زيارة الشرع موسكو شكلت بداية حذرة لبناء الثقة بين دمشق وموسكو
في حين ساد إجماع على رمزية وأهمية زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع موسكو، والاستقبال الحافل من الرئيس فلاديمير بوتين في واحدة من قاعات الكرملين المخصصة للضيوف المقربين، تباينت التقديرات بشأن التوصل إلى اختراق ملموس في الملفات المطروحة للنقاش بين طرفين يجمعهما تاريخ من العداوة لسنوات طويلة، والقتال في خندقين متقابلين على الجغرافيا السورية.
دفعت طموحات الشرع “المتمرد” القادم من كهوف إدلب لترسيخ حكمه إلى تجاوز العداء، والذهاب إلى الكرملين الذي طالما وجه طعنات للسوريين وتسبب في إطالة معاناتهم بدعمه السياسي والعسكري والاقتصادي للنظام السابق. ووسط تحديات كبيرة لإعادة بناء بلد مدمر واستتباب الأمن فيه، والمحافظة على وحدته في ظل تدخلات وضغوط خارجية، يراهن الشرع على دور روسي جديد يساهم في الاستقرار على أساس المنفعة المشتركة، من دون فرض وصاية، ويأمل في أن تساعد سياسة النفس الطويل على الوصول إلى النتائج المرجوة، كما ساعدته الرياضة في صعود درج الكرملين الطويل.
في المقابل، دفعت الخشية من خسارة سوريا بموقعها الجيوسياسي المهم، وعلاقاتها التاريخية الراسخة مع موسكو منذ الحقبة السوفياتية، سيد الكرملين إلى استقبال الشرع، والمبالغة بالاحتفاء به عبر عقد الاجتماع في قاعة المعيشة الخضراء لاستقبال ضيف كان يعدّ قبل أقل من سنة صيدا ثمينا لجيشه، وما زال تنظيمه (هيئة تحرير الشام) مدرجا على قائمة الإرهاب الروسية. ومع تراجع دور روسيا في المنطقة بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاها من إضعاف كبير لحلفائها في المحور الإيراني، والسقوط المدوي للأسد، بدا أن الولايات المتحدة تتجاهل تماما الدور الروسي في جهود إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط، ما تجسد في عدم توجيه دعوة لأي ممثل عن روسيا لحضور قمة شرم الشيخ بشأن غزة. وفي ظل التغيرات الإقليمية، فإن الرهان على إعادة العلاقة مع الحكم الجديد إجباريا بالنسبة للقيادة الروسية لتجنب خروجها بالكامل من شرق المتوسط، وخسارة جميع المكاسب التي حققها الوجود الروسي على صعيد تقوية العلاقات مع دول المنطقة سياسيا واقتصاديا، فضلا عن الدور المهم لقاعدتي طرطوس وحميميم كمركزين لوجستيين لتحقيق طموحات التوسع الروسي في القارة السمراء.
كشفت التصريحات أن مصير الأسد، لم يشكل عقبة في بحث أفق التعاون المستقبلي في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية
ورغم عدم تحقيقها اختراقات ملموسة، فإن زيارة الشرع شكّلت بداية حذرة لإعادة بناء الثقة بين دمشق وموسكو بعد سقوط نظام بشار الأسد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القضايا الخلافية بين دمشق وموسكو شديدة التعقيد، وتشمل مستقبل القواعد العسكرية الروسية في سوريا، ومصير الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية السابقة، والديون الموروثة عن النظام السابق، فضلا عن ملف العدالة الانتقالية المتعلق بتسليم الأسد، وعدد من كبار الضباط والمسؤولين السابقين الذين يقيم بعضهم في موسكو، بعد حصولهم على لجوء إنساني.
أ ف بالرئيس السوري يصل إلى قصر الكرملين الكبير للقاء الرئيس الروسي في موسكو، 15 أكتوبر
وبالعودة إلى التصريحات الرسمية في مستهل اللقاء بين الرئيسين، بدا أن هناك إجماعا على عدم التطرق علنا إلى النقاط الأكثر إيلاما. واقتصر الحديث على العلاقات التاريخية، والمصالح الثنائية، وتم تحديد النقاط المهمة في التعاون المستقبلي. وعلى عكس التوقعات السابقة، كشفت التصريحات أن مصير الأسد، الرئيس المخلوع واللاجئ المقيم على بعد كيلومترات قليلة من مقر الكرملين، لم يشكل عقبة في بحث أفق التعاون المستقبلي في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية كما يتضح من تشكيلة وفد البلدين في المباحثات. ومن المرجح أن لا يشكل مصير الأسد، عائقا حقيقيا أمام تطور العلاقات بين موسكو ودمشق. فالقيادة السورية الحالية تواجه مشكلات أكثر إلحاحا مثل الحفاظ على السلطة وضبط الأوضاع الداخلية، وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية. وربما ارتأت القيادة الجديدة في سوريا أن استعداد موسكو للعب دور إيجابي في مستقبل البلاد أفضل بكثير من التوقف عن قضية تسليم الأسد والتي تشكل إحراجا كبيرا لبوتين الذي منح الأسد حق اللجوء الإنساني.
رغم أن بناء العلاقات الروسية-السورية على أسس جديدة ضرورة ملحة للطرفين، فإن الخشية من ردود الفعل الأميركية والأوروبية تُعدّ أحد أبرز العوائق أمام ذلك
وإضافة إلى القضايا المعلنة، تكشف مشاركة رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية إيغور كوستيكوف في الاجتماعات أن الجانبين بحثا محاربة التنظيمات الإرهابية المتشددة التي تضم أفرادا من روسيا وآسيا الوسطى، وعدم السماح لعناصرها بالعودة إلى بلدانهم الأصلية ونشر أفكارهم أو تجنيد أفراد جدد لتنفيذ أعمال إرهابية داخل روسيا وهو هدف حدده الرئيس بوتين في تبرير التدخل العسكري في 2015 عبر استهداف الإرهابيين في سوريا من أجل عدم انتقال الإرهاب إلى المدن الروسية. ومن جهة أخرى، يمكن للاستخبارات العسكرية الروسية بما لديها من أرشيف ضخم راكمته في سنوات تدخلها في سوريا وعلاقاتها مع ضباط الجيش السوري والقوات الإيرانية لسنوات طويلة على مساعدة الحكم الجديد في دمشق في الحد من تحركات فلول النظام السابق الذين قرروا عدم مغادرة البلاد بعد هروب الأسد. ويمكن أن يلعب التنسيق الاستخباراتي بين الطرفين في إحباط عمليات إرهابية فردية، أو تحركات لقوى ترفض الحكم الجديد، أو تسعى لزعزعة الاستقرار لتبرير عدم رغبتها في الانضمام إلى كيان الدولة الجديدة. ومع انتشار الروس في شمال شرق سوريا، فإن الحكم الجديد بأمسّ الحاجة إلى مساعدة الجيش الروسي في عملية الوساطة مع “قوات سوريا الديمقراطية” وربما لعب دور أكبر من ذلك.
أ ف بصورة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين معلقة في الأعلى، بينما تدخل شاحنات عسكرية روسية قاعدة حميميم العسكرية السورية التي تستأجرها روسيا في محافظة اللاذقية غرب سوريا، 29 ديسمبر 2024
ومعلوم أن آلاف المقاتلين من جمهوريتي الشيشان وداغستان الروسيتين، وبلدان آسيا الوسطى مثل أوزبكستان وطاجيكستان حاربوا في سوريا ضمن جماعات منفصلة، وانضم مئات من مقاتليها ضمن كتائب في “هيئة تحرير الشام”، وظل قسم منهم في تنظيمات صغيرة أكثر تطرفا أو يحاربون في صفوف تنظيم “داعش”. وفي المقابل، زعمت تقارير أن ضباطا تابعين للنظام وموجودين في موسكو نسقوا لتمرد في الساحل ربيع العام الحالي، والذي نتجت عنه الأحداث المؤسفة والانتهاكات الخطيرة.
وإذا كان من المبكر الحكم على ما قد ينتج مستقبلا عن زيارة الشرع، كان لافتا أن الجانبين أبقيا الباب مواربا أمام إدخال تعديلات على الاتفاقيات الموقعة والتي أعلن الشرع التزامه بها، بما ينسجم مع المرحلة الجديدة. وأكد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في مقابلة مع قناة “الإخبارية” السورية، 18 أكتوبر/تشرين الأول الجاري أن “التعامل مع روسيا تمّ بتدرّج، ولم تُوقّع أي اتفاقيات جديدة، فيما تبقى الاتفاقيات الموقعة مع النظام السابق معلّقة، لأننا لا نقبل بها بصيغتها القديمة”. وهو ما يمكن اعتباره أرضية لاختبار حدود الثقة وإعادة تعريف المصالح بين الطرفين ضمن واقع إقليمي ودولي متغيّر.
وفي هذا السياق، أكّد الشيباني في المقابلة مع قناة “الإخبارية” السورية أن “السياسة الخارجية السورية اليوم تنأى عن الاستقطاب والمحاور، وتنتهج الحوار والانفتاح والتعاون المتوازن مع الجميع، مضيفا أن دمشق “تتعامل مع الملف الروسي بعقلانية ورويّة، انطلاقا من مبدأ الحفاظ على السيادة الوطنية وعدم السماح بعودة أي شكل من أشكال التبعية أو الارتهان”.
وتُعبّر تصريحات الشيباني عن مفاهيم مغايرة ترتكز إليها السياسة السورية الجديدة، وتنطلق من الانفتاح المتوازن القائم على البرغماتية بهدف بناء الشراكات مع البلدان الأخرى على أساس المصلحة الوطنية لا الاصطفاف السياسي. إلا أن تحقيق معادلة النأي عن الاستقطاب والمحاور والحوار والتعاون المتوازن مع الجميع، يبدو صعبا في الواقع العملي.
ورغم أن بناء العلاقات الروسية-السورية على أسس جديدة ضرورة ملحة للطرفين، فإن الخشية من ردود الفعل الأميركية والأوروبية تُعدّ أحد أبرز العوائق أمام إعادة بناء العلاقات السورية-الروسية، لا سيما في الجانبين العسكري والاقتصادي.
الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية تخشى من أن تتحول سوريا إلى منفذ خلفي للالتفاف على العقوبات المفروضة على موسكو، خصوصا في قطاعات النفط والغاز والمعادن والمصارف
ففي الجانب العسكري، تجد دمشق نفسها مضطرة للتعاون مع روسيا والصين وتركيا لإعادة بناء قدراتها الدفاعية التي تضررت خلال سنوات الحرب، وأجهزت إسرائيل على معظمها بعد انهيار النظام السابق، في ظل استحالة الاعتماد على الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي في هذا المجال. ومن المستبعد، وجود استعداد لدى الغرب لتزويد سوريا بأي منظومات دفاعية أو تكنولوجيا عسكرية متقدمة، ويربط أي انخراط أمني بشروط سياسية تمسّ جوهر السيادة السورية.
ويعد التوجّه نحو روسيا والصين الخيار المتاح واقعيا، وتمليه حاجات الأمن الوطني واستعادة توازن الردع أكثر مما تمليه التحالفات التقليدية مع ما يستتبع ذلك من حذر في إدارة هذه الشراكات لتفادي إثارة حساسيات الغرب أو تهديد توازنات الاستقرار الإقليمي. وفي هذا الإطار لا يوجد يقين مطلق بأن روسيا تجمع بين الرغبة والقدرة على تزويد سوريا باحتياجاتها العسكرية كاملة على المدى المنظور بسبب الحرب على أوكرانيا.
ويبرز في هذا السياق العامل الإسرائيلي بوصفه أحد أهم محددات الموقف الغربي من إعادة بناء القدرات الدفاعية السورية. إذ تتمسك واشنطن والعواصم الأوروبية، إلى حدّ ما، بـمراعاة المطالب الإسرائيلية فإدارة ترمب اعترفت بضم إسرائيل للجولان السورية المحتلة، وتشترك مع بلدان الاتحاد الأوروبي بالسعي للحد من أي تطوير نوعي للقدرات الصاروخية أو منظومات الدفاع الجوي السورية، ما يجعل أي تعاون سوري مع الولايات المتحدة أو الغرب في المجال العسكري بما يلبي الحاجة السورية شبه مستحيل.
أما في الجانب الاقتصادي، فإن إمكانية اعتماد حكومة الشرع على الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي لإعادة الإعمار واستنهاض الاقتصاد السوري يواجه عقبات بنيوية واضحة، فالانفتاح النسبي الأميركي والغربي على حكومة الشرع ما زال يتسم بالحذر، والعقوبات لم تُرفع بالكامل حتى الآن، والاستثمارات الغربية ما زالت مشروطة بإصلاحات سياسية عميقة يصعب تحقيقها في المدى القريب.
وفي المقابل، لا يمكن المراهنة على روسيا في القضايا الاقتصادية والاستثمارية بسبب العقوبات الغربية. وخلال زيارة الوفد الروسي برئاسة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك إلى دمشق في سبتمبر/أيلول الماضي، عرضت موسكو المشاركة في إعادة إعمار قطاع الطاقة والمجال الإنساني. وبناء على نتائج مباحثات بوتين والشرع الأخيرة، وافقت روسيا على النظر في إمكانية توريد القمح، الأدوية والمواد الغذائية إلى سوريا، والعمل في حقول النفط.
ورغم أن هذه القطاعات غير كافية لتحسين الأوضاع، فإن الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية تخشى من أن تتحول سوريا إلى منفذ خلفي للالتفاف على العقوبات المفروضة على موسكو، خصوصا في قطاعات النفط والغاز والمعادن والمصارف. ومن هذه الزاوية، يبقى أي تقارب اقتصادي أو عسكري بين دمشق وموسكو خاضعا لرقابة دقيقة، لكن تعزيز العلاقات السورية مع روسيا يشجع الصين على ضخ أموال في مشروعات إعادة الإعمار في سوريا والاستثمار في بعض القطاعات.
مجمل التعقيدات السابقة تضع حكومة الشرع أمام معادلة شديدة التعقيد: فهي تسعى إلى تنويع شراكاتها والانفتاح على الجميع، لكنها مضطرة في الوقت ذاته إلى التعامل بواقعية مع موازين القوى الدولية التي لا تمنحها سوى هامش محدود للحركة. ومؤكد أن نجاح دمشق في الحفاظ على هذا التوازن الدقيق بين ضرورات الأمن ومتطلبات السيادة وإعادة الإعمار واستنهاض اقتصادها سيحدّد شكل علاقاتها المستقبلية مع الشرق والغرب، ويكشف إلى أي مدى يمكن للسياسة السورية الجديدة أن تحقّق استقلالها دون عزلة، وانفتاحها دون ارتهان، وهنا تكمن صعوبة تحقيق المعادلة التي تحدث عنها الشيباني.
اجتماع موسكو يمثل بداية فصل جديد في العلاقات السورية-الروسية، عنوانه الضرورة المتبادلة
ومن المؤكد أن زيارة الشرع أصبحت نقطة انطلاق جديدة في العلاقات الروسية-السورية، بناء على مصالح متبادلة. القيادة السورية الجديدة بحاجة لتعزيز شرعيتها، وكذلك حل المشكلات الاقتصادية والأمنية، التي تستطيع موسكو المساهمة في التخفيف منها على الأقل. ومن جهته، تمثل لقاءات بوتين مع الشرع فرصة للحفاظ على ماء الوجه بعد سقوط نظام الأسد، وإظهار أن روسيا لا تزال حاضرة في الشرق الأوسط. ولكن لعب روسيا الأدوار السابقة فيما يخص الحد من اعتداءات إسرائيل المتكررة على الجنوب يبدو مستبعدا، فالوجود الروسي في جنوب سوريا قبل تغيير السلطة في دمشق كان يخدم المصالح الإسرائيلية، والدوريات الروسية كانت مكلفة أساسا بمنع انتشار الجماعات الموالية لإيران في جنوب سوريا. ورغم أن إسرائيل تفضل بقاء قاعدتي حميميم وطرطوس خشية تفرد تركيا بقواعد عسكرية في شمال سوريا، فإن المواقف الأوروبية تربط مساعدة الحكم الجديد بقطع العلاقات مع روسيا، كما أن الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى تقاسم نفوذها الذي اكتسبته مع موسكو، أو أن تملأ روسيا الفراغ في منطقة الجزيرة السورية في حال قررت إدارة ترمب الانسحاب.
رويترزوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني يتصافحان خلال مؤتمر صحفي عقب محادثاتهما في موسكو، روسيا، 31 يوليو 2025
في القسم المفتوح من القمة، قال الشرع: “نسعى إلى استعادة وإعادة تعريف طبيعة هذه العلاقات بطريقة جديدة، بما يضمن استقلال سوريا، وسيادة سوريا، ووحدة وسلامة أراضيها، واستقرارها الأمني”. وأعطى حديث بوتين وتصريحات المسؤولين الروس لاحقا الشرع نظريا كل ما يريد، فقد امتدح بوتين انتخابات مجلس الشعب وأكدت روسيا على رفض الحركات الانفصالية ودعم وحدة وسلامة الأراضي السورية.
وأخيرا، فإن اجتماع موسكو يمثل بداية فصل جديد في العلاقات السورية-الروسية، عنوانه الضرورة المتبادلة. لكن استعادة العلاقة لا يرتبط فقط بطي صفحة الماضي، على صعوبة الأمر، بل يتجاوزه إلى تأثير الواقع الإقليمي والدولي على الأوضاع في سوريا، وحجم الموارد الاستراتيجية التي يمكن أن تحولها روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط في ظل انشغالها بحرب وجودية في أوكرانيا.
- المجلة
























