ملخص
أمام ما يجري من حولنا ثقافياً وأدبياً وجمالياً ولغوياً، يبدو لي بأننا ندخل منطقة أدبية غريبة ومثيرة لأسئلة انقلابية في فلسفة الكتابة السردية نفسها: النص والقارئ والمؤسسة.
يحدث مرات، وبفضول أو بمزاج خاص، أن أتابع من خلال الشاشة بعض عروض الأزياء المقامة في الصالات العالمية الباريسية التي تمثل مرجعية في الفن الراقي للخياطة العالية، وصدقاً في كثير من المرات، إن لم يكن في جميعها تقريباً، أصاب بنوع من الصدمة حيال هذه الأذواق الغريبة الأوروبية والأميركية، وأخيراً العربية، التي تفصل لزبائنها أشياء عجيبة بل ومضحكة في أحيان كثيرة، ومع ذلك يرى المجتمع المخملي في هذه الغرائب المعروضة من السراويل المثقوبة والقمصان الفضفاضة والمعاطف التي تشبه بردعة الحمير والتنانير الممسوخة نموذجاً للفن الراقي؟ وأعتذر فقد أكون من سكان القمر أو أكون كائناً آتياً من أجرام أخرى ضائعة!
أيها السادة، أمشي في الشارع في الجزائر أو تونس أو القاهرة أو دبي أو الرياض أو نواكشوط أو باريس أو لندن أو برلين، هذه المرة ليست شاشة التلفزيون هي التي تتكلم بل الواقع بكل فصاحته التي لا يداخلها شك هي التي تتحدث، وأراقب المارة على الأرصفة وبين السيارات وفي المقاهي والساحات، فتشدني غرابة طريقة تمثل في طرق حلاقة شعر رؤوس الشباب، فالرؤوس تحولت إلى لوحات فنية، قصات الشعر غريبة، فضول الروائي يجعلني أدقق في هذه الأشياء التي قد تبدو هامشية لكنها مركزية، هي خلاصة فلسفة جمالية معينة، على الرؤوس خرائط مرسومة بطرق مثيرة وبألوان بهلوانية، الشباب ذكوراً وإناثاً على حد سواء، حتى المحجبات يقمن بذلك لكنه يظل مخبئاً إلى ساعة ما، ومع ذلك تصنف هذه القصات الغريبة البهلوانية على أنها أعلى درجات سلم الأناقة والإبداع؟ وأعتذر منكم فقد أكون مخلوقاً يحط على التو فوق هذا الكوكب آتياً من خلف السحاب!
أمام هذه الحيرة الفلسفية الجمالية التي تنتابني حيال مشهد عروض الأزياء للخياطة العالية العالمية ومشاهد أنماط حلاقة شعر الرؤوس في شوارع المدن الأوروبية أو العربية، أتساءل ما هي يا ترى مواصفات الجميل وما هي مواصفات القبيح؟
وبإلحاح، ومنذ 10 أعوام تقريباً، يلاحقني هذا السؤال حتى باب الأدب أيضاً، حتى عتبة الرواية بخاصة، فأتساءل يا ترى ما هي مواصفات الرواية الجميلة وما هي مواصفات الرواية الرديئة؟ ما هو الأدب الجميل وما هو الأدب القبيح؟ هذا ليس سؤالاً أخلاقياً أبداً، إنه سؤال فلسفي بالأساس، ومن هذا السؤال تطلع أسئلة حارقة أخرى: هل قيم الجمال حالة ثابتة أم عابرة أم متغيرة؟ هل هذه القيم مرتبطة بجغرافيا أنساق ثقافية معينة؟ هل ما قد يكون جميلاً قد يصبح لاحقاً قبيحاً وما يكون جيداً قد يصبح رديئاً؟ هل طبيعة العمى الجمالي مكون إنساني وطبيعي؟ قد يبدو غريباً سؤالي هذا، لكن سؤالي هذا بدا لي ملحاً وقد لاحظت أن الحال التي أصبحت عليها كتابة الرواية قريبة جداً من حال عروض الأزياء أو فن الحلاقة الغريبة الجديدة، وأمام ما يجري من حولنا ثقافياً وأدبياً وجمالياً ولغوياً يبدو لي بأننا ندخل منطقة أدبية غريبة ومثيرة لأسئلة انقلابية في فلسفة الكتابة السردية نفسها: النص والقارئ والمؤسسة.
أمام هذا نتساءل هل بتنا أدبياً على موعد مع حلول ساعة غروب أدب جماليات تولستوي وتورغينيف وبالزاك ونجيب ومحفوظ وعبدالرحمن منيف وهمنغواي وبروست ويوسف إدريس ورشيد بوجدرة وغابريال غارسيا ماركيز وخورخي بورخيس وماريو فارغاس ليوسا وهاستورياس وحنا مينة والطيب صالح وإحسان عبدالقدوس وكاتب ياسين ومكسيم غوركي وصنع الله إبراهيم وإيميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا وخورخي أمادو وجمال الغيطاني ومحمد شكري وزولا ومولود معمري ومحمود المسعدي وفرانسواز ساغان وبشير خريف وإسماعيل فهد إسماعيل وإبراهيم الكوني والطاهر وطار؟
من هنا تطرح علينا اليوم ظاهرة صعود أدب “لا دارك رومانس La dark romance “، وهو نوع من الأدب ذي الانتشار الواسع في أوروبا وأميركا ويزحف الآن حتى على الأدب الروائي العربي، تطرح علينا، سؤالاً جوهرياً عن معنى ومواصفات الأدب الجيد والأدب الرديء، الرواية الجميلة والرواية القبيحة، وما هي المقاييس التي قد تعتمد في تمييز حدود هذا عن ذاك؟
هل يتحدد الجيد والرديء والجميل والقبيح بعدد القراء؟ هل يتحدد بنخبوية الاستقبال، أي بما يعجب حراس المعبد؟ هل يتحدد بصفاء لغة الرواية؟ بتلوث لغة الرواية؟ بمواضيعها؟ بجرأة الكاتب الروائي؟ بحريته المطلقة في القول الذي يصل حدود العنف؟ هي أسئلة تسكنني وتقلقني باستمرار.
في مرات كثيرة يعتمد القارئ كعامل حاسم في تحديد نجاح نص ما، وشخصياً أعتقد بأن العمل الأدبي الجيد سيجد في نهاية المطاف قارئاً جيداً على رغم ما يمكننا أن نتصوره من حصار أو رقابة مضروبة على الروائي أو على نصه انطلاقاً من أحكام أخلاقية أو سياسية أو دينية أو لغوية أو هوياتية.
إن الرؤية السوسيولوجية للأدب من خلال مسألة الاستقبال، بوصفها عاملاً من عوامل أخرى، تعتبر المحدد للنجاح أو للإخفاق، فعمل أدبي كبير لا بد من أن يكون له جمهور كبير حتى وإن تأخر الوقت، بخاصة أن العالم أصبح اليوم بلا حدود، والتكنولوجيا قربت المسافات والترجمة قربت بين الحضارات وبين القلوب والأذواق.
إن القارئ هو جزء في العملية الأدبية، فحضور القارئ كشريك في العملية الأدبية تحكمه شروط ثقافية واجتماعية وتعليمية معقدة، وحتى إذا ما اعتبرنا قارئ الأدب هو نخبوي، إلا أن النخبوية تختلف من فضاء حضاري وسياسي وثقافي إلى آخر، فالقارئ في الجنوب بما لهذا الجنوب من أعطاب ثقافية وسياسية وتعليمية يختلف عن القارئ في الشمال، وكلما كان التخلف حالاً بارزة في المجتمع بدت القراءة الأدبية نخبوية وبدا الأدب ترفاً فكرياً واجتماعياً أو ما يشبه ذلك، وكلما كان المجتمع متقدماً كان القارئ مواطناً عادياً وكان الأدب جزءاً ضرورياً في اليومي، فإذا كان القارئ مقياساً لتثمين أو تبخيس أدب ما، فأدب “لا دارك رومانس” يحظى بمتابعة مثيرة، إذ تسوق ملايين النسخ من بعض روايات كتاب هذا النوع الأدبي، وقد أصبح يشكل سوقاً ثقافية وازنة، إذ فتحت مكتبات للبيع خاصة بهذا الأدب في فرنسا وألمانيا وأميركا ودول أخرى كثيرة، كل ذلك لأنه تحول إلى ظاهرة استهلاكية ثقافية كبيرة ومثيرة.
لقد غير هذا النوع من الأدب تقاليد القراءة إذ تمكن من مقاومة جاذبية الشاشة وأعاد القارئ، بخاصة من الشباب والمراهقين، إلى الكتاب الورقي، هذه المصالحة مع القراءة الورقية لكتب ضخمة الحجم تعد ظاهرة سوسيو-ثقافية تتطلب منا قراءتها وتفكيكها وتأويلها بما يسمح لنا من إعادة النظر في مفهوم الجميل والقبيح والجيد والرديء والوقوف على تغير الذوق العام والانقلاب في الكتابة نفسها.
وإذا كان مقياس نجاح الأدب في بعض أجزائه يقوم على طبيعة المضامين المطروحة، أي ما يمكن أن نسميه “أفكار الرواية”، تلك الأفكار والمواضيع التي ترتبط بمشكلات العصر وأمراضه، بخاصة ما تتعرض له فئة الشباب والمراهقين من أفكار عنيفة وعنصرية وأخلاقية وجنسية ونفسية ومخدرات، فإننا نعتقد بأن هذا النوع من الأدب أي “لا دارك رومانس” يطرح مثل ذلك وبقوة، بل إن هذه المواضيع هي من صلب انشغالاته، وقد يقول قائل إن طريقة طرح هذه المشكلات فيها كثير من الخلل بل من الانفلات والمسخ والعور، وهو أمر حقيقي، لكن كثيرين من مهاجمي هذا الأدب هم من ذوي الياقات البيضاء، ويقومون بذلك في كثير من المرات من باب الأخلاق والأبوية الأدبية المحافظة.
يتجلى الخلل في أدب “لا دارك رومانس” في طريقة طرح هذه المواضيع الحساسة والساخنة واليومية، إذ إننا نلمس في مقاربتها ما يشبه التحريض على العنف والتقليل من أخطار التحرش والعنصرية والمازوشية والذكورية والجريمة، إلا أن علينا أن نعترف بأن هذه الظواهر المرضية موجودة في حياتنا اليومية في بلدان الشرق كما في بلدان الغرب، وهي أمراض تزكيها وتساعد في نشرها بعض النخب المشتغلة في حقول الدين والسياسة والتربية والإعلام والاقتصاد الاستهلاكي، ومع ذلك يظل هذا الأدب، بغض النظر عن انزلاقاته الأيديولوجية، ميداناً خصباً لدراسات سوسيولوجية وأدبية وسيكولوجية ولغوية تتصل بفئة الشباب والمراهقين، وهم يواجهون توحش العالم الجديد، وإذا اعتبرنا اللغة واستعمالاتها وتوليدها والبحث عن شعريتها في الحياة اليومية وليست في القواميس من مهمات العملية الأدبية المبدعة، فإن رواية “لا دارك رومانس” لا تتردد في الاستعمال الحر للغة العامة بكل قوتها وتلوثها وإبداعيتها وتكسيرها، ومن هنا فشعرية هذا الأدب وجاذبيته القوية التي يفرضها على مجموعة اجتماعية معينة المتمثلة أساساً في الشباب والمراهقين ناتجة أيضاً من هذه الجرأة في الاستثمار الجميل في القبح اللغوي الذي هو ظاهرة سوسيولوجية مكرسة في الخطابات اليومية، إذ إن هذا النوع من الأدب يمثل ما يشبه الثورة ضد أكاديميات اللغة الباردة ومجامعها المحافظة.
نعم، أمام عروض أزياء الخياطة العالية المثيرة حد السخرية والغرابة والتي تنظم في أكبر صالونات باريس ولندن وبرلين ونيويورك، أمام قصات الشعر الغريبة حيث تحولت الرؤوس إلى خرائط وممرات ومهرجانات للألوان، وأمام ظاهرة “لا دارك روامنس” الأدبية الروائية التي زحفت بقوة على سوق الكتاب والقراءة، أمام هذا كله نتساءل ما حدود الجميل وما مواصفاته؟ وما هي حدود القبيح ومواصفات؟ فلقد تداخلت الحدود أيها الناس.
- إندبندنت



























