مؤلم ما وصلت إليه الحال في سوريا من صراعات بينية متدنية المستوى لا تليق بالسوريين ولا بحضارة بلدهم العريقة، ولكن الأشد إيلاماً يمكن تلخيصه اليوم في عملية التنابذ بالانتماء، وتحديداً ما بات يُعرف في الفترة الأخيرة بمصطلحات من مثل “بني معروف” و”بني أمية”، حيث يتم تبادل الاتهامات وتراشق الإهانات على أساس الانتماءات التي استيقظت بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها محافظة السويداء، والتي كانت قاسية بما يكفي للمطالبة بملاحقة كل مرتكبي الانتهاكات والجرائم من كل الأطراف ومحاكمتهم، ولكنها ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير وشكلت مشهداً جديداً كلياً من شأنه التأصيل لمرحلة في غاية الخطورة.
يعيدنا المشهد الحالي بالتهاباته الموضعية المتعددة والاحتقانات المنتشرة في الجسد السوري، والتداعيات الناجمة عن حالة التكلس الوطني لدى كثيرين ممن دخلوا في الصراعات الثانوية، إلى الوراء أكثر من ألف وخمسمئة سنة، إلى عصر الجاهلية، ليس بمعناها المتعارف عليه، بل بالمعنى ذي الصلة المباشرة بالجهل فيما يتعلق بطريقة التعاطي مع تفاصيل ذلك المشهد، وعلاقته بنمط التركيب القديم لبنية المجتمع ما قبل القبلي ربما، وهرميته الاعتباطية، وذهنيته المغلقة والمقفلة على مفاهيم لا يمكن أن تتناسب مع المرحلة الراهنة. يعيدنا هذا المشهد إلى حقبة تاريخية شديدة السواد تم تجاوزها منذ زمن طويل، ولم يعد بالإمكان العودة إليها – أو هكذا كنا نظن في الحد الأدنى.
ورغم تراجع حدة الاشتباكات المسلحة إلى حدود التلاشي بين فصائل السويداء والبدو، وبين من ناصر هذا أو ذاك، إلا أن الاشتباكات والمعارك الكلامية لا تزال تدور رحاها على كل جبهات وسائل التواصل الاجتماعي، ومن قبل كل الأطراف المتناحرة، في حرب مصطلحات مفتوحة تبدو وكأنها تتقصد، أو لا تدرك ما يمكن أن تسببه من تأجيج للمعارك من جديد، والتحريض على حرب طويلة الأمد تشابه تلك الحروب التي نشبت في الماضي البعيد والتي تأسست على ذات العقلية المتموضعة في الذات، ما أسهم في نشر ثقافة العداء والموت والاقتتال الدائم من دون وجود أسباب جوهرية لكل ذلك، باستثناء حبّ المفاخرة والتحدي الأجوف وإعلاء الانتماء القبلي.
في الوقت الذي نبدو فيه أحوج إلى صوت العقل والحكمة أكثر من أي صوت آخر، يعلو صليل الغرائز ويسيطر على الفضاء الحقيقي والافتراضي، ويهدد “الأمتين” المفترضتين اللتين تتصارعان على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتتلخص القصة اليوم بما يمكن تسميته بـ”حرب الانتماءات”، تحديداً بين من يسمون أنفسهم “بني أمية” وفي الوقت الذي نبدو فيه أحوج إلى صوت العقل والحكمة أكثر من أي صوت آخر، يعلو صليل الغرائز ويسيطر على الفضاء الحقيقي والافتراضي، ويهدد “الأمتين” المفترضتين اللتين تتصارعان على وسائل التواصل الاجتماعي
وبين من يسمون أنفسهم “بني معروف”، وفي كلا الانتماءين توجه ماضويّ يحمل معنى مؤذياً إذا ما تم استخدامه لتظهير الذات من خلال الإساءة إلى الآخر، فمن المفروض أن يكون السوريون جميعاً اليوم أبناء الحاضر، أبناء اليوم، أبناء الوطن الواحد، وأن تكون تلك الانتماءات الرمزية مجرد محفّز إيجابي للتلاقي مع الآخر، وليست وسيلة لمعاداته وفقدانه.
غير أن توظيف تلك الانتماءات في السياقات الحالية كان له آثار سلبية عميقة على المدى المنظور، ظهرت أولى تجلياتها في التحلل من الانتماء الوطني والهوية الوطنية الجامعة لدى كثيرين ممن انقادوا غريزياً لإعلان انتماءاتهم الثانوية، وبالتالي فضلوا العودة ليس إلى الهويات الفرعية فحسب، بل إلى الهويات المتوهمة.
أما على المدى البعيد، فما يحدث يشير إلى إمكانية خلق حالة عداء حقيقية تتجاوز الخصومة المؤقتة، وتؤصّل للعداء المطلق غير القابل للإصلاح، بكل ما يعنيه من كراهية ورغبة دائمة في إنهاء كل طرف للآخر على المستوى الوجودي، ولا سيما بعد أن تطور صراع الانتماءات إلى حالة من السخرية والسخرية المضادة، والإهانات المتبادلة التي يحاول كل طرف من خلالها ليس فقط شيطنة الطرف الآخر، بل تصويره كشرّ مطلق ومتعمّد، تماماً كما يحاول كل طرف حصر كل المكارم والمزايا بنفسه.
وفي هذا السياق، لا بد من التذكير بأن إيقاظ نعرات الانتماء تم كردة فعل من قبل فئات كثيرة من الشعب السوري أرادت استعادة الوجه المضيء للعهد الأموي بعد سنوات طويلة من الاضطهاد والعنف والوحشية التي تعرضوا لها من قبل نظام آل الأسد، وربما لم يكن المستهدف بردة الفعل تلك سوى عصابة الأسد وليس طائفته، وليس الطوائف الأخرى أيضاً. غير أن تطورات الأحداث الدراماتيكية في كل من الساحل ومن ثم السويداء، وردود الفعل المتبادلة بين من يتعاملون مع أنفسهم على أنهم أطراف متعددة، أيقظت الانتماءات المتوهمة لدى الأطراف الأخرى وقادتها إلى حالة من التمترس، وأسهمت في استعادة الإرث القديم بكل قسوته ومساوئه، لا بوجهه المشرق الذي ساد في فترات تاريخية معينة، وبدت فكرة الماضي في هذا السياق هي فقط صورة النصف الفارغ من الكأس، والجزء الأسود من اللوحة بعيداً عن كل الألوان الأخرى.
كان من المتوقع أن يكون ذلك الارتداد للماضي عابراً وملازماً فقط لفترة الاحتراب التي لم تستمر سوى بضعة أيام، وكان يمكن أن يتلاشى مع الزمن، ولا سيما في ضوء محاولات تبريد الجراح، حيث تكرس الشخصيات المتوازنة والعاقلة كل جهودها لمعالجتها والبحث عن مخرج وطني متعقل ومسؤول للكارثة التي حلّت بالسويداء تحديداً، والورطة التي جرّت جميع السوريين إلى نتائجها الوخيمة، ولكن خطاب الانتماءات تحول بالتدريج إلى نمط تفكير، وإلى حالة فرز لا تتوقف عند مستوى الفرز الطائفي، وإنما تتخطى ذلك لتصل إلى مستوى الفرز الأممي، أي الاصطفاف كأمم داخل ما يُفترض أن يكون أمة واحدة بالمعنى الوطني.
وإذا ما عدنا إلى المرجعية الأساسية التي تحكم كل الأطراف في طريقة تحديد انتماءاتها، سنجد أصولها في الثقافة العربية ذاتها المرتبطة بالعصر الجاهلي، والتي كرست في جانب من جوانبها حالة الفخر بالذات وبالقبيلة على حساب تقزيم الآخر والقبائل الأخرى وإهانتها، من دون أن يكون لهذا الفخر أسباب حقيقية سوى كونه تحزباً وتعصباً للذات الفردية والجماعية المنتمية إلى جماعة بشرية تعتقد أنها أفضل من المجموعات الأخرى. ومن الغرابة بمكان أن يستند المتناحرون إلى ذات المرجعيات التي يعترضون عليها ويرفضونها، بل ربما يدينونها ويجرّمون تجاوزاتها، وكثيراً ما يقع المرء في هذا التناقض حين يمارس بنفسه فعلاً يستنكره من الآخرين.
وفي الوقت الذي نبدو فيه أحوج إلى صوت العقل والحكمة أكثر من أي صوت آخر، يعلو صليل الغرائز ويسيطر على الفضاء الحقيقي والافتراضي، ويهدد “الأمتين” المفترضتين اللتين تتصارعان على وسائل التواصل الاجتماعي باستمرار حالة العداء وبالتالي الاقتتال بلا نهاية. وبالطبع، فإن كثيراً من الحروب البينية في التاريخ العربي كانت بسبب الحرب الكلامية والتراشق بالانتماء، وهو ما يجب على كل سوري أن ينتبه إليه قبل أن ينجرف إلى مستنقع العداء.
ومن الملاحظ اليوم أن الحالة الشعبوية تسبق التحركات السياسية، وتخرّب ما يمكن إنجازه عبر السياسة، وتجرّ حاضر سوريا باتجاه الماضي البعيد، وتدفعنا لنسيان المستقبل، فيما السؤال الأكثر إلحاحاً والذي يفرض نفسه بقوة على كل من ينشغل بمستقبل سوريا: وماذا بعد؟ وهل لحالة الكراهية من نهاية في ظل استمرار التحريض المتبادل وحالة التحدي الجوفاء التي تتمترس حولها الأطراف كلها؟
تتطلب اللحظة الراهنة من كل الأطراف المتناحرة، وحتى على مستوى المعارك الكلامية، مراجعة حقيقية وشاملة ليس فقط فيما يتعلق بالمواقف المتخذة من الآخر، بل في طرق التعبير عن هذه المواقف
هل بنو معروف هم نقيض بني أمية، وهل بنو أمية هم نقيض بني معروف بالضرورة حتى لو اتفقنا على صحة تلك الانتماءات الضيقة والمتخيلة والتي يجب التوقف عن ترديدها لأنها لا يمكن أن تلعب أي دور إيجابي في مستقبل سوريا كوطن لجميع مواطنيه؟
وربما كان السؤال الأكثر أهمية في هذا السياق: ما هي النتائج المتوقعة من حرب الانتماءات، وما حجم كارثيّتها في حال استمرت بهذا الشكل من التصعيد، سوى المزيد من عدم الاستقرار والمزيد من الدماء والدمار والضحايا والتشرد وتوسيع الهوة بين أبناء البلد الواحد؟
لا يغيب الخارج عن هذا المشهد بالطبع، وثمة أطراف خارجية تنشب أظفارها في عنق هذا الصراع وتدعم استمراريته، وبعض السوريين يعوّلون على الخارج في دعم انتماءاتهم، إلا أن المراهنة على الخارج في دعم القضايا الداخلية هي وصفة مجرّبة وغير مجدية. فلو كان بإمكان القوى الخارجية أن تنقذ أحداً، لاستطاعت إنقاذ بشار الأسد بعدما استقدم الأخير كل قوى الغدر بما فيها القوة الإقليمية الكبيرة (إيران) والقوة العالمية (روسيا)، ومنحهما كل ما طلبتاه، ولكنهما في النهاية انسلّتا من اللعبة عند أول منعطف، وتركتاه يواجه قدره وحيداً رغم كل ما فعلتاه ورغم كل ما خسرتاه في سبيل دفاعهما عن مصالحهما من خلال التظاهر بالدفاع عنه، فالاستعانة بالخارج ما هي في النهاية سوى شكل من الاستعانة بأرجل مستعارة لا يمكن أن تحمل مستعملها إلا مرحلياً.
تتطلب اللحظة الراهنة من كل الأطراف المتناحرة، وحتى على مستوى المعارك الكلامية، مراجعة حقيقية وشاملة ليس فقط فيما يتعلق بالمواقف المتخذة من الآخر، بل في طرق التعبير عن هذه المواقف، مراجعة بهدف ترميم الجرح الوطني ومحاولة رأب الصدع، وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال إلقاء نظرة على المستقبل وما يمكن أن يحمله في حال استمرار الاستقطابات على مستوى الانتماء غير الوطني، فالتراشق بالانتماءات لن يحل المشكلة بل سيؤزمها أكثر، ويزيد مساحة التفكك بين أبناء المجتمع السوري.
وإذا كان الخصام مع السلطة الحالية سبباً للعودة إلى الانتماءات الضيقة، فهو سبب هش، لأن السلطة حالة مؤقتة مهما طال عمرها، في حين أن الوطن هو الحقيقة الوحيدة والثابت الوحيد.
– تلفزيون سوريا




















