أوحى التحرّك العسكريّ الذي قامت به قوّات المجلس الانتقاليّ في جنوب اليمن أنّ الأمر جلل قد يستدرج حرباً أهليّة من داخل الحرب التي تقسّم البلاد بين “الشرعيّة” وجماعة الحوثي منذ عام 2015. أوحى الحدث أيضاً، بما هو أخطر، وهو احتمال تمدّد النزاع ليأخذ طابعاً إقليميّاً داخل أطراف من داخل التحالف العربي. غير أنّ ما حدث بعد ذلك أجهض كلّ تلك الإيحاءات، وحشرها في سياق “سوء تفاهم” دراماتيكيّ عمل “الكبار” على احتوائه ومنع شططه وتبريد رؤوس أصحابه الساخنة.
في الثالث من الشهر الجاري، سيطر المجلس الانتقاليّ الجنوبيّ على محافظتَي حضرموت والمهرة ومناطق رئيسة مثل سيئون، حقول نفطيّة مهمّة، منشآت طاقة، القصر الرئاسيّ والمطار الدوليّ. ومع ذلك بدا أنّ اليمن تحت سيطرة مظلّة المملكة السعوديّة قائدة “التحالف العربيّ”. خرج بيان شديد الوضوح من السعوديّة يعتبر الحدث “إجراء أحاديّاً” يهدّد وحدة اليمن. فيما خرج نص إماراتي ملتبس يفيد أنّ موقفها يتماشى مع السعوديّة، وأنّها تدعم الجهود الدوليّة لاستئناف العمليّة السياسيّة في اليمن. راح لاحقاً وفد عسكري مشترك يسعى لرأب الصدع وتدوير الزوايا ومعالجة الموقف.
اوحى التحرّك العسكريّ الذي قامت به قوّات المجلس الانتقاليّ في جنوب اليمن أنّ الأمر جلل قد يستدرج حرباً أهليّة من داخل الحرب التي تقسّم البلاد بين “الشرعيّة” وجماعة الحوثي
قضيّة عادلة
تقول مصادر “الانتقالي” إنّ التحرّك العسكريّ كان ضروريّاً لإخراج ميليشيات كانت تمتهن التهريب، بما في ذلك باتّجاه تنظيم القاعدة والحوثيّين، فيما ترى مصادر الحكومة أنّ الأمر كان يجب أن يتمّ من خلال القوّات الحكوميّة ما دام المجلس جزءاً من الشرعيّة وقوّاتها. لكنّ مصادر مقرّبة من “الانتقالي” ترى أنّ الحراك العسكريّ الحاليّ، الذي يلوّح بدولة الجنوب، هو نتاج محروميّة قديمة لم تصحَّح خلال السنوات الأخيرة، فغابت التنمية، وكان هذا الغياب دافعاً باتّجاه اتّخاذ إجراءات ضروريّة.
لكنّ الحدث يكشف عن “قضيّة” الجنوب وعن سجال لم يتوقّف منذ حرب “الانفصال” صيف عام 1994. ولئن رفضت الرياض تحرّكاً من خارج الأطر الشرعيّة وفرض أمر واقع بالقوّة، إلّا أنّ اللواء محمد القحطاني، رئيس الوفد السعوديّ إلى حضرموت، أقرّ أنّ “قضيّة الجنوب قضيّة عادلة لا يمكن تجاهلها”، وأنّها منصوص عليها في مخرجات الحوار الوطنيّ اليمنيّ، وستظلّ محوريّة في أيّ تسوية سياسيّة مقبلة، مع دعم السعوديّة والإمارات لحلّ سياسيّ شامل في اليمن.
بعد ثلاثة أيّام من التحرّك العسكريّ، أعطى رئيس المجلس الانتقاليّ الجنوبيّ في اليمن عيدروس الزبيدي البعد المباشر للحدث. أعلن أنّ الجنوب “يقف أمام مرحلة مصيريّة ووجوديّة فرضتها معادلات الواقع السياسيّ والعسكريّ”، تاركاً لمخيّلة المراقبين استنتاج ماهيّة تلك “المعادلات” التي دفعت إلى تحرّك في هذا “التوقيت”. ذهب بعيداً في وضوحه، فاعتبر أنّ المرحلة المقبلة ستكون مرحلة عمل مكثّف لبناء مؤسّسات “دولة الجنوب العربيّ”. بدا في كلام الزبيدي حسم يشي بأنّ الحدث قد لا يكون “سوء تفاهم” وحسب.
راج كثير من السيناريوهات في محاولة لتفسير ذلك الاستيلاء الواسع من دون مقاومة ولا هجوم مضادّ. حتّى إنّ أوساط المجلس الانتقاليّ استغربت مغادرة رئيس المجلس الرئاسيّ رشاد العليمي القصر الرئاسيّ في منطقة المعاشيق في عدن باتّجاه الرياض، وكأنّ تحرّك “الانتقاليّ” من عاديّات لا تدعو إلى قلق. تواكَب الحدث مع أنباء سحب السعوديّة قوّاتها بشكل كامل من القصر ومواقع أخرى، بما أوحى بأنّ في الأمر قطيعة ثبت لاحقاً عدم صحّتها.
تقول مصادر “الانتقالي” إنّ التحرّك العسكريّ كان ضروريّاً لإخراج ميليشيات كانت تمتهن التهريب، بما في ذلك باتّجاه تنظيم القاعدة والحوثيّين
يضع الصديق الدبلوماسيّ اليمنيّ مصطفى نعمان النقاط واضحة على الحروف. لطالما كان مرجعاً أعود إليه لفهم تعقيدات الصراع اليمنيّ. يتولّى منصب نائب وزير الخارجيّة في حكومة اليمن الحاليّة بعد تولّيه المنصب ومناصب دبلوماسيّة عديدة في عهد الرئيس الراحل عليّ عبدالله صالح. في مقابلة حديثة معه، خفّف نعمان من سخونة الحدث من دون الاستهانة به، ونفى وصحّح وأوضح كثيراً من “سوء الفهم” لحدث يصعب فهمه.
يؤكّد نعمان أنّ ما ذهب إليه الزبيدي ليس جديداً، وهو من العناوين الرئيسة لمبرّر وجود المجلس الانتقاليّ، ومن السقوف العالية الآيلة إلى انخفاض في أيّ مفاوضات. لكنّ مسألة الجنوب، حسب رأيه، منصوص عليها (كما قال رئيس الوفد السعوديّ) بصفتها شأناً له توقيته ومتّفقاً على تناوله بعد الانتهاء من معركة عسكريّة أو سياسيّة تنهي النزاع مع الحوثيّين، وهو ما يطرح أسئلة بشأن ما استجدّ لكي يبدّل “الانتقاليّ” من سلّم الأولويّات ويندفع نحو النهايات المبكرة.
العودة إلى الوضع الطّبيعيّ؟
بعد خمسة أيّام من عمليّة حضرموت، التقى العليمي في الرياض بدبلوماسيّين من الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا أكّدوا رفضهم لأيّ “إجراءات أحاديّة” تهدّد الوحدة اليمنيّة، ودعوا قوّات المجلس إلى العودة إلى ثكناتها. بدا أنّ ذلك المناخ الدوليّ غير حاضن لفكرة الانفصال في عالم لا يملك ترف رعاية مزيد من التشقّقات في مناطق النزاعات.
ترى مصادر “الانتقاليّ” أنّ “قضيّة” الجنوب تعني العودة إلى الوضع “الطبيعيّ” حين كانت هناك دولتان مستقلّتان معترف بهما في مجلس الأمن
يؤكّد نعمان أنّ الإقليم لا يشجّع على الانفصال، وخصوصاً بهذه الطريقة الأحاديّة، وأنّه لم يسمع طوال سيرته الدبلوماسيّة الكثيفة من أيّ مسؤول سعوديّ أو إماراتيّ أيّ دعم لانفصال الجنوب. وينتهي نعمان إلى يقين بأنّ الانفصال يحتاج إلى اتّفاق يمنيّ واعتراف إقليميّ دوليّ غير متوفّر حاليّاً على الأقلّ.
يبعد نعمان اليمن عن أيّ تفاهمات مقبلة بين واشنطن وطهران، أو حتّى بين إدارة الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب وجماعة الحوثيّ. يلفت إلى أنّ اليمن ليس على لائحة الملفّات التي تهمّ ترامب إلّا من بوّابة أمن إسرائيل. ويؤكّد نعمان أنّ اليمن ملفّ إقليميّ بامتياز، “سعوديّ خليجيّ بالمقام الأوّل”، وأوروبيّ بدرجة ثانية، بسبب ما عانته أوروبا من إقفال البحر الأحمر.
ترى مصادر “الانتقاليّ” أنّ “قضيّة” الجنوب تعني العودة إلى الوضع “الطبيعيّ” حين كانت هناك دولتان مستقلّتان معترف بهما في مجلس الأمن. وتتحدّث مصادر “الانتقاليّ” عن فرصة أخيرة في هذه المرحلة لإعادة هيكلة المجلس الرئاسيّ، دعم مسار التنمية في الجنوب وقيام حكومة بالحسم مع جماعة الحوثي سلماً أو حرباً، متّهمة “حزب الإصلاح” بـ”التخادم” مع هذه الجماعة.
اللافت لمن يتابع المداولات اليمنيّة أنّ فكرة انفصال الجنوب لم تعُد تلقى معارضة يمنيّة كبرى ما دامت خياراً شعبيّاً، وليست خياراً يخصّ جماعة سياسيّة دون غيرها. وربّما هنا بيت القصيد في إشارات نعمان إلى مفاوضات لفضّ أيّ شراكة، على الرغم من إيمانه ضمناً بأنّه طلاق مكروه.
- أساس ميديا























