاهتمام المستحق.
– جملة تحدّيات وتركة ثقيلة لنظام الأسد البائد. ما الطرق المثلى لمواجهة التحدّيات والتعاطي مع هذه التركة؟
تركة النظام البائد ثقيلة، في العمق والاتساع بالعدد والنوعية، بحيث تشمل جميع مؤسّسات الدولة، وكذلك مواقع وقضايا اجتماعية عديدة. لذلك تبدو المهام صعبة وعنيدة، وبعضها يحتاج الوقت، لكنها جميعها تحتاج للكفاءة والحكمة والخبرة الواسعة. وأرى أن التشاركية وحدها تشكل المخرج الأكثر أمانا في تنفيذ مهام هذه المرحلة الصعبة في الظروف الإقليمية والدولية المعقدة، فالثورة كانت ثورة جميع السوريين، وانتصار يوم الثامن من ديسمبر كان تثميرا لتضحياتهم في الثورة على أيدي الإدارة الجديدة وقادتها. يستدعي بناء سورية الجديدة توسيع المشاركة، وهو حقٌّ للسوريين وحقٌّ لسورية الجديدة أن تُبنى بأيدي أوسع شريحة من أبنائها.
– ما ملاحظاتك على الإعلان الدستوري الناظم للمرحلة الانتقالية؟
ملاحظاتٌ عديدةٌ تعرّض لها الإعلان الدستوري، لكنه محدود بالمرحلة الانتقالية، لذلك يبقى الدستور الدائم ما يُعول عليه في بناء سورية الجديدة وطناً حرّاً لكل أبنائه، ودولة ديمقراطية تعدّدية ينعم شعبها بالحياة الدستورية وسيادة القانون وعلاقات المواطنة المتساوية، وبالصحافة الحرّة، والحياة الحزبية الغنية والمدنية المتعدّدة والناشطة كما كانت سورية الاستقلال بين عامي 1954 و1958.
– كتبت: “نريد الدولة.. لكن ليس أي دولة. نريد الدولة التي تكون وطناً لكل السوريين”، كيف يمكن للدولة أن تكون وطناً؟
هل كانت سورية الأسد، أي النظام البائد، وطناً لجميع السوريين، أم مزرعة فئوية سياسية وطائفية؟ كانت دولة ولها مؤسّسات وعلاقات دستورية، وسفراء ونشطاء في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وجميع المؤسّسات التمثيلية دولياً وعربياً. لكن هل كانت وطناً للسوريين؟ كيف تكون وطناً عندما يرمي عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف، من السوريين أنفسهم من شواطئها في قوارب الموت بحثاً عن مكان آمن. كيف تكون وطناً وبعض السوريين أمضوا أربعين أو خمسين عاماً حتى أتيحت لهم فرصة رؤية وطنهم من جديد بعد حرمان سلطوي قاهر، بل إن بعض جثامين القادة السياسيين من الوطنين السوريين منعت من العودة ومعانقة تراب الوطن. نعم نريد الدولة.. نريدها وعاءً للعيش المشترك لجميع مكوّنات الشعب وأفراده. نريد الدولة التي تكون وطناً حقيقياً وحرّاً.
مجريات الوضع في السويداء، والعلاقة المتوترة مع “قسد”، إضافة إلى الأوضاع في المنطقة الساحلية، تتطلب حواراً وطنياً معمّقاً
– كتبت أيضا: “السلم الأهلي يعلو، ولا يُعلى عليه”، كيف يمكن تحصين السلم الأهلي في سورية؟
هذه من مهامّ الإدارة الجديدة، مع مشاركة الشعب ونخبه الثقافية والسياسية في المرحلة الانتقالية، ويتم ذلك عبر حل جميع الفصائل المسلحة في جميع المناطق حلّا حقيقيا يؤدّي إلى انتظام أعضائها داخل المؤسّستين العسكرية والأمنية ومؤسّسات الدولة الأخرى، ثم جمع السلاح المنتشر بشكل كبير في جميع المناطق، خصوصاً بعد رحيل النظام البائد وانهيار مؤسّساته العسكرية والأمنية. كما لا بد من حل القضايا المعلقة بين الإدارة المركزية وبعض المناطق سياسياً، وفي إطار الوحدة الوطنية للبلاد، ونظام الإدارة اللامركزية في جميع المحافظات، وبذلك ننتهي من ظاهرة الاعتداءات الفردية المتكرّرة هنا وهناك، تحت اسم الجماعات غير المنضبطة أو الجرائم الجنائية المرتكبة. السلم الأهلي هو العتبة الصلبة التي يعوّل عليها في نجاح المرحلة الانتقالية وتنفيذ مهام التعافي لسورية أرضاً وشعباً، ومن أجل توطيد العلاقة مع الخارج دولاً ومؤسّسات وشركات إنتاج وعمل، فمن دون توفر الأمن لا تتوفر شروط الاستثمار والنمو في جميع القطاعات، ولا بد من الاستناد إلى التعدّدية والمشاركة والمساءلة لتحقيق السلم الأهلي وتوطيده في جميع مناطق البلاد.
– تهيمن الأحداث الدامية في السويداء على المشهد في سورية، ما الذي خسرته الإدارة الجديدة جرّاء تعاطيها مع ملف السويداء بشكل لم يكن مرضياً، وما الذي خسره أهالي السويداء جرّاء الرفض المتكرر، وخصوصاً من الشيخ حكمت الهجري، لفتح قنوات حوار مع دمشق؟
مجريات الوضع في السويداء، والعلاقة المتوترة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في شمال شرقي البلاد، إضافة إلى الأوضاع في المنطقة الساحلية، تتطلب حواراً وطنياً معمّقاً عبر مؤتمر وطني حقيقي يتولى هذه المهمّة بصبر وأناة، يضع الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخية، ويضع ملامح سورية الجديدة المستندة إلى تاريخها وحقيقة وجودها ومكوّناتها والطموح العصري لأجيالها الشابة، وهو ما يتبلور في الدستور الجديد القادم، فلا الطوائف جديدة في سورية، ولا الإثنيات والتعدّد السياسي والفكري جديد، ولا الحصافة والعقلانية والحكمة معدومة رغم ارتفاع الأصوات الطائفية والعنصرية بين حين وآخر والتي يجري التراشق بها بكل أسف هذه الأيام، فالوطنية السورية المتّقدة تمثل حصناً للجميع. هكذا فعل أجدادنا وبنوا سورية الموحدة قبل قرن وطنا للجميع، وبمشاركتهم.
سياسات الرئيس الشرع الخارجية وتعامله مع الشأنين الدولي والإقليمي يتميز بالمهارة والمسؤولية
– دُعيتَ إلى الحوار الوطني الذي أعدّ على عجل في فبراير/ شباط الفائت، ولم تحضر، هل نحن بحاجة اليوم إلى حوار وطني أكثر جدية وتشاركية. ما مقومات أي حوار آخر؟
بالتأكيد نحن اليوم أكثر حاجة للحوار الوطني الجاد الذي يحقق التشاركية الفعلية، ورغم التباين في بعض المواقف والأفكار إلا أن التوافق ممكن باحترام إرادة الشعب وأهداف الثورة، ومقتضيات الحكم الرشيد في هذا العصر.
– كيف ترى أداء الرئيس أحمد الشرع السياسي في الداخل والخارج، هل تراه رجل المرحلة الصعبة التي تمر بها سورية؟
من دون شك، الرئيس الشرع رجل مرحلة، واختياره لقيادة الفترة الانتقالية قرار صائب، لصفاته الشخصية وخبراته وما يمثله، وأرى أن سياساته الخارجية وتعامله مع الشأنين الدولي والإقليمي يتميز بالمهارة والمسؤولية، ونجاحاته مع وزير الخارجية (أسعد الشيباني)، في هذا المجال ملحوظة. ولكن الوضع الداخلي يتطلب المزيد من الاهتمام والقدرة على معالجة القضايا المطروحة والطارئة، فالمحافظة على التأييد الشعبي الكبير مهمّة أصعب وأكثر أهمية وإلحاحا، لأن النجاح في الداخل ومعالجة قضاياه الخطيرة والمصيرية هو الذي يفتح أبواب الخارج ويثمر نجاحات داخلية تفضي إلى نجاحات إقليمية ودولية وعربية، والسوريون يتوقعون ذلك وينتظرونه.
جورج صبرا في سطور:
ولد جورج صبرا في بلدة قطنا، غربي دمشق، في 1947، عمل مدرّسا بعد تخرّجه من دار المعلمين، ثم حصل على شهادة في الجغرافيا من جامعة دمشق، ثم تخصّص بتقنيات أنظمة التعليم والتلفزيون التربوي من جامعة إنديانا الأميركية عام 1978. عمل معدّاً ومقّدماً لبرامج تعليمية، وشارك في كتابة سيناريو مسلسل الأطفال العربي الشهير “افتح يا سمسم”.
انتسب مبكّراً إلى الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، وانتُخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب عام 1985. اعتقله النظام السوري عام 1987 وحكم عليه بالسجن ثماني سنوات قضاها في سجن صيدنايا.
نشط صبرا في فترة ربيع دمشق وكان أحد مؤسّسي تحالف “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي”. اعتقل مجدّدا في بداية الثورة السورية عام 2011 على خلفية مشاركته الفعالة فيها، فاضطر في أواخر ذلك العام للخروج من البلاد سرّاً إلى الأردن. ترأس في 2012 المجلس الوطني السوري عند تأسيسه كشخصية وطنية.
جرى انتخابه رئيساً للمجلس في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 وانتخب نائباً لأول رئيس للائتلاف الوطني السوري.
- العربي الجديد