عندما نناقش الخطاب الشعري: مفاهيمه ومنهجياته، يفضّل أن نعود إلى مفهوم تحليل الخطاب في دلالته العامة، بوصفه مجالا بحثيا يستند إلى اللغة في جوهره، فاللغة هي أبرز وجوه الخطاب الإنساني، وإن صاحبته إشارات ومؤثرات غير لغوية، كذلك وإن اختلفت وسائل تقديم الخطاب، وتنوعت وسائطه؛ ما بين شفاهية أو مكتوبة أو مرئية، وتراوحت مستوياته، ما بين إبداعية وعلمية وشعبية ودارجة.
يتسق هذا مع تحولات الأنساق المعرفية في العصر الحديث، حيث بات الخطاب مجالا تلتقي فيه جملة من العلوم والمعارف، التي انبثقت منها منهجيات لتحليل تشكيل بنية الخطابات المختلفة؛ معرفيا وفكريا وجماليا وإشاريا.
يقال ذلك، ونحن بصدد دراسة الخطاب الشعري، بوصفه خطابا أدبيا يمتلك أبعادا شاعرية، تميّزه عن الخطابات المباشرة، فلا بد أن يقرأ أولا بوصفه خطابا إنسانيا؛ تميّز ببنية جمالية، تحمل الكثير من الإشارات اللغوية والجمالية والمعرفية، التي تتطلب اتساعا في الرؤية والمنهجية، ما يعني الالتفات أيضا إلى ما فوق الخطاب، الذي هو خطاب حول خطاب آخر، أو حول اللغة التي يحملها الخطاب الأساسي، وتتمثل في سائر الخطابات والإشارات حوله.
فالخطاب في مفهومه العام، لا يمكن حصره في حدود نص معين، أو مصَنَّف، أو علم، أو حتى في مجال معين من الموضوعات. فلفظة خطاب، تدل على اصطناع مبنيّ على إجراءات تحليل، ومن أجلها؛ يكون عملها أن ترصد في مكان أو زمان معين؛ ملفوظات، وترسم ملامحها في أرشيف، وبذلك تتسع حدود الخطاب، ليصبح من المهم النظر في أبعاده، ومواضع بثه، وأيضا مختلف المصاحبات الإشارية التي تحيط به. فيمكن القول إن الخطاب هو الوجه المعبر عن نشاط الإنسان، فردا، كان أو جماعة، مبدعا أو عالما أو زعيما أو قائدا، وميدان دراسته يشمل مختلف أشكال الخطاب، وموضوعاته، مع النظر في سياقات بيئته وعصره، وطبيعة منشئه، والمؤثرات التي تحيط به، والتي ستكون حتما مفسرة للخطاب الأساسي، وقد تنتج خطابات أخرى ترافق نص الخطاب الأساسي، وهو «ما فوق الخطاب»، أو بالأحرى التفسيرات والقراءات الأخرى للخطاب، التي يطلق عليها «تحليل الخطاب»، وهو «تحليل استعمال اللغة، أو دراسة الاستعمال الفعلي للغة من قبل ناطقين حقيقيين في أوضاع حقيقية، حيث يصبح تحليل الخطاب نفسه حيال أنواع الخطابات المشتغلة في قطاعات الفضاء الاجتماعي، وفي الحقول الخطابية، والإبداعية المختلفة، ويُعدّ مفترقا لطرق العلوم الإنسانية.
وتحليل اللغة في الخطاب، لا يقف عند المفردات والإشارات والتعبيرات اللغوية فقط، وإنما ينصرف إلى التحليل الشامل لكل مكونات الخطاب، خاصة إذا كان خطابا شعريا، حيث تكون فيه اللغة محورية ونوعية في تكوينها الجمالي، سواء على مستوى جزئيات النص، أو بنيته الكلية، التي يحرص الشاعر على التجديد فيها، وهو ما يميز الخطاب الشعري عن سائر الخطابات الأخرى، فأسلوب الشاعر في قصائده، كاشف عن أحاسيسه النفسية، ورؤيته الجمالية والفكرية، ما يستلزم الاستفادة من منهجيات علمية، منبثقة من منظومة العلوم الإنسانية الحديثة، ما يقودنا إلى النظر في الوشائج بين تحليل الخطاب وعلم النص، وعلاقتهما بالخطاب الشعري، وكما تقرر جوليا كريستيفا في كتابها «علم النص» فإن «النص تحوّل إلى مجال يُلعَبُ فيه ويُمارَسُ، ويتمثّل التحويل الأبستيمولوجي والاجتماعي والسياسي. فالنص الأدبي خطاب يخترق حاليا وجه العلم والأيديولوجيا والسياسة، ويتنطع لمواجهتها، وفتحها وإعادة صهرها، ومن حيث هو خطاب متعدد، ومتعدد اللسان أحيانا، ومتعدد الأصوات غالبا، من خلال تعدد أنماط الملفوظات التي يقوم بمفصلتها.
اتسعت رؤية كريستيفا إلى النص الأدبي لتلحقه بمفهوم الخطاب، الذي يجعل منشئ النص الأدبي مبدعا ذا رسالة خطابية تتأسس على استثمار البنية الإبداعية في الأدب؛ بغية بث رسائل فكرية ومعرفية، إلى جانب الرسالة الجمالية، أو بالأدق ضمن البنية الجمالية التي يتميز بها الخطاب الأدبي، فلا يمكن أن يظل نقاد الأدب ودارسوه مكتفين بالدراسات الجمالية النصية، دون النظر إلى القضايا الفكرية والسياسية والفلسفية، التي يطرحها النص الأدبي، والتي تحمل رؤية الأديب وموقفه من الأحداث والتبدلات والتحولات التي تنتاب ذاته والمجتمع والعالم.
وتكرار كريستيفا للفظة «متعدد» تعني أن النص الإبداعي يحوي تعدديات بأشكال مختلفة، سواء من خلال الرؤية التي يبثها النص، التي قد تشمل أفكارا متعددة، تحاول قراءة الكون والحياة والإنسان من زوايا مختلفة، ويمكن أن تكون دالة على تعددية في الأصوات؛ إذا امتاح النص الشعري من الدراما، أو القص، ناهيك من أشكال التناص، الذي قد يحفل بها النص الشعري، وهو ما يعزز أهمية استحضار مفهوم علم النص، وفق رؤية فان دايك في كتابه «علم النص: مدخل متداخل التخصصات»، الذي يؤكد فيه أن تحليل الخطاب الأدبي يتعلق بكل أشكال النص الممكنة، وبالسياقات المختلفة المرتبطة به، ويتوسل من ناحية أخرى، بمناهج نظرية ووصفية وتطبيقية، وعلى صلة وثيقة بعلم الأدب، والأسلوب، وعلوم النفس والاجتماع والاتصال الجماهيري والتلقي.
وهذه المناهج لا تأخذ دراسة الخطاب الشعري إلى آفاق تنأى عن الشعرية، وإنما تعطي رحابة في المنظور النقدي والتحليلي، لتسليط الضوء على ما تحمله النصوص، وتفيض به من دلالات، تساهم في إيضاح الرؤية العامة للخطاب. وهي علوم إنسانية في المقام الأول، ولكن نستعين بها ضمن دراسات تحليل الخطاب الأدبي؛ بغية الكشف عما يحفل به النص من رؤى ودلالات، وهو ما يقرره فان دايك، أن سمات كثيرة، للنصوص الأدبية تتطابق مع سمات نصية عامة، أو على الأقل مع أشكال نصية محددة، مثل الحكايات اليومية، أو نصوص الدعاية، وقد وقف في الوقت ذاته على أن الأبنية لا يمكن أن توصف عادة وصفا مناسبا؛ إلا حين يرتكز على وجهات نظر معينة، حول السمات الأكثر عمومية للنصوص واستعمالها، وقد تطورت على نحو مماثل العلاقات بين الأدب واللغة، من خلال تحليل الاستعمال اللغوي في نصوص أدبية، وبغض النظر عن الدور المتواضع نسبيا للأدب ـ بمفهوم ضيق له – داخل السياق الثقافي والاتصالي، فقد سادت دراسة هذا الأدب، ثمة نصوص أخرى تُقرأ على أقصى تقدير على أنها معلومة أساسية خلفية، وسياق اجتماعي – ثقافي للأدب وتاريخه.
كاتب مصري
- القدس العربي